بعض المتنفذين وأصحاب المناصب لا تحسدهم على مناصبهم، فإنما هم يخدعونك بزُخرفٍ من القول ومظهر من الرفاه، وبهارج من التملق والابتسامة! ووراء ذلك - لو تعلم - قلب يفطر دماً مسفوحاً، وفؤاد يضطرم ناراً، ولسان يتجرّع مرارة الذل ويعاني من كبرياء رؤسائه وقسوة المسيطرين عليه عناء شديداً ويحتمل من ذلك ما لا يحتمله الرجل الشريف حرصاً على منصبه وخوفاً عليه لأن المنصب بالنسبة له - كل شيء في الحياة - فيدور معه حيث دار وإذا تم اختياره في الحكومة الجديدة، لطم بأنفه قبة السماء وداس برجله رأس الجوزاء ولسان حاله يقول «يا أرض اشتدي ما حدا عليكي قدي»...
وإن فاته المنصب وسحب البساط من تحته، قتل نفسه وانسحب من الحياة متمثلاً قول الشاعر: فإما الثريا وإما الثرى... ولنا الصدر دون العالمين أو القبر؟
إن شرف العِلم أكبر من شرف المنصب، وإن المنصب ما كان شريفاً إلا لأنه حسنة من حسنات العلم، وأثر من آثاره، فإن فاتك حظك منه فلا تحفل به فهو أحقر من أن تشتد في أثره أو تبذل حياتك حزناً عليه... أولئك أصحاب الأذواق المريضة وأولئك الذين تصدر عنهم الأفعال والأقوال المشوهة غير المتناسبة ولا المتلائمة لأنهم لم يصلوا إلى قوة الحق والثبات على المبدأ ولم تألفه نفوسهم...
فتجدهم يتحوّلون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وتجدهم يهزلون في موضع الجد ويجدّون في موضع الهزل... يضعون العنوان الضخم للخبر التافه ويلبسون في الشتاء غلالة الصيف وفي الصيف فروة الشتاء؟
فإذا رأيتهم في هذه الحال فاعلم أنهم عبيد للكرسي وبحاجة لمعالجة ذوقهم كحاجة المجنون إلى علاج عقله...
وكما أنه ليس كل مجنون يرجى إفاقته ولا كل مريض يرجى شفاؤه، كذلك ليس كل من صار عبداً للمنصب يرجى صلاحه، فلا تأمن الكاذب على سر ولا تثق منه بعهد ولا فرق بين كذب الأقوال وكذب الأفعال في تضليل العقول والعبث بالآراء وخذلان الحق واستعلاء الفساد والكذب في عالمنا المعاصر يأتي في أشكال متنوعة.
المنافق كاذب لأن لسانه ينطق بغير ما في قلبه، والسياسي المتكبر كاذب لأنه يدعي لنفسه منزلة غير منزلته،وذو الوجهين كاذب لأنه يأتي كل قوم بوجه غير الذي كان عليه عند الآخرين، والفاسق كاذب لأنه كذب في دعوى الإصلاح ونقض ما عاهد الله عليه، والنمام كاذب لأنه أفسد العلاقة بين الناس...
وإذا لم يعجبك قولي المتقدم، فلن تجد في الحياة السياسية غير صديق يخون العهد، ورفيق يكذب الود، ومستشار غير أمين وجاهل يفضي السر وعالم يحرّف الكلم عن مواضعه وتاجر يغش في سلعته ويحنث في يمينه، وصحافي يتاجر بعقول الأحرار، كما يتاجر النخاس في سوق العبيد والإماء ويكذب على الله ثم على نفسه وعلى الناس في كل صباح ومساء...
أولئك الذين يسمّون الفقير سافلاً وطيب القلب مُغفّلاً وظاهر السريرة بليداً والحليم عاجزاً...
فلا تعجب إن سمعت أن أصحاب المناصب تنعكس في رؤوسهم صور الحقائق حتى تلبس في نظرهم ثوباً غير ثوبها فلا يفرقون بين الرذيلة والفضيلة والمعروف والمنكر...
ولولا فساد التصور ما جلس المرتشي فوق كرسي يفتل شاربيه ويصعّر خديه وينظر شزراً إلى الواقف أمامه موقف الذل والمهانة ولا ذنب له إلا أنه جاع واضطر لينقذ حياته من براثن الموت فسرق لقمة لينقذ مهجته.
ولاتوهم أنه أشرف من هذا اللص الصغير ولو باتا عند قدريهما لوقفا معاً في موقف واحد أمام قاض عادل، يحكم بإدانة الأول لأنه سرق مختاراً ليرفه عيشه، وبراءة الثاني لأنه سرق مضطراً في مجاعة لينقذ نفسه من الهلاك!
وعلى نفسها جنت براقش!
وكفى عبثاً
فلا يخدعونك!