يقولون إن السياسة ليست عِلماً من العلوم الإنسانية أو الإدارية التي يتعلّمها الإنسان في مدرسة أو يدرسها من كتاب، وإنما هي مجموعة أعراف وتجارب شعوب قانونها وقاعدتها العمل والتطبيق فقط!
في السياسة الوضعية، فهل هذا صحيح؟
الجواب، نعم. لأن العلماء أشرف من أن يدوّنوا المكايد والحِيل في كتاب، والمدارس أجلُّ من أن تجعل إلى جانب دروس القيم والآداب، دروس الأكاذيب والأباطيل والصراخ والفوضى.
وها هم السياسيون نشاهدهم في الإعلام كل يوم، تنقلهم الطائرات إلى المؤتمرات تلو المؤتمرات. نسمع منهم نتائج قممهم التي أوصلت العالم إلى حافة الانهيار أو الانفجار بسبب أخلاق وغرائز السياسيين وأطوارهم التي كشفت وتكشف كل يوم عن نواياهم إلى الجشع والظلم...
فهل بعد هذا تعتقد أيها القارئ الكريم، أن رجلاً نصّب نفسه لنُصرة الحق وإظهار الحقيقة، وقد زكّى نفسه وطهّرها وسعى لاستنقاذ الفضيلة من بين مخالب الرذيلة وأوقف قلمه على تهذيب النفوس وتزكية الأخلاق العامة، وملأ في رسائله ومداخلاته وتصريحاته فضاء الأرض والسماء بكاءً ونواحاً على هذه الأمة المسكينة المستضعفة، يستطيع أن يكون سياسياً أو حتى مُحباً للسياسيين؟
علماً بأن أكثر السياسيين شهرة تجده، إما راقصاً أو بهلواناً أو لاعباً أو مهرّجاً أومريضاً نفسياً أو مجرم حرب... والأمثلة كثيرة، فمن موسوليني وهتلر ونابليون وغيفارا ورادوفان كاراديتش، المجرّم دولياً في إبادة جماعية، وهو زعيم الحزب الديموقراطي الصربي - 1991 - وأبراهام لينكولن الذي كان يعمل نادلاً في حانة خمور، ثم تلاه في حكم أميركا دونالد ترامب، الكومبارس في الأفلام الأميركية...
وهكذا يتوالى السقوط السياسي لأكبر الدول وأعرق النظريات التي طحنوا بها البشرية في عالمنا المعاصر.
ويعلم الله أني أبغض السياسة وأهلها... هؤلاء بُغضي للكذب والغش والخيانة والغدر... فأنا لا أحب أن أكون سياسياً بهذا المفهوم، لأني لا أحب أن أكون جلّاداً، ولا فرق عندي بين السياسيين والجلادين، إلا أن هؤلاء يقتلون الأفراد وأولئك يبيدون الأمم والشعوب!
أليس أكثر السياسيين شهرة وأرفعهم مقاماً وفخراً، ذلك الذي سطّر في سيرته حروفاً من أشلاء القتلى ونقطاً من جماجم البشر؟
هل يستطيع الرجل أن يكون سياسياً إلا إذا كان كاذباً في أقواله وأفعاله؟ يبطن ما لا يظهر ويظهر ما لا يبطن...
كثيراً ما يسرق السارق، فإذا حصد الملايين رفع يده متضرّعاً إلى الله أن يرزقه المال الحلال حتى لا يتناول الحرام!
وكثيراً ما يقتل القاتل، فإذا فرغ من الضحية جلس بجانبها ليبكي بكاء الثكلى على فقيدها.
أما السياسي فلا تراه يوماً في حياته، أسعد من اليوم الذي يعلم فيه أن قد تم له تدبيره في إهلاك شعب وإفقار أمة - كما هي المؤامرات علـى العالم الثالث - وآية ذلك أنه في يوم انتصاره أو جنايته - يسمع هتاف الشعوب باسمه وهو مطمئن القلب مثلج الصدر حتى ليخيّل إليه أن الفضاء بأرضه وسمائه أضيق من أن يسمع قلبه الطائر المحلق فرحاً وسروراً في سماء التملق الجماهيري!
وهذه شعوب العالم الثالث التي هتفت بأسماء زعمائها حيناً من الدهر، عادت فثارت عليهم في «ثورات الربيع» بعدما أهلكوا الحرث والنسل.
إنّ السياسي اليوم أصبحنا لا نعرفه إلّا إذا تشدق في ذِكر المدنية الغربية والليبرالية وشؤونها والشيوعية وسرد أسماء مفكريها ورجالها وأخبارها ونوادرها، ويستحسن ما تستحسنه وإن كان الزندقة والمثلية والإلحاد!
ثم لا يحول بعد ذلك تمدينُه، بينه وبين أن يكون فاسقاً ينتهك الحُرمات أو مدمناً يترامى على أعتاب الحانات، أو أحمق لا يصفح عن ذنب ولا يصانع في هفوة، أو رقيق الوجه لا يستحي لمكرمة ولا يغضي لمروءة، أو سفيهاً يشتم حتى أميره وسلطانه ووالده وأستاذه.
وختاماً، فالذي أرجوه من السياسيين أن يهذّبوا قليلاً من هذه الألفاظ والمصطلحات التي أنِسوا بها، والعناوين التي جمّدوا عليها، فلا يسمون المنافق تقياً ولا المخادع وطنياً ولا المتمجّد ماجداً ولا المظلوم مجرماً ولا الإرهابي مدنياً، حتى لا ينزع محسن عن إحسانه ولا يستمر مسيء في إساءته!
فهل نحن بحاجة إلى مزيد من مخرجات العلوم السياسية؟