أجهض الغزو الروسي لأوكرانيا الكثير من التصورات والمفاهيم التي بزغت بعد انتهاء الحرب الباردة والتي تتمحور حول انتهاء عصر الحروب التقليدية العسكرية -بما في ذلك الحروب النووية- لاسيما في أوروبا، نظير تصاعد الحروب الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية أو السيبرانية.
بل إن هذه الحرب قد أعادت رسم مشهد عالمي جيوسياسي شديد التعقيد والخطورة من حيث تبعاته. فعلى سبيل المثال -لا الحصر- أعلن عدد من الدول الأوروبية عن خطط لزيادة ميزانيات التسليح وتطوير جيوشها، كان على رأس هذه الدول ألمانيا التي أعلنت عن برنامج تسليحي سيُعيد قوتها العسكرية كما كانت عليها قبل الحرب العالمية الثانية. ومن التبعات الخطيرة أيضاً، عودة اهتمام الدول وفي مقدمها الولايات المتحدة بإعادة تقييم برامجها النووية وتطويرها.
في ديسمبر الماضي، أصدرت اليابان استراتيجية الأمن والدفاع القومي الجديدة، والتي تعد بمضامينها الجديدة، أحد التبعات الرئيسية والخطيرة للحرب الأوكرانية. تضمنت الاستراتيجية تحوّلات غير مسبوقة في شأن إعادة تسليح اليابان، حيث رصدت نفقات تسليح باهظة تتجاوز الـ300 مليار دولار خلال الأعوام الخمسة المقبلة. وتضمنت مفاهيم هجومية جديدة في شأن أيّ استفزازات أو تهديدات لمصالح اليابان وأمنها القومي.
وبهذا، انفكت اليابان فعلياً عن استراتيجية «الحماية الأميركية» المتبعة منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، انطلاقاً نحو تأسيس قوة عسكرية عالمية كبرى وربما نووية في الأجل المنظور.
لا شك أن مخاوف اليابان من الصين -في المقام الأول- ويأتي في المقام الثاني كوريا الشمالية، تعد البواعث الرئيسية لإعادة تسليح اليابان، وهذا لم تخفه الإستراتيجية الجديدة، حيث ذكّرت الاستراتيجية الصين بالتحدي الاستراتيجي غير المسبوق.
لكن ما هو ملفت، أن التحدي الصيني، كذلك الكوري لليابان، ليس بالجديد. بل إن وتيرة السياسات الصينية العدائية لليابان في بحر الصين الشمالي قد هدأت بعض الشيء خلال العوام القليلة السابقة. والحال نفسه مع كوريا الشمالية التي كفت عن تجاربها النووية والباليستية في شبه الجزيرة الكورية.
إذاً، فالإستراتيجية الجديدة تشي -على نحو كبير- بقراءة يابانية استباقية للمشهد الجيوسياسى العالمي الجديد الذي خلّفته الحرب الأوكرانية، فضلاً عما كشفته هذه الحرب من تداعيات ومتغيرات كبيرة سلبية لليابان.
اليابان، قرأت أن عالم ما بعد كورونا والحرب الأوكرانية، عالم ستسوده صراعات عنيفة مفتوحة الجبهات على الطاقة والسلع الإستراتيجية والمياه كمضامين لصراعات جيوسياسية، وفي خضم تلك الصراعات الأقوى عسكرياً هو مَنْ سيحسم الصراع لصالحه. حيث -وهذا الأخطر- لليابان، لا حليف مضموناً في ظل مطحنة الصراع التي ستطول الجميع، وبذلك، ستجد اليابان نفسها متورطة في صراعات في أكثر من جبهة، وربما مع دول حليفة في السابق.
ربما تيقنت اليابان أيضاً أن الحرب الأوكرانية ستعيد عصر الردع النووي بقوة كبيرة، بل سيكون السلاح النووي مكوناً رئيسياً للصراع الجيوسياسي. وهذا بدوره سيؤدي إلى تسابق نووي خاصة في آسيا. إذ ربما تفكر تايوان أو تايلند في امتلاك السلاح النووي. وأيضا دول أوروبية قد تحذو الحذو نفسه.
ويمكن القول أيضاً، إن اليابان قد يكون لها رؤية اقتصادية في شأن التسليح، لاسيما وأن الإستراتيجية الجديدة قد أكدت على مسألة التطوير العسكري، والشراكات الصناعية العسكرية مع الدول الأخرى. فتطوير اليابان لصناعاتها العسكرية والتي بالطبع ستكون بتكنولوجية يابانية فائقة الجودة، سيجلب للخزانة اليابانية مليارات الدولارات سنوياً في ضوء التوترات الكثيرة المتوقع اندلاعها خلال الفترة الآتية.
ورغم كل ما سبق، كشفت الحرب الأوكرانية لليابان أمراً في غاية الخطورة، وهو عدم مضمونية الاعتماد على الحماية الأميركية على المدى البعيد، وضرورة الاعتماد على الذات. فإزاء عجز إدارة بايدن عن إيقاف الحرب الأوكرانية، أدركت اليابان أن الولايات المتحدة في حالة تراجع عام وغير مستعدة لخوض حروب عسكرية كبيرة طويلة الأمد. علاوة على ذلك، تدرك اليابان منذ حقبة أوباما، أن الولايات المتحدة تتبع إستراتيجيات ضغط ديبلوماسية واقتصادية -نتائجها محدودة- كخيار رئيسي لمواجهة التهديدات الرئيسية في آسيا وخاصة الصعود الصيني وأزمة البرنامج النووي لكوريا الشمالية. وعليه، فإزاء تهديد أو صراع صيني-ياباني في بحر الصين الشمالي على وجه الخصوص فمن المؤكد أن الولايات المتحدة ستتردد كثيراً في اتخاذ قرار عسكري لحماية اليابان. فضلاً عن ذلك، أن روسيا لا تزال تُشكّل تهديداً خطيراً لليابان على خلفية نزاعات بحرية بينهما.
في الختام، إعادة تسليح اليابان تُعد انعكاساً لما بزغ عن الحرب الأوكرانية من مشهد جيوسياسي عالمي شديد الفوضوية، صراعي للغاية، تحالفاته غير مضمونة، تتصدره إعادة الانتشار النووي بقوة، سيجلب تداعيات خطيرة على مستوى التغير المناخي واللاجئين والمياه والطاقة بحيث تؤجج التنافس والصراع الجيوسياسى والعسكري بين الدول.