No Script

كلمة صدق

في سراييفو... جَمال البوسنة وقُبح الفتنة

تصغير
تكبير

تنتقل وتنعكس صور الطبيعة على عدسة عينك وأنت تغادر في رحلة عائلية عاصمة البوسنة سراييفو الصامدة، متوجهاً نحو عاصمة الهرسك التاريخية موستار، ويجول بصرك في الطريق الطبيعة الخلّابة والساحرة لجبال الهرسك وأنهارها وبُحيراتها مع الحديث الوادع لسائق التاكسي، وتنتقل معها في ذهنك صور ذكريات ما تناقلته وسائل الإعلام من تقارير صحافية وصور من فجائع حرب البوسنة والهرسك.

تمر في مناطق وقرى وأنت في جنان الطبيعة الخلابة كأنك حالم أنك في جنان الخلد، يخدش الحلم حديث سائق التاكسي الشاب نديم، صاحب شهادة الماجستير ببشرته الأوروبية البيضاء وابتسامته التي يكسوها حزن قديم، فكلما مرّ من قرية أو ناحية تغيّر لون وجهه وهو يذكر مأساة أو مجزرة وقعت في هذه القرى والمناطق والسفوح الخضراء، يزداد حزن السائق وهو يتذكّر أن أباه تركه وأخته وأمه وقد استشهد دون الثلاثين من العمر وهو كان صغيراً لم يبلغ التاسعة من عمره.

الزيارة للبوسنة كانت فسحة وسياحة كبيرة لا تفوت السائح، لكنها للعاقل يجب أن تكون درساً بأن الجمال والنعم الكبيرة معرّضة بشكل كبير لقباحة الفتن.

البوسنة والهرسك وبشكل عام يوغوسلافيا السابقة تذكر بأن الفتن والتناحر يحوّلان بلداً كبيراً مثل يوغوسلافيا إلى بلدان مفكّكة وأراضٍ ممزّقة، ويحوّلان مُروجها الزاهية وحقولها اليانعة إلى محطات للمآتم والمقابر الجماعية.

ليس هناك في الحروب الأهلية من رابح... الكل خسران، لا يربح الأهل وأبناء الجلد الواحد والوطن الواحد عندما يتقاتلون.

لقد فرح الصرب لزمن بأنهم أثخنوا بالجراح البوسنيين إخوتهم في العِرق والأرض وإن اختلفت الديانات. مئات الآلاف من الشباب البوسني والشيوخ والنساء والأطفال قتلوا، مئات الآلاف من النساء البوسنيات وقعن ضحايا معسكرات اغتصاب بطريقة همجية أمام أعين العالم وسط أوروبا، في أواخر القرن العشرين.

لكن ورغم نجاحات ميليشيات الصرب في الأرض وفي الدم وعلى الأعراض، إلا أنهم خسروا أيضاً، فقد قتلوا إخوتهم في الأرض، وباءوا بسوء السمعة ولعنات التاريخ وآثام الأفعال وتأنيب الضمير والشعور بالذنب الذي يطارد أصحاب الفتن.

البوسنة عِبرة للجميع بأن يبتعدوا عن الفتنة والحرص على العلاقات الأُخوية مع أبناء الوطن، والحرص على عدم صدور ما يكّدر تآلف العيش في البلد الواحد وبين أبناء الشعب الواحد، على المجتمع أن يلفظ كل من يدعو للفتنة، على الدولة ألا تسمح بأن يشعل أحد نيران الفتن بسبب جهله أو حقده أو عقده، فهناك أناس جهلة وهناك أناس أصحاب عُقد نفسية لا يستطيعون أن يروا شعباً يعيش بخير ويتمتع بخيراته وثرواته.

هي ليست دعوة لوأد الكلمة ولا لدفن الأقلام، لكنها دعوة للوعي وللتفريق بين التعبير وحرية التعبير وبين خطابات الكراهية وخطابات الإثارة، وهي وإن كانت لأهداف تكسبية أحياناً إلا أنها لعب بالنار، والنار ليست للعب، لأنها تحرق، وليس مسموحاً بأن يعرض أحد بسلامة الوطن والشعب.

نعم، هذا كلام عام في التفريق بين خطاب الرأي وخطاب الكراهية والتحريض، يبقى بأنه يجب أن تكون هناك حلقات تضعها الدولة وكل المعنيين، لوضع ضوابط للخطاب مع مراعاة المجتمع الكويتي، ومراعاة مكانة الكويت كمنبر للكلمة الحرة والتعبير، نعم وضع ضوابط بطريقة لا تكتم الأفواه ولا تكبّل الأقلام، ولكن تكبّل أبالسة الفتن، وللجميع عِبرة من جَمال البوسنة وقُبح فتنتها.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي