No Script

كتاب للدكتور علي أسعد يطرح خلاله دستوراً جديداً لقانون الحياة

«الدولة التعارفية»... هكذا تُبنى «المدينة الفاضلة»

تصغير
تكبير

- الكاتب يفتح شهية القارئ للكتاب... بالسرد التاريخي للصراع في القرون الوسطى
- استلهم اللبنة الأساسية في بحثه من «آية التعارف»
- أسعد ترك في مخيلة القارئ... حلم العيش في هذه الدولة
- في دولة التعارف... الجميع سواسية و«طالب الولاية لا يُولّى»
- هل نحن قادرون على بناء الدولة التعارفية... أم ستغدو حلماً لا نراه إلّا في المسرحيات الهزلية؟

التعارف بين الناس هو سبيل التقوى، والطريق الصحيح لإقامة العدل في العالم، دولاً وأنظمة وشعوباً...

هكذا وضع الدكتور السوري علي محمد أسعد (الدالي)، القادم من خلفيته المهنية في الطب كونه طبيباً استشارياً في التخدير والعناية المركزة، قانون «الدولة التعارفية» في كتابٍ، هو عصارة بحثه في «تاريخ العلاقات البشرية غير الإنسانية»، والذي تم التحضير له في أجواء «الربيع العربي»، مستلهماً من «آية التعارف» دستوراً مُغايراً عن كل الدساتير المتعارف عليها في تاريخ الشعوب والدول، لبناء هذه الدولة التي يحلم بها الجميع، كما حلم من قبلها بـ«المدينة الفاضلة» التي اقترحها الفيلسوف اليوناني أفلاطون.

الكتاب المكوّن من جزأين، يقع الأول منه في 80 صفحة، ويتألف من 7 فصول، أولها «اللغة والثقافة والمفاهيم الثقافية» وآخرها «الخلاصة»، اطلعت عليه «الراي»، وأبحرت في ما يختزنه الكاتب في أعماق أفكاره.

الصراعات... ونظريات الفلاسفة

في الفصل الأول، يستشهد أسعد بمجموعة من المفاهيم ذات الصلة بهوية الإنسان الغربي في القرون الوسطى، وكيف سعى الفلاسفة وقتذاك في البحث عن حلول للصراع الذي نشب بين دور الكنيسة والدين والدولة، وخروجهم بنظريات فلسفية، منها فلسفة ماركس – الجدلية المادية – وفلسفة «هيجل المثالية».

كما ينتقل إلى الصراع في مجتمعاتنا العربية في بدايات القرن العشرين، مستعرضاً سعي المفكرين والمثقفين المسلمين والمسيحيين في البحث عن حلول للمشاكل الدائرة، حتى خرجوا ببعض المفاهيم، مثل العلمانية والفكر الماركسي والليبرالي، التي يرى الكاتب أنها لم تأتِ بالنفع لمجتمعاتها «بل قد تتحمل مسؤولية بعض الكوارث التي حلّت بها، بسبب الاغتراب الثقافي، أو التعصب الثقافي لدى البعض الآخر، في وقتٍ كان المجتمع العربي أحوج ما يكون إلى التدافع والانفتاح الثقافي». فكانت البداية موفقة لفتح - شهية القارئ - قبل الدخول إلى صلب الموضوع.

«التعارف والصيغ اللغوية المتعلّقة به»

في الفصل الثاني، الذي تعنون بـ «التعارف والصيغ اللغوية المتعلّقة به»، فقد استدّل أسعد، غير ذي مرة، بآيات من القرآن الكريم، التي شكلت منطلقاً للعلاقات بين الناس على اختلاف أعراقهم وألوانهم ومعتقداتهم داخل المجتمع الواحد وفي ما بين المجتمعات، مستلهماً اللبنة الأساسية لبحثه هذا من «آية التعارف»، التي بدت كغصنٍ يتمدد بأوراقه الغضة، ليثمر بمشتقاتٍ متعددة للتعارف، كـ«تعارف القوم»، «التعارف على أمرٍ ما»، «المعروف»، «المعرفة» و«العرفان»، و«الأعراف».

ماهية «الدولة التعارفية»

أما الفصل الثالث، والذي كان أطول الفصول سرداً وتعمقاً في ماهية «الدولة التعارفية»، فاستنبط الكاتب القاعدة المعرفية لموضوع هذا البحث من الكتب السماوية التي تشير إلى أن «الإنسان خُلق على صورة ذكرٍ وأنثى وجُعِل حراً واجتماعياً في آن معاً». وعلى الرغم من تأكيده على أن هذا البحث موضوع مجتمعي سياسي غير فلسفي وغير ديني، لكنه لم يُخفِ ارتباطه ولو من بعيد بالفلسفة والدين.

كما تناول «التعارف في حياة الفرد والمجتمع» وبأن الله جعل التعارف في ما بين الناس حاجة وغريزة فطرية، يؤدي تفعيلها إلى الرقي والوئام وصون الكرامة الإنسانية. إلى جانب «التعارف والدولة»، فإذا أصبح المجتمع تعارفياً يقوم بذاته ببناء الدولة التي تمثله.

وقدّم الكاتب استنتاجات حول وظائف وأركان الدولة التعارفية وسياساتها وآليات الحكم فيها، بدءاً من «بناء الدولة»، بحيث تكون الدولة متوافقة مع الطبيعة البشرية لتغدو دولة تعارفية، وهو ما يؤدي إلى تغيير جذري في سياساتها ويجعلها أكثر عدلاً وإنسانية، مروراً بـ«مهام القيادة» في وضع التشريعات والخطط والسياسات التي تخطط أعلى درجات التعارف بين أبناء الشعب وقبائله.

كذلك شدد في بحثه على «نشر المعرفة» بين أفراد المجتمع، من أجل التفاعل مع بعضهم البعض ثقافياً وعلمياً وفكرياً. بالإضافة إلى «التنوع الاجتماعي والدمج» ليبدو الاختلاف الثقافي كما لو أنه حقيقة ثابتة في حياة البشرية، مع ضرورة تجنب الدمج أو الإلغاء القسري لثقافة الآخر.

وألمح إلى حتمية التغيير في الحياة، كونه أحد القوانين المنهجية التي تحكم كل شيء في الإنسان والطبيعة، وعدم مقاومة التغيير الذي يأتي بالاختيار أو كنتيجة طبيعية للتعارف، عطفاً على اختيار القيادة أو كما وصفه بـ «التعارف السياسي»، حول شرعية السلطة السياسية واختيارها.

فعندما يصبح التعارف عقداً اجتماعياً وقاعدة دستورية، يأتي بدولة غير طبقية وغير استبدادية، حيث لا يسمح باستبداد رجال الدين ولا العلمانيين ولا أصحاب رؤوس الأموال ولا العسكر.

أيضاً، لم يَفُت الكاتب الربط بين الدولة التعارفية وحقوق الإنسان، منوهاً إلى أن المجتمع التعارفي بطبيعته لا يقبل أن يفرض عليه من الخارج، ولو كان بياناً عالمياً عن حقوق الإنسان، بل يتيح التعارف للناس بأن تميز بين الطبيعي والشاذ، الحقوق الطبيعية للإنسان، وبين الحقوق المصطنعة، مثل «المثلية» والشذوذ الجنسي، ليميز الخبيث فيها من الطيب.

ولفت أسعد إلى العلاقة بين «التعارف والتنافس» حتى العمل الصادق والمتقن هو معيار الاختيار والتفاضل. في حين عرج على «التعارف والحرية»، مبيناً أن ممارسة التعارف الفطري هي ممارسة للحرية في أبهى صورها، لأن الإنسان بفطرته خُلق حراً.

كما خلص هذا البحث إلى أن الإطار الذي يدمج الأمة وينمي طاقاتها ويستثمر حركتها في مواجهة التخلف الاقتصادي هو إطار التعارف. وبالرغم من إقراره بعدم التخصص في الرؤية العسكرية للدولة التعارفية، إلا أن الكاتب أكد على ضرورة امتلاك القوة، بشرط استعمالها في حماية المواطنين والدفاع عن سيادة الدولة ومواجهة العنف أو التخريب المادي فقط.

«التطبيق والإجراءات العملية»

يطرح الكاتب تساؤلات عدة في الفصل الرابع، عن كيفية تطبيق التعارف وبناء الدولة التعارفية من القاعدة إلى القمة، مُفضلاً أن توضع القواعد الإجرائية بمشاركة ذوي الخبرة والاختصاص، «فأثناء المسير يُعرف الطريق»، كما يقول المثل.

وشدّد على إحياء مصطلح التعارف ليدخل في ثقافة الناس، بالإضافة إلى إقامة الورش على مستوى النشطاء وأصحاب الرأي والباحثين، وممارسة ورشات مجتمعية تدريبية لممارسة التعارف، وتطوير دور المؤسسات والهياكل الموجودة في كل الدولة، مثل المراكز الثقافية والروابط الأدبية والجمعيات الأهلية والتراثية، وغيرها.

أيضاً، دعوة الأحزاب لتطوير منظومتها الفكرية ووسائل عملها وإقامة ورشات بين الحزب والحزب المخالف له للتعارف على أفضل السياسات التي تخدم الأمة، وحث الناس على أن يتعرفوا على بعضهم البعض، من خلال التواصل الفردي والجماعي وعدم الاكتفاء بالتواصل الافتراضي.

ولقيام الدولة التعارفية على أكمل وجه، يقول الكاتب: «لا بد من قيام كل مؤسسة مهنية أن تقوم بتخصيص فترة زمنية لدراسة مشاكل المهنة».

أيضاً، تشجيع أبناء المجتمع على اتباع أسلوب «المجموعات التفاعلية» المعمول به حديثاً في تحضير العروض وحلقات البحث وتنظيم الأنشطة في الجامعات. كذلك صياغة القواعد الإجرائية ليتحول التعارف إلى قوانين ذات قواعد تنفيذية.

«الدولة العلمانية والدولة التعارفية»

يستشهد الكاتب في الفصل الخامس، بما قاله الدكتور برهان غليون في كتابه «نقد السياسة - الدولة والدين»، والذي أوضح من خلاله أن مفهوم العلمانية يوم نشأته تغير عبر التجربة التاريخية فاكتسب معاني ومضامين جديدة، حيث كان أيام الثورات الأوروبية يعني إقصاء الدين ورجالاته عن الدولة وسياساتها، بينما أصبح في هذا العصر يحمل معاني جديدة مثل إتاحة الفرص بالتساوي وحماية حقوق وحريات الجميع.

وقد وصف التعارف بالنسبة للدولة المدنية بمثابة الماء للأرض الجافة، مشيراً إلى أنه بالنظر إلى مؤسسات المجتمع المدني رأينا تطبيقاً عملياً لمبدأ التعارف.

ويرى الكاتب أن الدولة التعارفية لا تعتمد على مصطلح «الدولة الدينية» سواء عند المسلمين أو المسيحيين، وإنما تعتمد على مصطلح «الدولة ذات الصلة بالدين» وقدمها بأربعة أشكال متعددة.

«ملحقات»

يتحدث الكاتب في الفصل السادس عن أهم المصادر لمفهوم الدولة المدنية، مستعيناً بكتاب لجون لوك، حول العلاقة بين المجتمع المنزلي والمجتمع السياسي أو المدني، عازياً في الوقت ذاته انهيار الاتحاد السوفياتي السابق إلى فشل الحزب الشيوعي الحاكم في بلورة طرح عقائدي جديد يكون بديلاً عن إيديولوجيته السابقة، عطفاً على تجارب معاصرة لبناء دولة إسلامية، منها التجربة الإيرانية في «ولاية الفقيه»، وغيرها.

«الخلاصة»

يُلخص الكاتب في الفصل السابع والأخير من الجزء الأول، أسس ومبادئ الدولة التعارفية، ويركز على أنها هي المكان الذي يستحق أن ينتمي إليه الإنسان، المتدين والعلماني، الملحد، والريفي والمتمدن، ليترك في مخيلة القارئ حلم العيش في هذه الدولة، حيث الناس سواسية في الحقوق والواجبات.

ويبقى السؤال، هل نحن قادرون على بناء الدولة التعارفية، أم ستغدو حلماً لا نراه إلا في المسرحيات الهزلية، كتلك التي تنادي بمدينة أفلاطون الفاضلة...!

«التعارف والأحزاب»

ذُكر في الكتاب أن الدولة التعارفية قد لا تحتاج للأحزاب، لأن التحزب يقيم حواجز تعيق عملية التعارف ويتسبب بصراع حزبي إيديولوجي وانقسام اجتماعي عميق جداً.

«تعالوا لنتعارف»

أضاء الكاتب على سبل التعارف الخارجي بين أبناء المدينة والريف أو التعارف الشعبي الدولي، موضحاً أن ذلك يتحقق عبر الزيارات والتبادل الثقافي والطلابي والاستضافة السياحية للأفراد والعائلات من أبناء المدن الأخرى، مثل إطلاق حملات دائمة في المجتمع شعارها «تعالوا لنتعارف».

التعارف لا يُقصي أحداً

بيّن أسعد تفوق التعارف على العلمانية في نقاط عدة، أولاها العدل، بينما أن هدف العلمانية هو إدارة الوضع القائم من دون أن تلزم الدولة بتحقيق العدل، على حد قوله. ونوه إلى أن التعارف لا يقصي الدين ورجالاته ولا يقصي الإلحاد ورموزه، بل يشجع ويحمي البحث والحوار والعمل المشترك بين الجميع.

«طالب الولاية لا يُولّى»

لم يدع الكاتب سؤالاً حائراً في مخيلة القارئ، إلا وقد وضع له جواباً مقنعاً أو اقتراحاً مفترضاً، كموضوع الانتخابات في الدولة التعارفية، معتمداً على مبدأ أن الناس هي من ترشح فلاناً، عوضاً عن اختيار فلان من الناس لترشيح نفسه.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي