«تحجيمُ لبنان وَ... تَقزيمه!!»

تصغير
تكبير

في العودة إلى التاريخ، وكم يحلو العودة إليه لأخذ العِبر وبناء المستقبل، مستقبل أيّ أُمّة، نذكر بأن قيام لبنان الكبيرعام 1920 والذي عزّز دور البرجوازية البيروتية من خلال تفعيل دورها في كيان سياسي مُعترف به دوليّاً وفي الوقت نفسه سبّب قلقاً لدى اللبنانيين المسيحيين نتيجة الاختلال السكاني، اذ فقد المسيحيون فيه الأكثرية العددية الحاسمة... برز تيّار سياسي قاده الرئيس الراحل إميل إده، من منطلق أقلوي سعى إلى «تحجيم» لبنان عبر اقتراحات عدة منها ضم طرابلس إلى سورية، وإعلان جنوب لبنان منطقة حكم ذاتي.

ميشال شيحا تبنّى فكرة «التحجيم» لكن من منطلق آخر معوّلاً على صيغة لبنان... كبلد الأقليات الطائفية المتشاركة بهدف تفعيل المصلحة الاقتصادية (فوّاز طرابلسي «صلات بلا وصل»، ميشال شيحا والإيديولوجية اللبنانية - رياض الريّس للكتب 1999).

ما سبق من كلام هو لمناسبة قرب انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الرئيس ميشال عون والذي أتمنى له وافر الصحة والعافية، في ضوء إجماع غالبية اللبنانيين - وهم ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء الولاية الرئاسية اليوم قبل الغد، إيماناً منهم بأن اداء الخلف أيُّ خلف، سيكون في أسوأ الأحوال إن لم يكن أفضل من اداء الرئيس الحالي سيكون أقل سوءاً! (تصريح النائب السابق إيلي الفرزلي، «النهار» 25-7-2022)

فكرة «تحجيم» لبنان، زمن إميل إدّه، صحيح إنها انطلقت من مفهوم أقلوي لكنها هدفت إلى التحجيم الجغرافي ليس إلّا، مع الحرص والسعي على ريادة وتألُّق المولود الجديد.

أما في العهد العوني، فقد شهدنا تحجيماً للبنان وتقزيماً لدوره الأمر الذي طمس ريادته وتألّقه!

في مقابلة صحافية (صحيفة «الأخبار» 2-7-2022)، قال الرئيس تمام سلام أن العهد الحالي هو أسوأ عهد شهده لبنان.

ولقد لفتني عنوان مقال في أحد المواقع الأخبارية «عهد النكبات»!

لا أرى مبالغة في ذلك، فليس هناك من إنجاز وحيد تحقق خلال الولاية العونية، اللهم سوى جسر جلّ الديب، واعتماد الأمم المتحدة أكاديمية الحوار والتلاقي التي اقترحها عون، أمّا سلسلة النكبات فحدّث ولا حرج! نكبات مؤلمة وموجعة لا تُعدّ ولا تُحصى أدّت إلى تحجيم لبنان وتقزيمه.

تُرى، ألا تكفي الانهيارات الكارثية على مختلف الصعد والتي تمثلت وتجسّدت بطوابير الذل والهوان... طوابير الدواء، والبنزين والمياه والمصارف والاهيار المالي والنقدي... وأخيراً طوابير الخبز!

وللذين يلومون السوريين في أزمة الخبر، فهذا صحيح بحكم تواجدهم في لبنان، ولكن الأجدى لهم، لوم من هجّرهم من بلدة القصير وغيرها بدعم الميليشيات الإيرانية وتدمير بيوتهم وحرق حقولهم في محاولة تطهير مذهبي أقل ما توصف بـ «البشعة والتي تتنافى مع روح الإسلام».

وقد استرعى انتباهي تصريح ناري للنائب السابق الشيخ بطرس حرب جاء فيه، «أن عون خطط لأن يتولّى السلطة في لبنان مهما كان الثمن حتّى لو دُمّر البلد، وهذا ما يُذكّر إلى حد بعيد بالحركة النازية لهتلر والذي لم يصل إلى السلطة بانقلاب عسكري بل بمخاطبة الشعب الألماني بشعارات جذّابة دفعت أكتريّته إلى تأييده فكانت تدمير ألمانيا. كان لي الشرف بأنني لم أنتخب عون فأنني كنت اعرف مدى خطورته على لبنان الذي أوصله هو إلى جهنّم كما قال من قبل بلسانه.

وصل إلى «السلطة» بأساليب ملتوية بعد أن عجز عن إقناع السوريين بأن يتبنّوه فخاض حرب التحرير ضدهم وحاول القيام بانقلاب عسكري عندما تمرّد على السلطة». (صحيفة «الأنباء» الكويتية الأحد 22-7-2022).

وهنالك من يعتقد أنه لم يكن من المُنتظَر توقُّع أداء سياسي مُميّز للعهد الحالي، في ضوء السلوك السياسي للعماد عون عام 1989.

تأكيداً على تصريح حرب، ففي 21 سبتمبر 2020 بشّرنا الرئيس عون بأننا ذاهبون إلى جهنّم.

والحق، فالطريق إلى جهنم كانت مُعبّدة منذ توليه الرئاسة عام 2016 بغياب أي عزم وخطط للإصلاح في كل القطاعات.

ثم أنّ من الصعب جدّاً ان ننسى جوابه ردّاً على سؤال، «اللي ما عاجبو يفل» (12-11-2020)، مُضيفاً «اذا مش عاجبين ولا حدا آدمي بالسلطة يهاجرو!».

بعد ما يقارب العامين ونصف العام من فراغ كرسي الرئاسة لا بل من التعطيل بسعي من «حزب الله» والتيار العوني، وصل العماد عون إلى سُدّة الرئاسة.

كان من المتوقّع من أي عاقل، مُتبصّر، رؤيوي، أن يبادر بعد تلك الفترة من التعطيل ومنذ الأسابيع الأولى لتسلّمه الحكم، لإرساء قواعد الحوكمة بكل ما للكلمة من معنى، ومحاربة الفساد فعلاً لا قولاً، السعي لوضع ما يلزم من خططٍ استباقية لعدم الوصول إلى ما وصلنا إليه في كل القطاعات خصوصاً في الشأن المالي والنقدي.

والأهم من ذلك تعزيز الوحدة الوطنية بدلاً من العزف من خلال صهره جبران باسيل على الأوتار الطائفية، كالمطالبة بحقوق المسيحيين، والتي كما جاء في تصريح باسيل العام الماضي وضعها بين أيدي الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله.

ولقد فُوجئتُ بما جاء في خطاب عون في عيد الجيش في الأول من أغسطس «أنه ينتظر رئيساً جديداً ليواصل مسيرة الإصلاح الشاقة التي بدأناها»، وكأنه يفترض أن عهده بدأ بالإصلاح.

صحيح أن عهوداً رئاسية سابقة شهدت فساداً في قضية ما أو أخرى، لكنّ ما يلاحظ أنّه لم يُبذل - خلال العهد العوني - أي جهد حقيقي لدحر الفساد ولجمه.

بل أصبحنا أمام حكم أشبه بحكم الغنيمة. فأركان المنظومة الحاكمة، على اختلاف مشاريعهم، يتقاسمون وينهشون من الغنيمة، من دون رادع.

- تسلم عون سُدّة الرئاسة باسم الاصلاح والتغيير، لكن بإجماع العقلاء والبسطاء من الناس فإن أحداً لم يلحظ لا تغييراً ولا إصلاحاً بل العكس تماماً الأمر الذي أدّى إلى تحجيم لبنان وتقزيمه.

في هذا الصدد بالإمكان رصد محطّات عدة منها على سبيل المثال لا الحصر:

1 - اعتمادُه، كما يُجمِعُ المراقبون، على تحالف الأقليّات بدلاً من العمل على تعزيز الوحدة الوطنية فعلاً وليس قولاً. من هنا تناغمه مع طهران والنظام السوري بعد عودته من المنفى الباريسي.

الواضح أن نظريّة تحالف الأقليّات تشكّل طعنةً لمفهوم الوحدة الوطنية.

ويبدو أنه كان من الضروري خلق عدو ما كي تُبنى الهوية بالضرورة ضد العدو الآخر، فالعدو إذن هو الآخر وهو يشكل الشر والتهديد ولا يمكن فصله عن الحياة.

من هنا تكرار الكلام حول استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية من خلال تعديل اتفاق الطائف، علماً وكما يقول العلاّمة الفرنسي ليون دوغي، أن المشكلة ليست في النصوص بل في النفوس.

يقول دوغي «ليس للقانون الدستوري من ضابط سوى حسن نية الرجال الذين يطبّقونه وأخصهم رئيس الجمهورية».

ولعلّه من الضروري تذكير عون أنه لو عمل عام 1989 على انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس أمين جميل، لما كان هناك اتفاق الطائف ولا من يحزنون!

يلحظ المرء تخبّطاً في التوجه الرئاسي للرئيس عون، فساعةً يُطالب باسترجاع صلاحياته، ويقول في قضايا أخرى أنها ليست من صلاحياته... فعلى سبيل المثال لا الحصر، لاحظ المراقبون تدخُّله في تأليف الحكومات، علماً أن الدستور الحالي يوضح أن تأليف الحكومة هو من صلاحيات رئيس الحكومة، وعليه أن يقدّم تشكيلته إلى رئيس الجمهورية الذي قد يطلب تغيير اسم او اسمين، لكنه لا يشارك في التأليف.

لذلك عمد الرئيس عون إلى تعطيل تشكيل الحكومات بحجج واهية. وبحسب دراسة الدولية للمعلومات، فان تشكيل الحكومات - قبل التكليف الأخير للرئيس نجيب ميقاتي- استغرقت 32 في المئة من عهد عون.

2 - تعكير علاقات لبنان مع الدول العربية علماً أن قوة لبنان من قوة العرب... فقد تعرّضت العلاقات اللبنانية - العربية لأكثر من انتكاسة نتيجة انتهاج سياسات غير مؤاتية لمصلحة لبنان واللبنانيين.

ودفع اللبنانيون ثمن غالياً للتماهي مع توجُّه طهران عبر «حزب الله» ثمناً لوصوله إلى سُدَّة الرئاسة.

3 - تسييس القضاء وإبقاء التشكيلات القضائية حبيسة الأدراج منذ أكثر من عامين والسعي الدؤوب لتكريس وتعزيز مصالح ذوي القربى وعلى الأخص وزير الطاقة الأبدي جبران باسيل على حساب المصلحة العليا... اذا كان بالفعل الرئيس عون حريصاً على الاصلاح والتغيير، فلماذا لم يحرص على تأليف الهيئة الوطنية الناظمة للكهرباء؟

أصبح الحديث مملّاً عن الهدر الكبير الذي قارب الأربعين مليار دولار حين تولى باسيل وزارة الطاقة بالإصالة أو بالإنابة.

أضِف إلى ما سبق سعيه لتوريث باسيل سُدّة الرئاسة فهل يُعقَل ذلك ونحن في القرن الحادي والعشرين؟

لقد حفظ الناس عن ظهر قلب أن حصيلة الهدر في قطاع الطاقة بلغت 40 ملياردولار. ولو عمل عون على لجمه منذ 6 سنوات، لما كان حجم الكارثة المالية والنقدية بهذا الحجم.

وبما أن الشيء بالشيء يُذكَر، تجدر الإثارة إلى استمرار العراق في استرداد الغاز الإيراني رغم أن احتياطه من الغاز أكبر من احتياط استراليا!

حجم الفساد في العراق يقدر منذ 2003 بتريليون دولار!

الهدر في قطاع الطاقة عندنا 40 مليار دولار، ما يعني أن من الصعب على اللاعبين المحليين هضمه... ترى هل من شريك خارجي كما الحال في العراق؟

4 - منذ الاستقلال - وباستثناء عهد الراحل الكبير الرئيس اللواء فؤاد شهاب، وعهد تلميذه الروحي الياس سركيس، دَرَجَ كل رؤساء الجمهورية عند انتهاء ولايتهم على منح الجنسية اللبنانية لبعض المحظوظين... كان ولا يزال من المفترض أن تمنح الجنسية على اساس الكفاءة وما يمكن للمجنّس أن يقدمه من قيمة مُضافة إلى بلاد الأرز، لكن لم تكن تلك القاعدة بل كان هنالك وراء الأكمة ما وراءها.

إذا كان من المُتبع أن تمنح الجنسية في نهاية العهود الرئاسية، فقد فوجئنا بمنحها لـ 396 شخصاً أغلبهم من السوريين الأثرياء المقربين من نظام بشار الأسد، في منتصف العهد الرئاسي عام 2018، تُرى ما ثمن ذلك؟

5 - ما لم يُقدم عليه أي رئيس سابق أقدم عليه عون حين أصدر في ديسمبر عام 2019 مرسوماً قضى بالعفو عن رنا بروس معوّض، والتي أدانتها محكمة الجنايات بتهمة تسهيل وترويج مادة الكوكايين، إضافة إلى مرسوم آخر بالعفو عن روجيه عقل بعد إدانته بجرم الذم.

صحيح أن الدستور يمنح صلاحيات العفو لرئيس الجمهورية، لأسباب جوهرية. لكن الأصح أن مرسوم العفو ما كان ليصدر لولا أن محامي معوض هو زياد بويز الوكيل القانوني لباسيل، والآخر نادر لحود الذي يعمل لدى مكتب سليم جريصاتي.

6 - كارثة الكوارث انفجار مرفأ بيروت، وهو أكبر انفجار غير نووي شهده العالم.

كان من المُفترض برئيس الجمهورية أن يُوعِز من دون أي تلكُّؤ ويُصرّ بوضع الأمور في نصابها والمضي في التحقيق لمعرفة من أتى بنيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، علماً أنه بحسب ما قرأنا فإن أمن الدولة سبق ورفع تقريراً إلى المعنيين وعلى رأسهم رئيس الجمهورية أفادهم فيه بوجود النيترات ولكن أحداً لم يأخذ الإجراءات اللازمة تجنُّباً للانفجار.

لا نزال نذكر تصريح عون حين قال أنه علم متأخراً بوجود النيترات في مرفأ بيروت «trop tard». أخيراً وفي ضوء التشكيك بالمضي في التحقيق، تجدر الإشارة إلى أن 11 منظمة حقوقية دعت مجلس حقوق الإنسان لإصدار قرار يقضي بإنشاء بعثة لتقصّي الحقائق ما يعني أن لا ثقة إطلاقاً بمجريات التحقيق الحالي والذي يشهد مزيداً من العراقيل.

وإذا كان ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، سيبصر النور قبيل نهاية عهد عون ليُعدّ إنجازاً يُذكَر، فالثابت انه كان من المفترض ان يتم ذلك قبل فترة طويلة، لكن في غياب الإرادة والإدارة الصالحة وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

وهنالك من يقول إن النقاش اليوم أصبح محصوراً فقط بحقل قانا، علماً أن أحد لا يضمن وجود غاز فيه، بينما كانت لبنان فرصة أن يفاوض أيضاً على حقل كاريش، وهو حقل مُكتَشَف وحقيقي وليس مثل «قانا» غير الموجود!

كان بالإمكان إنهاء الموضوع، منذ سنوات، من خلال المفاوضات، لكنّ غياب القرار والمرجعية أدّى إلى تأجيل الحسم سنوات. وهناك إجماع لدى المراقبين بأن تهويل طهران- من خلال «حزب الله» باللجوء إلى المدافع (!!) يهدف إلى تعزيز موقعها في التفاوض مع واشنطن في ما خص النووي.

والسؤال هو: اذا صَحَّت حُجة طهران أن تهديدها باللجوء إلى القوة، أفضى بالحصول على الغاز - او وجد - فهل ستطلب المشاركة في تقاسم عوائد الغاز؟

وبما أن الشيء بالشيء يُذكَر، فإذا سلَّمنا جدلاً بحصولنا على الغاز وتَبِعَ ذلك تسوية قضيّة مزارع شبعا علماً أن بشار الأسد أكَّد للمبعوث الأميركي فريدرك هوف، كما جاء في مذكَّراته، أن مزارع شبعا هي سورية... فهل سيستمر «حزب الله» بالاحتفاظ بسلاحه؟

يحضرني قول فريدريش نيتشه «إنّ من يحيا على محاربة عدوه، من مصلحته أن يدعه يعيش...»!

لا عجب أن يُعمل على تحجيم وتقزيم لبنان... بغياب عملاق كالراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب.

هو، الذي بإخلاصه، وحوكمته، ووطنيته، وتمرّده، ورفعة خلقه، استطاع أن ينهض بلبنان بعد أحداث 1958، ونجح في استقراره وتألّقه ورفع مكانة بلاد الأرز.

ويا سيدي الرئيس: لمناسبة قرب انتخاب رئيس للجمهورية، ينطبق عليك ما قاله أبو تمام:

هيهاتَ لا يأتي الزمان بمثلك

إن الزمان بمثلك... لبخيل!

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي