No Script

الدولة «العاجزة» تعيدهم إلى البيوت أو... الشارع

في زمن «الجنون اللبناني»... مرضى الأمراض النفسية والعقلية ضحايا مرّتين

تصغير
تكبير

- لبنان «طنجرة ضغط نفسية»... وشعبه الأكثر غضباً في «الكوكب»

ذُهِلَ بعض المواطنين اللبنانيين، حين رأوا امرأةً تمشي على قارعة الطريق، بـِ «طَلّة غير مألوفة، مُحْرِجة، وصادمة». وحين حاولوا نهْرها وستْرها، أخذتْ تروي قصصاً مبهَمة غير متناسقة الأفكار، لا تكشف إلا كونها امرأة غير متزنة نفسياً تعاني اضطراباً عقلياً أدى بها إلى الخروج بمظهر خارج عن كل معايير المنطق والعقل والأخلاق.

مشهد غريب مؤلم يحطّ من كرامة الإنسان لكنه لم يَعُدْ، على ما يبدو، مُستغرَباً في بلادٍ ازدادت فيها الأمراض العقلية والنفسية واضطرابات «ما بعد الصدمة» في شكل حاد وترافقت مع انهيارٍ لقطاعها الصحي.

ما عادت المراكز والمستشفيات التي تُعنى بالأمراض العقلية والنفسية، قادرة على تأمين الرعاية أو الأدوية لنزلائها من هذه الفئات المُهَمَّشَة، وما عاد هؤلاء يَجِدون فيها الملاذَ الآمِن لهم.

مرضى متروكون لحالهم ينوؤون تحت ثقلِ اضطراباتٍ لا أحد يعرف إلى أي هاوية يمكن أن تجرفهم، وأهل يئنّون ويرزحون بدورهم تحت حِمْلٍ مادي ومعنوي ثقيل وكأن ما بيدهم حيلة.

... في بلادٍ يسكنها «الهذيانُ السياسي» وتستوطنها «هستيريا» الصراعات على أنواعها، وتَحْكُمُها حفنةٌ من المشكوك بأهليتهم، انفجر كل شيء ودفعةً واحدةً وكأنه «الجنون» بأمه وأبيه... أزماتٌ مالية، اقتصادية، اجتماعية، صحية، سياسية، دستورية، تربوية و... و... تحولت معها البلاد إلى ما يشبه «عصفورية» متنقلة بحيث بات كل مواطن لبناني يشعر بأنه يسير على شفير الهاوية لا يعرف متى يَسْقط في الهذيان.

وغالباً ما أصبح اللبنانيون يتندرون على أوضاعهم، ولسان حالهم انهم قاب قوسين من الجنون.

ولم يكن تقرير صدر قبل أيام عن أكثر البلدان والشعوب غضباً، إلا دليل على أن لبنان بات أشبه بـ «طنجرة ضغط» نفسية، وسط ما يشبه «السكيزوفرانيا» التي تعبّر عن نفسها بين نهاراتٍ مدجَّجة بضغوط الحياة «شبه المستحيلة» والاختناقات المعيشية، وبين ليالٍ لا ينطفىء فيها السهر الذي يبدو وكأنه. «تنفيسة».

ولم يتفاجأ اللبنانيون بتقرير «غالوب» للمعنويات لسنة 2022 الذي حدد معايير لقياس مشاعر الناس، بما في ذلك مستويات الغضب في أكثر من 100 دولة حول العالم، حيث تصدّرت «بلاد الأرز» ترتيب أكثر البلدان غضباً على «الكوكب» بعدما تم رصْد أن نحو 49 في المئة من السكان عانوا الغضب في اليوم السابق لإجراء الاستطلاع، وهو أعلى معدل مسجَّل في أي مكان في العالم، تلته تركيا وأرمينيا والعراق وافغانستان.

ويعاني لبنان اليوم مشكلةً حقيقيةً بدأت تظهر ملامحها بوضوح مخيف هي مشكلة عدم قدرة مرضى الأمراض العصبية على الاستشفاء وعدم قدرة مستشفيات ومراكز الأمراض العصبية والنفسية على تقديم العناية لمرضاها واضطرارها تالياً إما لإرسالهم إلى بيوتهم وأهلهم في حال كانت لديهم عائلة ترعاهم في الأصل، أو تركهم في المراكز التي لم تعد مؤهلة، يعانون الإهمال وسوء الرعاية في غياب المساعدة الحقيقية من الوزارات المختصة.

وما فضائح هذه المؤسسات التي تخرج إلى الضوء من وقت إلى آخَر إلا مؤشر على ما آل إليه وضع هذا القطاع ومرضاه.

حجازي... الخطير والأخطر
يقول الدكتور قاسم حجازي، الاختصاصي في الأمراض النفسية والعصبية ومعالجة الإدمان، والمدير الطبي لمستشفى جويا الرعائي لعلاج الأمراض النفسية ومعالجة الإدمان ومدير القسم النفسي لمستشفى الفقيه في منطقة السكسكية، لـ «الراي»، إن «بعض الاضطرابات الفصامية تتطلّب الاستشفاء لأجل وضع خطة علاجية متكاملة يستحيل أن تتم في البيوت.

والأدوية النفسية عادةً تحتاج بين أسبوع أو اثنين حتى تعطي مفعولها.

من هنا فالمريض المصاب بهلوساتٍ قد يعمد إلى أذية نفسه في حال لم يتلق العلاج الضروري. ولو كان في المستشفى لكان بالإمكان احتواؤه».

وأضاف أن «الاضطرابات الفصامية مثل السكيزوفرانيا، والاضطرابات المزاجية مثل اضطراب الثنائي القطب، تؤدي إلى اضطرابات سلوكية خطرة تؤثّر على حال المريض وعلى مَن حوله.

أما الاضطرابات النفسية الأخرى مثل القلق التوتر أو الوسواس القهري، فهذه يمكن للمريض وأهله التعامل معها».

ويضيء حجازي على أمر مهم، وهو «أن الفئة من المرضى ذات الدخل الاقتصادي المتدني عرضة للمشاكل والانتكاسات والاستغلال والإهمال في شكل أعلى من الفئة المرتاحة مادياً واقتصادياً».

ويتابع ان «الاضطرابات النفسية ما زالت ذاتها لكن نسبة الاستشفاء هي التي تدنت، وبذلك باتت تشكّل خطراً على المجتمع والعائلات.

فالحالات المَرَضية الحادة التي لم يتم إدخالها إلى المستشفى قد تتفاقم وتصل إلى مرحلة ارتكاب جرائم أو الانتحار».

ويرى أن «المشكلة ليست في المرضى المُزْمِنين في المستشفيات والمراكز لإقامة طويلة، فهؤلاء عادةً لا تصدر عنهم تصرفات خطرة وهم إن أعيدوا إلى منازلهم قد يميلون إلى الانطواء أو قد يهملون أنفسهم، لكن المشكلة الأكثر إلحاحاً هي عند مَن يعانون حالات حادة ولم يستطيعوا دخول المستشفى المختص وتلقي علاج ناجع».

وبرأيه أن «الحل في أن يتلقى المريض العصبي أو النفسي العلاجَ في المستشفى لفترة من الوقت تتم بعدها إعادته الى منزله في بيئةٍ سليمة مع متابعة دوائية، إلا في حالات قليلة لا يكون فيها الأهل موجودين أو هم غير قادرين.

وحينها يمكن أن يتمّ وضعه في مراكز تعنى بالاستشفاء. وهذه يجب ألا تكون القاعدة بل الاستثناء».

العلاج يساوي... صفراً
في لبنان، لا مستشفيات حكومية مخصصة لذوي الأمراض العقلية والنفسية، بل ان المراكز والمستشفيات التي تؤوي هؤلاء المرضى (غير المستشفيات الخاصة) متعاقدة مع وزارة الصحة، وهي مسجَّلة وفق تحديد الفئة الثانية، أي تُعنى بتقديم خدمات صحية لمرضى الإقامة طويلة المدى من ذوي الأمراض العقلية والإعاقات.

وطريقة التعاقد مع وزارة الصحة هي عن طريق البَدَل اليومي المقطوع، أي ان الوزارة تعطي مبلغاً مقطوعاً معيناً عن كل مريض مع سقف اعتمادات ثابت لا يمكن للوزارة تخطيه.

سابقاً كان المبلغ اليومي المحدَّد لكل مريض من ذوي الأمراض العقلية 40 الف ليرة وتم رفْعه إلى 120.000، لكن سقف الاعتمادات لم يُرفع، وبذلك كان من الصعب استحصال المستشفيات والمراكز على هذه القيمة التي لم تستطع الوزارة تأمينها ولا سيما أن هناك مستحقات قديمة للمستشفيات لم تسددها وزارة الصحة بعد.

ومع الارتفاع المستمر بسعر صرف الدولار، بات المبلغ المخصص لكل مريض يساوي صفراً تقريباً ولا يؤمن له أدنى احتياجاته.

ومع أزمة الدواء الذي لم يَعُدْ مدعوماً باتت أوضاع المستشفيات والمراكز المتعاقدة مع وزارة الصحة، كارثية، وتأمين احتياجات المرضى أمراً يلامس المستحيل خصوصاً أن الوزارة لا تسمح لهذه المؤسسات بتقاضي أي بَدَلٍ مادي من أهل المريض أسوة بالمستشفيات العادية رغم البدل اليومي المتدني.

حالات خطرة...
مرضى يعيشون حالات عصبية متطورة ويشكل بعضهم خطراً على نفسه أو على الآخَرين ويصعب على غير المختصين التعامل معها، يَجِدون أنفسهم متروكين في بيوتهم أو في الشارع على سجيتهم.

فأي مصير ينتظرهم وأي معاناة تنتظر ذويهم لا بل أي خطر يشكلون على أنفسهم ومحيطهم؟

في بيانٍ لها أصدرتْه قوى الأمن الداخلي أخيراً، ذكرت أن «المرأة التي وُجدت تسير عارية على الطريق تعاني اضطرابات نفسية، وقد أعيدت الى عائلتها».

ويروي أحد الأطباء حادثة مشابهة، يوردها كمثال على ما يمكن أن يصيب المرضى الذين لا يخضعون لعلاج، قائلاً «إن إحدى الشابات وهي في الـ25 من عمرها تتواصل مع شاب عبر الهاتف لإرسال صور لها خادشة للحياء، وقد تبين أنها مصابة باضطراب ثنائي القطب الذي يَخِفّ معه الشعور بالخجل حين تكون في حالة غير واعية، فتقوم بأعمال تعرّضها في ما بعد للابتزاز المادي والاستغلال الجنسي، ولذا كان لابد من إدخالها إلى المستشفى رغم كل الصعوبات المالية لتنال العلاج الضروري لمنع تعرُّضها وعائلتها للأذى المعنوي والمادي».

هذان مثالان من عشرات الأمثلة الشبيهة.

وتقول نجاة إنها اضطرت لإعادة والدها الذي كان مقيماً في مركز للأمراض العقلية إلى البيت بعدما طُلب منها أن تدفع شهرياً مبلغاً مالياً يعادل مليونيْ ليرة لم تكن قادرة على تأمينه.

ولكن بعدما أمضى والدها بضعة أيام حبيساً داخل جدران البيت، صار عدائياً يصرخ باستمرار، فأرادت اصطحابه خارجاً.

وحين توقفت أمام أحد المحال لشراء بعض الأغراض عادتْ إلى السيارة فلم تَجِدْه.

فتّشتْ عنه في المكان لأكثر من ساعتين قبل أن تُستجاب دعواتها ويجده أحد المعارف ويعيده إلى بيتها بعدما لقيه جالساً على حافة طريقٍ فرعي والدماء تسيل من رأسه إثر وقوعه على حجر...

وتؤكد «تبدلت حياتي وحياة أسرتي مذ عاد والدي إلى السكن معنا. ولم أعد أجرؤ على ترْكه وحيداً مطلقاً.

ولكن كيف أوفق بين عملي ورعايتي له؟ وكيف أتحمّل نوبات صراخه المستمرة؟ وهل يمكنني أن أُسْكِتَ ضميري وأُهْمِلَ مَن رباني»؟

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي