يلهون بـ «فقاعة» الصيف وأمامهم خريف «مُخيف»

... هكذا يقفز اللبنانيون فوق أوجاعهم

إهراءات القمح في مرفأ بيروت المُدمّر مهددة بالانهيار بعد مرور نحو عامين على الانفجار الكبير (شينخوا)
إهراءات القمح في مرفأ بيروت المُدمّر مهددة بالانهيار بعد مرور نحو عامين على الانفجار الكبير (شينخوا)
تصغير
تكبير

منذ ان اندلعت الانتفاضة الشعبية في 17 أكتوبر عام 2019، والوضع الاجتماعي والاقتصادي والمالي يزداد تدهوراً.

سبق للبنك الدولي أن صنّف ما يحل بلبنان بين ثلاث أسوأ أزمات دولية منذ 1850، لكن الجديد أن الوطن الصغير وُضع أخيراً في المرتبة 242 من أصل 248 دولة في تصنيف أسوأ حياة يعيشها الأفراد.

قد لا يحتاج اللبنانيون إلى دراسات دولية تفنّد أوضاعَهم الاقتصادية وتدهور حياتهم اليومية في الخدمات الحياتية والصحية. وتكفي مقارنة رواتب اللبنانيين وهم في غالبيتهم من موظفي القطاع العام والقوى الأمنية والعسكرية، التي تراوح بين 60 دولاراً و200 دولار شهرياً للفرد، بعدما كانت تراوح بين ألف و3 الآف دولار، في مقابل ارتفاع سعر صفيحة البنزين من دولارين إلى 23 دولاراً وارتفاع فاتورة المولد الكهربائي من نحو 60 ألف ليرة إلى ما يراوح بين مليونين و6 ملايين ليرة وسطياً، لرصد حالة التدهور الاجتماعي حتى اقتراب اللبنانيين في غالبيتهم من الفقر.

يقول البنك الدولي إن «ثلاثة وخمسين في المئة من اللبنانيين كانوا فقراء قبل الأزمة» فكيف الحال اليوم، بعد انعدام خدمات الاستشفاء وتوقف غالبية المؤسسات الضامنة عن تغطية أكلاف الاستشفاء، والأدوية والكهرباء والارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية.

كل يوم، يمكن رصد حالات فقر في تفتيش اللبنانيين عن لقمة عيشهم، والمؤسسات الاجتماعية الإنسانية لديها سجلّ حافل بروايات عن العائلات التي اضطرتها ظروفها المعيشية للجوء إلى مستوصفات مجانية ومطاعم تؤمنها الجمعيات لتناول وجبة طعام يومية.

لكن رغم كل هذه المَشاهد المأسوية، لا يمكن إلا التوقف عند حالة نافرة في تأقلم اللبنانيين مع انعدام الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وهو أمر لم يكن متوقَّعاً نظراً إلى ما حصل في 17 أكتوبر بعد فرض ضريبة على «واتس آب»، وبمقارنة مع حياة الترف التي عاشها اللبنانيون لا سيما الطبقة الوسطى منذ آخر انهيارٍ للعملة اللبنانية بين الثمانينات والتسعينات.

قبل أيام، جرى تداول صورة «بيك آب» مخصص لنقل الخضر، على متنه مجموعة من العسكريين وجدوا فيه وسيلة نقل مجانية.

هذه الصورة وحدها تعبّر عن مدى تكيُّف اللبنانيين مع واقعهم المستجدّ، لأن المؤسسات الأمنية كانت متشدّدة إلى الحد الأقصى في إطلالة عسكرييها وعناصرها، وتسعى إلى تأمين باصات لنقلهم، بعد تدنى رواتبهم وانتفاء قدرة العنصر الأمني على استخدام سيارته للوصول إلى مركز عمله.

منذ أن اندلعت الأزمة، كانت المخاوف الأمنية من ارتداد حالة الفقر وعدم تلبية المصارف لزبائنها، وانزلاقها إلى أعمال شغب في الشارع.

لكن ما حصل فعلياً لم يتعدّ حوادث متفرقة في بعض المصارف لم تصل إلى حالة الفوضى التي كانت متوقَّعة.

مع انهيار سعر الليرة، أكثر فأكثر، اتخذت القوى الأمنية تدابير احترازية خوفاً من الفوضى، لكن الانهيار لم يقابله المستوى نفسه من ردات الفعل الغاضبة ما عدا تلك التي تحفل بها مواقع التواصل الاجتماعي.

حصلت أزمة المحروقات فوقف اللبنانيون في طوابير إذلال لساعات، ولم يقوموا بأي رد فعل على قفل المحطات ورفع خراطيمها أو ارتفاع سعر الصفيحة بعد رفع الدعم عنها.

... إنهم اللبنانيون أنفسهم الذين تعوّدوا خلال الحرب، استخدام بطاريات سيارتهم لإضاءة منازلهم بالحد الأدنى في غياب الكهرباء ومنها راجت عملية شراء المولّدات وتحولت تجارة مربحة على مدى أعوام حتى أصبحت مرادفة لمؤسسة كهرباء لبنان، وصار اللبنانيون لا يستطيعون الاستغناء عنها.

وهذا نموذج من الحياة الرديفة التي عاشها اللبنانيون، ويعيشونها اليوم وبدأوا يتأقلمون معها.

ولو أن هذا الواقع يفرض إيقاعاً ثقيلاً على الحياة اليومية.

فحين يقول وزير الاتصالات انه طُلب منه عدم رفع تعرفة الاتصالات إلا بعد الانتخابات، كان يعبّر عن خشية السلطة من قيام المواطنين برد فعل في صندوق الإقتراع.

إلا أن اللبنانيين الذين فوجئوا بعدما وصلتْهم فواتير الاتصالات الخلوية المرتفعة بعد أقل من شهر على انتهاء الانتخابات، أخذوا في التحايل عليها عن طريق تخفيف بعض الخدمات الهاتفية والقبول برزم أقل فائدة وتخفيف سعة الإنترنت.

لكن أحداً لم يعمد إلى وقف هاتفه الخليوي احتجاجاً.

الأمر نفسه يحصل مع فاتورة المولد الكهربائي التي ارتفعت عشوائياً، فلجأ اللبنانيون إلى تركيب ألواح الطاقة الشمسية لتخفيف قيمة فواتيرهم.

لكن تركيبها ليس أمراً سهلاً، لأن أسعارها بالدولار الأميركي ولا تقل في الحد الأدنى عن مبلغ يراوح بين 3 آلاف و8 آلاف دولار. فكيف يمكن في وضع اقتصادي مزرٍ رؤية مشهد سطوح لبنان وقد امتلأت بألواح الإنارة الشمسية، ناهيك عن انتشار محال تجارية لبيع هذه البضاعة؟

حتى موضوع البنزين، وجد اللبنانيون له حلولاً موقتة، فبدأ موظفون أو عمال يؤمنون تنقلاتهم جماعياً في سيارات نقل خاصة بدل استخدام سيارتهم افرادياً فيما تَضاعف أعداد محال التجزئة في شكل واسع.

وتحوّل هذا التأقلم مع الواقع الحياتي المستجد، والذي مازال يجعل اللبناني بعيداً عن أي رد فعل في الشارع، مثار حيرةٍ لأهل الاختصاص من اقتصاديين وباحثين اجتماعيين يحاولون تفسير «سيكولوجيا» الانهيار الذي يمضي معه لبنان في حصْد المزيد من الأرقام «السود» في المؤشرات المالية والاقتصادية والمعيشية وتَصَدُّر لوائح... الأسوأ.

باحث اجتماعي: يأسٌ من التغيير

يقول أحد الباحثين الاجتماعيين إن ما شهده لبنان في فترة زمنية قصيرة كان يفترض أن يعيد الناس إلى الشارع، لكن ما حصل العكس، وأحد أسباب هذا القنوع بالواقع يتمثل في اليأس السياسي من احتمالات التغيير الفعلي، ولا سيما بعد أعمال الشغب وضرب المتظاهرين واستهدافهم في عيونهم وأجسادهم، الأمر الذي أدى إلى انكفاء اللبنانيين عن أي رد فعل، وتالياً التأقلم مع الواقع الجديد من دون أي محاولة جدية لتغييره.

علماً ان الشباب اللبناني الذي كان وقود الثورة، إما هاجَرَ وإما انكفأ وإما عاد إلى أحزابه وإما يفتش عن باب رزق عبر قوارب الهجرة والموت.

خبير اقتصادي: القرش الأبيض في اليوم الأسود

كشف أحد الخبراء الاقتصاديين أن اللبنانيين بدأوا خلال الفترة القصيرة الماضية يسحبون جزءاً من مدخراتهم أو يستخدمون تلك الموجودة في المنازل وكانوا سحبوها سابقاً واعتبروها «قرشهم الأبيض»، وذلك من أجل تسيير أمورهم في الأيام السود.

وبحسب الخبير، فإن هذا يَظهر من الحركة التجارية اليومية لا سيما في السوبرماركت.

علماً ان جزءاً لم تُقَدَّر بعد نسبتُه الحقيقية، بدأ يتقاضى راتبه بالدولار، وأضيف هؤلاء إلى طبقةٍ كانت أساساً ثرية ومازالت تتصرف وكأن شيئاً لم يكن.

الشريان الخفي... و«أعجوبة» الصمود

ساهم المغتربون اللبنانيون ولا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020 في مدّ اللبنانيين بالمساعدات التي تطورت بعد انهيار سعر الليرة لتصبح نقدية، الأمر الذي ترافق مع ارتفاع سعر الدولار، ما أتاح تغذية العائلات بكتلة نقدية من الدولار أعادت بعض التوازن إلى العائلات بعد خسائر الأشهر السابقة.

وهذا ما يفسّر الحملة السياحية التي أطلقها لبنان للترحيب بالمغتربين الذين لطالما شكّلوا «الشريان الخفي» في «أعجوبة» الصمود اللبناني والذين بدا أن شعار «أهلا بهالطلة» كان يستهدفهم بالدرجة الأولى.

والواقع ان أصحاب المطاعم والمؤسسات الفندقية وشركات تأجير السيارات وجدت ضالتها في هذا الموسم السياحي، رغم ان السياحة تتعلق بغير اللبنانيين فيما ان غالبية المسافرين إلى بيروت هم من المنتشرين العائدين إلى عائلاتهم.

ويكفي رؤية المشهد اليومي في مطاعم بيروت وشواطىء لبنان والشقق الفندقية وبلدات الأصطياف لمعرفة ان الموسم اللبناني المغترب يضخ في لبنان كتلة نقدية مهمة، تجعل أصحاب المؤسسات والعاملين فيها وكل من يستفيد من هذا القطاع قادراً على تأمين مردود يكفيه للأشهر المقبلة.

هذا جزء أساسي من التوازن المالي الذي يجعل اللبنانيين يتكيفون مع تدهور أوضاعهم.

لكن هذه الفقاعة الوهمية قد تصطدم بأمر واقع، إذ سرعان ما سينتهي الموسم الحالي، وتبدأ العودة إلى المدارس والاستعداد لفصل الشتاء والتدفئة.

وسيكون اللبنانيون مجدداً أمام فصل جديد من محاولة القفز فوق أوجاعهم لتسيير أمورهم بالتي هي أحسن.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي