عياد البطنيجي / الدعم الإيراني لـ «حماس» قصة واقعية تحمل دلالة رمزية

تصغير
تكبير
إن الدعم الإيراني لـ «حماس» ليس هدفه إقلاق إسرائيل وتشكيل نتوء يوخز خاصرتها كالنصل المسنونة، واختراق المجال الحيوي لإسرائيل، فالهدف أعمق وأشمل من ذلك، لاسيما أن «حماس» لا تشكل رافعة لإيران ولا مصدر قوة يمكن أن تتكئ إيران عليها في حال وصل التناقض إلى ذروته مع إسرائيل والولايات المتحدة في ما يخص المسألة النووية، بل إن الدعم الذي تحتاجه إيران أكبر من قدرات «حماس» أو أي تنظيم فلسطيني آخر.

نعم تستطيع «حماس» أن تثير المتاعب والقلاقل لمصلحة إيران، أو تسخين الجبهة الجنوبية ضد إسرائيل، ولكنها لا تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك. وحتى الآن لم يثبت بالفعل إن كانت «حماس» خاضعة للقرار الإيراني أم لا. ليس معنى ذلك انها ليست كذلك، أي تابعة لإيران، بل القصد هنا أن الحكم على مدى خضوع «حماس» لصانع القرار الإيراني لم يحن بعد. فلإيران أهداف استراتيجية كبرى من جراء دعمها لـ «حماس»، أبعد من استعمال الأخيرة كورقة كما يروج. ولإيران دور إقليمي تسعى إليه بما يتواءم مع إمكانياتها وقدراتها كدولة محورية في المنطقة. لذا فهي ترى نفسها تستحق دوراً إقليماً متميزاً، وإن لم يعترف بهذا الدور فستعمل على انتزاعه عنوة.

وعليه، فإن أي دور لأي دولة في منطقة المشرق العربي لابد أن يكون العبور إليه من خلال البوابة الفلسطينية. ودعم إيران لـ«حماس» يهدف إلى الدخول لهذه البوابة التي ستفتح آفاقاً لها في المشرق العربي كون القضية الفلسطينية هي «قضية العرب الأولى». وبالتالي إن الدعم الإيراني لفلسطين من خلال «حماس» ما هو إلا تعبير رمزي ليس إلا. ومن هنا فالدعم الإيراني، كما تريد إيران، لـ «حماس» أصبح رمزاً دالاً على مقاومة المشروع الصهيوني في المنطقة، ورفض الهيمنة الأميركية، والدفاع عن القضية الفلسطينية، والقدس، والشعب الفلسطيني المغبون، ذلك كله له مكانته المقدسة لدى العرب والمسلمين. وبذلك تحصل إيران على المكانة التي ستجنيها من جراء ذلك.

وهكذا فإن الدعم الإيراني لـ «حماس» ما هو إلا تعبير رمزي تريد إيران أن تظهر من خلاله بأنها رمز يدل على القوة والعظمة الإيرانية؛ لأنها تسير بخط مناقض لاتجاه المشروع الصهيوني، وهو أمر مرغوب عند الشعوب العربية. وتريد إيران أيضاً أن تظهر من خلال هذا الدعم أنها حاملة المشروع «النضالي المقاوم والممانع» ضد الوجود الصهيوني والشيطان الأكبر، وحامية حمى القدس والملة، في وقت خذلان النظام العربي، من تقديم أي دعم للمقاومة وتعزيز صمود الفلسطينيين. وتصبح إيران - والحال كذلك - رمز «المقاومة» والصمود في المنطقة، مقابل تراجع واستسلام وتخاذل النظام العربي. ورمز التحدي والقوة، مقابل الرضوخ والضعف، ورمز الجرأة والمبادرة والفعل، مقابل الجبن والبقاء كطرف مفعول به.

وبالتالي تكتسب إيران رصيداً وأهمية في الشارع العربي حين يبدو أنها تتبنى «قضية العرب الأولى» التي تخلت عنها الأنظمة العربية والتفتت إلى قمع شعوبها. في الوقت الذي تبدو فيه طموحات إيران النووية رامية عموماً، لأن تصبح لاعباً رئيساً على الساحة الإقليمية وتتبوأ لقيادة العالم الإسلامي على نطاق أوسع. وهذا ما يفسر ميل الشارع العربي إلى إيران، وهو ميل ليس حباً في إيران بقدر ما هو تأييد لها كتعبير رمزي أيضاً مبعثه الشعور بالغبن في عالم يتجاهل العرب وقضاياهم، في عالم يناصر الأنظمة العربية التسلطية ويغض الطرف عما تفعله بالشعوب التي تتحكم بها، في ظل مجتمعات عربية مكبوتة، مهانة، محتقرة، وأمراض تنخر في أحشائها.

بالتأكيد إن إيران لن تطلق طلقة واحدة من أجل فلسطين، ويبقى دعمها فقط دعماً معنوياً وشعاراتيا. فماذا فعلت إيران لأهل غزة في محنتهم إثر العدوان الإسرائيلي على القطاع، سوى أنها اكتفت بالتنديد والشجب والاستنكار، وعملياً لم تفعل شيئاً، بل جيرت العدوان وما ترتب عليه من نتائج لخدمة مصالحها واستراتيجيتها الشاملة في المنطقة من خلال إضعاف خصومها وإحراج النظم العربية الحاكمة وإظهار نفسها كقوة تدافع عن الحق الفلسطيني، في الوقت الذي يتراجع العرب عن ذلك. وماذا فعلت إيران بالحصار المضروب على غزة، اكتفت فقط بالتنديد بالصمت الذي تلتزمه الدول العربية تجاه الحصار متهمة بعض الرؤساء العرب بالتآمر على غزة مثلما تآمروا على لبنان خلال العدوان الإسرائيلي عام 2006، وشنت هجوماً إعلامياً وديبلوماسياً ضد السعودية ومصر. هكذا جيرت إيران العدوان والحصار لإضعاف خصومها في المنطقة وإظهارهم بمظهر الضعفاء وتعريتهم أمام شعوبهم، من خلال لومها للعرب في تقصيرهم بحق القضية الفلسطينية، وإضعاف النظم العربية والقيادات الحاكمة، وإظهارها بمظهر النظم الراضخة للمشروع الصهيوني، لاكتساب أرضية جديدة وإحراز النقاط في مرمى الحكام العرب. وبالتالي فإيران لم تقدم للفلسطينيين سوى الشعارات والخطابات. إذاً لم يختلف الموقف الإيراني عن نظيره العربي. ولكن الاختلاف فقط في حدة اللغة والخطاب والشعار الذي لامس مشاعر وأحاسيس الجماهير العربية المغبونة... هذا الخطاب استطاع أن يغزو

عقلها سريعاً. وبالفعل وجدت إيران تأييداً لها في الشارع العربي.

والهدف الآخر من الدعم الإيراني لـ «حماس»، هو تجسير الفجوة بين المصلحة القومية الإيرانية وأيديولوجيا الثورة الإسلامية المتجسدة في النظام الحاكم الديني. إن السياسة الخارجية الإيرانية تأسست على ركيزتي المصلحة الوطنية والأيديولوجية الإسلامية داخل إطار الإرث الإمبراطوري التاريخي ضمن أفق للتطلع للعب دور الدولة الإقليمية المهيمنة. والفكرة الرئيسية هنا أن أحد المرتكزات الرئيسية للسياسة الخارجية الإيرانية - كما ينص الدستور الإيراني - هو الدفاع عن المستضعفين والعداء للمستكبرين، والدفاع عن وحدة الأمة الإسلامية. المشكلة هنا أن السياسة لا تعمل ولا تتحرك من منطلقات أخلاقية ومبدئية، فالسياسة هنا هي فن الممكن، وهي تقوم على أساس المصلحة أولاً وقبل كل شيء. وهذا صحيح فجميع الأنظمة تتعامل مع الأحداث والصراعات والخلافات السياسية من منظور المصلحة السياسية، وأن مصالح الأمن هي أكثر ما يحرك الدول، ويستنهض هممها، لذا فإن الدول تهتم أشد الاهتمام بالمحافظة على قواتها وتعزيزها. وبالتطبيق على إيران التي تحاول أن تجمع بين مصلحتها القومية وأيديولوجيتها الإسلامية، نجد في سياستها الخارجية الكثير مما يخالف هذه الرؤية، أي أيديولوجيتها الإسلامية، فالعراق وأفغانستان يمثلان الدليل الناصع على ذلك. لذا تكون فلسطين أو بالأحرى «حماس» والمنظمات الفلسطينية الأخرى، التي تتلقى الدعم الإيراني، حلاً لهذا الإشكال. فمن خلال دعمها لـ«حماس» تؤكد إيران التزامها الأيديولوجي(العقدي) تجاه القضية الفلسطينية، ويشكل ذلك الأنموذج لنشاطها المرتكز على البعد الإسلامي للصراع. وهكذا تثبت إيران أنها ملتزمة بمرجعيتها الدينية في أهم قضية إسلامية ألا وهي القضية الفلسطينية. وبذلك تعطي لنفسها الحق في الاعتراض على كل من يدعي أن ما يحرك سياستها هو مبدأ مصلحي أناني فقط منزوع من أي بعد إسلامي عقدي، فبدعمها لـ«حماس» تثبت إيران العكس.

إن الحكم على تبعية «حماس» لإيران يصعب إثباته بطريقة علمية، لأن المحك أو المعيار العلمي في الحكم على مدى استقلالية «حماس» أو تبعيتها هو تناقض مصلحة الأخيرة مع المصلحة الإيرانية مع بقاء استمرار «حماس» تأدية دور يصب في مصلحة إيران لا مصلحتها هي. وفي الحقيقة، إن هذه المرحلة لم تأت بعد. يمكن أن يقال مثلاً إن «حماس» تعرقل المصالحة الوطنية بقرار إيراني، وهو ما قيل بالفعل. نقول إن هذا لا يعتبر مؤشراً على التبعية؛ لأن «حماس» لا تريد المصالحة في هذا الوقت، أي قبل ضمان الاعتراف الأميركي أولاً والاعتراف العربي ثانياً بها كقوة لها دورها في النظام السياسي الفلسطيني، أي اعتراف الخارج بها كقوة بديلة عن «فتح» و«منظمة التحرير»، وأنها بوابة الدخول إلى القضية الفلسطينية. لذا فإن المصلحة متطابقة وليست متعارضة بين «حماس» وإيران.

ومع ذلك أرى كباحث ومراقب لعلاقة الفصائل الفلسطينية وطريقة تعاملها مع الخارج، خصوصاً مع إيران وسورية، أن بعض هذه الفصائل لا تستند في علاقتها مع الخارج على أساس القوة والندية والاعتزاز بالنفس كونها تحمل قضية مقدسة لدى المسلمين والعرب، أي القضية الفلسطينية، بل تتعامل بضعف وبمستوى متدنٍ من القوة والثقة بالنفس، وهذا قد يكون شرطاً نفسياً لقبول الاستتباع للخارج. ومن مؤشرات ذلك أن بعض القيادات الفلسطينية في مقابلتها لدول كإيران أو سورية كانت تطالب بأن تكون علاقتها عبر وزارة الخارجية لا عبر الأجهزة الأمنية كتعبير عن القوة والندية في العلاقة، ومع رفض هذا المطلب، تقبل هذه القيادات في النهاية أن يكون التنسيق من خلال الأجهزة الأمنية، وهو الشكل الغالب في علاقة هذه القيادات مع هذه الدول. وهذا يدفعنا إلى التشكك والتوجس من تبعية الفصائل الفلسطينية لسورية وإيران رغم عدم ثبوت ذلك بأدلة علمية وموضوعية قاطعة كما بينا سابقاً. ونتمنى بأن نكون مخطئين في ما ذهبنا إليه وألا ينطبق ذلك على علاقة «حماس» بإيران.

وما يدعو إلى الدهشة أيضاً ويضع علامة استفهام على طبيعة هذه العلاقة، هو ما صرح به خالد مشعل خلال زيارته إلى طهران في ديسمبر 2009، «بأن الحركات الإسلامية في المنطقة ستقف جبهة واحدة مع إيران إذا تعرضت إلى هجوم من جانب إسرائيل». ورغم أن مشعل ليس ناطقاً باسم الحركات الإسلامية في المنطقة لكي يحدد ردود أفعالها؛ إلا إذا كان مطلعاً على ذلك وأن هناك تنسيقاً بالفعل بين هذه الحركات وأن لديهم رؤية واضحة تجاه هذه المسألة. والتساؤل هنا: ما طبيعة الدعم الذي يمكن أن تقدمه الحركات الإسلامية لإيران؟ إلا أن هذا ما يدفع إلى التخوف والتشكك في مدى استقلالية «حماس» عن إيران. ومع ذلك نقول إن لحظة الحسم لم تأتِ بعد، ويمكن أن يكون موقف مشعل موقفاً تكتيكياً بغرض الحصول على المال الإيراني ليس أكثر من ذلك.





عياد البطنيجي

كاتب فلسطيني، وهذا المقال يُنشر بالتعاون مع

مشروع «منبر الحرية» www.minbaralhurriyya.org
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي