يقدم الكثيرون الديموقراطية اليوم على أنها هي منتهى التجربة السياسية البشرية، وعلى أنها هي الحالة الأصل للبشر وقد ظهر لفرنسيس فوكوياما، كتاباً بعنوان «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» في صيف عام 1989، كتبه مزهواً بنشوة الانتصار في الحرب الباردة، انتصار قيم الغرب الديموقراطية في السياسة والرأسمالية في الاقتصاد، معلناً نهاية التاريخ ونهاية التطور الفكري في الديموقراطية الليبرالية كصيغة نهائية للحكم، ومبشراً العالم بعصر الديموقراطية (التي ستعمل أميركا على نشرها بطرقها الخاصة).
ولعمري أن هذا لمنتهى العقم الفكري والفشل الفلسفي، لكن فرنسيس فوكوياما، الياباني الأصل، الأميركي الجنسية والليبرالي الهوى، تراجع لاحقاً عن آرائه هذه معترفاً أن الأمر أكثر تعقيداً مما نظر له في كتابه، وأن التجربة الإنسانية والظاهرة الإنسانية تستعصي على مثل تعميمات وحماسات أيديولوجية مثل هذه - ويذكر هنا أن للمفكر المصري الكبير عبدالوهاب المسيري كتاب اسمه «الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ» صدر قبل كتاب فوكوياما.
وهذه الديموقراطية «الليبرالية» (لأن الاشتراكية والفكر الاشتراكي يدعي أيضاً أنه ديموقراطي كذلك، وهذا إشكال عميق يتعلق بموضوع مصطلح الديموقراطية نفسه) لما فيها من العيوب والفجوات ما لا يمكن التغافل عنه.
يعتبر تعريف الديموقراطية نفسها من أكبر الإشكالات التي تواجهها، فالديموقراطية تختلف تعريفاتها باختلاف الأيديولوجيات، إذ تكاد تجمع مختلف الأيديولوجيات على تبنيها الديموقراطية.
لكن واقعها مختلف مع اختلاف الأيديولوجيا، وأنا لا أتحدث هنا عن المعنى الحرفي للكلمة ديموس كراتوس أو حكم الشعب، لكن عن اختلاف الرؤية لهذه الديموقراطية مع اختلاف الناظرين سنرى أن لليبراليين نظرة للديموقراطية تختلف عن نظرة الاشتراكية لها، بل هناك اختلاف داخل الأيديولوجيا الواحدة، وهذا يعود لميوعة المصطلح نفسه، فحكم الشعب معلوم، لكن كيف سيحكم هذا الشعب؟ وما مصداق وفاعلية هذا الحكم؟ وهل يمكن تمثيل الشعب كاملاً فعلاً؟ وهل الأغلبية هي المعيار؟
إشكالية أخرى تعاني منها الديموقراطية هي إشكالية الأحزاب التي تمثل تياراً أو فئة معينة داخل المجتمع ذات توجه معين، من أجل الحصول على أصوات هذه الفئة في الانتخابات، مشجعة بذلك الفرقة والتحزب والتعصب داخل الأمة الواحدة، ومركزة على مصالح الفئة التي تمثلها بعيدة عن المصالح العامة للشعب.
ديموقراطية اللوبيات
من أكثر وأهم وأخطر الانتقادات الموجهة للديموقراطية كذلك ما يتعلق باللوبيات، وقدرة الطبقة الثرية المتنفذة في المجتمع أن تؤثر في القرار السياسي للدولة، خصوصاً في المجالس النيابية بما فيه نفع لها في ما قد يخالف مصلحة المواطنين أو الشعب ككل، والتأثير في القرار السياسي يكون من خلال دعم هذه اللوبيات لمجموعة من المرشحين للمجالس النيابية والسياسيين، مالياً وإعلامياً خلال حملاتهم الانتخابية الباهظة التكاليف، وفي حال فوز المرشح أو السياسي المدعوم يتوجب رد الجميل، وذلك من خلال التصويت بالإيجاب على ما قد يضر الشعب.
وأكثر ما يتجلى دور اللوبيات في الولايات المتحدة، حيث توجد مجموعة من اللوبيات التي تؤثر في صناعة القرار الأميركي، كلوبي السلاح الذي يمثل المجمع الصناعي العسكري الذي يقف حائط صد أمام منع حمل السلاح في الولايات المتحدة رغم آلاف من ضحاياه سنوياً، وكذلك في الترويج لحروبها التي سيكون هو مورد سلاحها، كذلك يعتبر اللوبي الصهيوني من أقوى اللوبيات، وهذا واضح من خلال سياسات أميركا تجاه إسرائيل والدعم غير المشروط الذي تقدمه لها، وإن تعارض هذا الدعم مع مصالح الولايات المتحدة، ومن هنا يتبين أن رغبة الشعب أو الإرادة الشعبية تتحطم وتهمل أمام مصالح اللوبيات.
من يمتلك وسائل الإعلام، يملك طريقاً سهلاً إلى عقول المتلقين، ويملك القدرة على التأثير في أفكارهم وقناعاتهم، من خلال ما ينشره لهم في هذه الوسائل بطرق مباشرة وغير مباشرة.
والشعوب الديموقراطية ليست استثناء من هذا التأثير سواء كان داخليّاً أو خارجيّاً، لكن مواطن الدولة الديموقراطية ينكر هذا وينكر وجود من يؤثر في قناعاته ظانّاً أنها تخصه.
يمكن نقد دعوى الحرية في الغرب ودحضها ودعوى الديموقراطية ودحضها، لكن لا ينبغي الغفلة على أن الغرب قد تمكن بالفعل من تحقيق نوع من الحرية وإن لم تكن كما يدعونها «كون الفرد قادراً أو له الحق أن يفعل ما يشاء شريطة عدم تعارضه وتضييقه على حرية الآخر»، لكن الغرب وصل لمراحل متقدمة بالفعل من المشاركة الشعبية، ومن قدرة الشعوب على فرض إرادتها على السياسيين وعلى الحكومات، عندما سئل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مقابلة له مع إحدى القنوات العالمية عن ما يحبه ويحترمه في أميركا وفي الغرب عموماً، تحدث عن تلك الحرية في التعبير وطرح الجديد التي تطلق العنان للإبداع، وأنها هي التي أوصلت الغرب إلى ما هو عليه الآن وأنها ما يحترمه في الغرب.
ختاماً، فالعقلاء من الغربيين أنفسهم يعتبرون أن الديموقراطية هي الأقل سوءاً بين المذاهب ونظم الحكم المختلفة، ولا يعتبرون سيادتها ضرورة تاريخية ولا سنة كونية، بل هي نظام سياسي كبقية النظم السياسية له مميزاته وعيوبه، فلا يمكن أن نأخذ برأي الأغلبية التي قد لا يكون لها أدنى علاقة بالموضوع وندع المتخصصين والخبراء لمجرد أنها أغلبية.
Twitter: @Fahad_aljabri
Email: Al-jbri@hotmail.com