No Script

على الهواء

الأدب في بناء المجتمع

تصغير
تكبير

في أواخر القرن التاسع عشر بدأت النهضة الفكرية تجدد ما لديها من الموروثات الأدبية والفقهية، وجددت في أسلوب السير وازالة الخرافات عينها، وظهر كُتاب مجددون فأبدعوا في كتابات إسلامية منقحة بعيداً عن الشوائب ومثارات الخلاف والجدل، فأزالوا عن الفكر الديني الكثير من الإسرائيليات والخرافات وكوامن الخلاف العقائدي والجدل المتوارث الذي يلتصق بالفكر ولا يغنيه... والمكتبة العلمية الدينية التي تركها طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل، وأحمد أمين ومحمد فريد وجدي، والشيخ طنطاوي جوهري ومحمد عبده وسيد قطب.

هؤلاء وآخرون من رواد عصر النهضة الفكرية خدموا الأدب وخدموا الدين الإسلامي معاً بعد أن اتسعت آفاقهم الذهنية بالفكر واللغة فجاءوا على التراث الديني فكتبوا عنه كتابة نيرة مضيئة بقبس الفكر، دون الجري وراء الملتزمين والمتحزبين الذين أخذوا وأعطوا دون أي إضافة فكرية، وفيهم جماعات مندفعة تريد أن تخدم الإسلام بلا ثقافة إسلامية فيلجأون الى التعصب والعنف، واذا ما قاموا بين الناس على المنابر لا تجد في حديثهم إبداعاً ولا يضيفون فكراً لأحاديثهم، فيعتري حديثهم الجفاف، وان تحدثوا فبأسلوب الزجر والتهديد حتى إنهم يصرخون في مواعظهم بآذان الناس فينفرون ولا ييسرون بينما التبليغ جدال حسن.

لقد فقدت الساحة الأدبية أولئك الموسوعين الذين جمعوا بين علوم الأدب والفكر الديني، وكان آخرهم أولئك الذين كتبوا في مجلة الرسالة للزيات، وتركوا في المكتبة العربية آثارهم في الأدب بنطاقه الواسع، وتذكرت هذه المدرسة التي أفل نجومها بهذا الشاب المبدع الذي أحاط بآفاق المعرفة الأدبية والدينية، انه يحسن مخاطبة الناس بأدب جم بعيداً عن إظهار الذات وإبرازها أو التلاعب بالألفاظ متجنباً مواطن الخلاف التي ملأت تاريخنا الإسلامي ومحاذراً في انتفاء العبارات الحسنة الكريمة بأسلوب مهذب ترتاح إليه كل النفوس، ويستميل بها كل الأهواء، ويستقطب أهل الفكر والأدب ويتناول الأعلام من التراث فيتحدث عن سيرهم الحميدة الى مآثرهم وأدبهم وأخلاقهم، ويعرج على الأمثلة من النصوص الشرعية والأدبية فيأسر الألباب إليه.

الأدب مظهر من مظاهر الكوائن الحية الناطقة، بما فيها من أحاسيس ومشاعر واتجاهات ومعبر عن الحياة وأناسيها وما تعتبر كوامنهم من مشاعر وأفكار وتطلعات ومن نواحٍ نفسية واجتماعية وسياسية، وللأدب أثره المباشر في توجيه الأفراد والشعوب والجماعات وفي انحاء العواطف واستخدامها وهو عامل فعال في حيوية الأمة.

والأدب كان في عهد النهضة وفي كل عصر متقدم هو الدليل الذي يهدي الى حياة أفضل في السياسة والاقتصاد ويسعى الى تطلع حضاري، والآن بعد أن تقدمت العلوم وكثرت الجامعات وتأخر الوعي حتى ان الطالب تساوى مع أستاذه في نضوب الفكر.

الطالب يتخرج في كلية الآداب قسم اللغة العربية وهو جاهل بالعربية لا يستطيع أن يقرأ نصا ولا يكتب رقعة أو مقالة ويخرج من قسم اللغة الإنكليزية لا يحسن التكلم أو الكتابة بالإنكليزية، ونتذكر جميعاً أن الحاصلين على الشهادة الثانوية قبل ربع قرن أو أكثر كانوا أفضل من خريجي الجامعة الآن، فكان الطالب بعد تخرجه مدرساً ناجحاً وإن وضع في بنك أداره، وفي أي دائرة أحسن تدبيرها.

والأدب بما أنه لسان العاطفة والحس ومظهر الميول والنزعات والعقيدة مصدر هذه الميول أيضا والاتجاهات.

والأدب لا ينفصل عن أفكاره العقائدية، وهو مرآة صافية تسجل عن الاديب روحه وعقله وميوله ونزعاته وتنعكس فيه نفسيته واتجاهاته، والأدب نوعان نوع يعيش في أفق السذاجة والاسترسال الرتيب ولا يتأثر بما حوله وآخر يتأثر بما حوله ويتطلع الى حوائج الأمة فيخلق فيها قوة ودفقاً لحياة جديدة عامرة بالعطاء والنماء، هذا النوع الإيجابي يخرج بالمؤشرات الخارجية عن طور الاسترسال والسذاجة الى طور الخلق والإبداع.

لذا، فإنني بقيت زمنا أتطلع الى هذه الساحة التي خلت فبعد أولئك الذين ذكرتهم في أول حديثي لم يظهر أديب يشغل نفسه في الأمور الدينية، فبعد عبقريات العقاد، والفلسفة القرآنية ومطلع النور والإنسان في القرآن والاسلام والحضارة الإنسانية، والتفكير فريضة إسلامية وما طرحه طه حسين من هامش السيرة والإسلاميات والخلفاء الراشدين وغير ذلك، وما كتبه محمد فريد وجدي وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وسيد قطب،ان برز في ميدان الأدب أولا في شعره ونثره والكتابات الرفيعة خاصة في أمور الدين، أما الآن فإننا نرى عجباً، يخطب بعض الدعاة بلغة عربية ركيكة، ويقفز إلى الدين وإلى الفقه الديني قبل أن يخبر بالفقه اللغوي والأدب، لأن الأدب هو سلاح المؤمن سلاح الداعية والخطيب، أما الذي يلحن في اللغة والنصوص القرآنية والحديث الشريف فإنه كالذاهب إلى الهيجاء دون سلاح.

من كتابي:

مواقف في الحياة ج/ الأول

من 29/ 31

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي