No Script

مشاهدات

العِبرة في تدبر القرآن

تصغير
تكبير

أوضح القرآن الكريم على بشرية الرسل «وما جعلنا لبشر من قبلك الخُلد...»، قد اختارهم المولى عز وجل وهيأهم لحمل الرسالة. والرسل لهم صفتان بشرية ونبوية، الصفة البشرية لها احتياجات مثل نظرائهم من الخلق، والصفة النبوية تعصمهم من أخطاء البشر.

«قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا».

لماذا جاء تأكيد القرآن الكريم في العديد من الآيات القرآنية الشريفة على بشرية الأنبياء والرّسل؟

لقد كرّس الله سبحانه وتعالى فكرة بشرية الأنبياء، ووصفهم في أكثر من موضع بأنهم يتشابهون في الخلق مع كل البشر، في أشكالهم، ومأكلهم، وملبسهم، أو في حاجاتهم وقدراتهم الذاتية، وأحوالهم المختلفة... وبطبيعة الحال لم يكن ذلك مجرد صدفة، أو عبث.

فما هي العبرة من ذلك؟

لو تأملنا قليلاً القصص القرآنية التي تناولت حياة هذه الشخصيات الرّسالية من الأنبياء، لوجدنا الشمولية في المواصفات والمميزات التي جمعت مرة بين الأنبياء، والخصوصية التي تفرّد بها بعضهم، فمن دروس اليقين بالله والإصرار والمثابرة مع نبينا نوح عليه السلام، إلى دروس في الدعاء والاستغفار مع يونس، عليه السلام، إلى الصبر الجميل مع النبي أيوب، عليه السلام، إلى دروس في التسليم لأمر الله والتوكل عليه مع خليل الله إبراهيم، عليه السلام، إلى تواضع عيسى، وحكمة وعدل داوود، وشجاعة وعلم موسى، وعفّة يوسف، وقدرة وتدبير سليمان، إلى دروس الرحمة والحلم والخلق العظيم، والإخلاص والشجاعة... عند نبينا محمد خاتم الأنبياء، صلى الله عليه وآله وسلم.

هي قصص حقيقية ليست من نسج الخيال أو البطولات الكاذبة، قصص لا يشوبها زيادة أو نقصان، تحاكي في شخصياتها نموذجاً صالحا لمن اعتبر.

- وإجابةً عن السؤال الذي طرحناه حول العبرة من التأكيد على بشرية الأنبياء، أن المقصود به نزع الأعذار التي يخلقها كل منا لنفي إمكانية أن نكون كالرسل والأنبياء، لا بالمعنى الفعلي للمفهوم بل في صفاتنا الأخلاقية والإيمانية والسلوكية فنسعى نحو الكمال في ذواتنا ومجتمعاتنا، ولمَ لا؟ أو ليس الأنبياء كانوا بشراً وقد وصلوا على هذا التشريف؟

ولنا اليوم ونحن نتكلم عن هذا الموضوع، وقفة تدبّر ومقارنة بين أصحاب السلطة والمُلك والنفوذ في زماننا وبين من آتاه الله ملكاً وحكماً لم يؤته أحداً مثله، وأعني بذلك سيدنا سليمان عليه السلام، فكيف تصرف النبي سليمان، هل أخذته العزة بالإثم، أم أصيب بالغرور والكبر، أو هل استغل سلطته، وملكه وحكمه في ظلم الناس والتحكم بمصائرهم وأرزاقهم؟

لقد كان نبينا سليمان عليه السلام، كما جاء في القصص القرآنية والأحاديث الشريفة، ممن أنعم الله عليه بالجاه والسلطة، وقد ورث عن أبيه داود عليه السلام، علما ومُلكاً عظيماً، كما سُخّرت له الريح، وأعطاه الله القدرة على التحدّث مع الحيوانات. لقد منح هذا النبي من المال والسلطة ما لم يمنحه إنسان، ومع ذلك لم يتكبر أو يظلم ويبطش، بل كان الحاكم العدل بين الناس، الذي حافظ على هذا الملك وجعل من قوته وملكه في طاعة الله وخدمة العباد، ليكون قدوة حسنة لكل حاكم وسلطان.

بالمقابل، نجد أن قارون الذي كان على عهد النبي موسى عليه السلام - وكان رجلاً صالحاً في بداية أمره ومن المتعبدين - نجده بعد أن أنعم الله عليه من الثروات والمال مما لا يمكن حصره كما جاء ذلك في قوله تعالى «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» - بالإضافة إلى السلطة والقوة اللتين كان يمتلكهما واللتين يأتي بهما المال - بعد كل هذا الأمور التي أنعمها الله عليه - لم يكن من الشاكرين ولم يسخّر هذه الأموال في مساعدة الفقراء والمحتاجين بل تكبّر عليهم بعد أن وسوس له الشيطان عمله فأعمى المال والجاه عينيه عن الحق فزاغ عن السبيل، واغتر بنفسه حتى وصلت به الأمور أن ينسب الخبر لنفسه ولجهده، فظلم الناس وبطش بهم ونشر الفساد ومنع الحقوق ونسي ذِكر الله، فما كان إلاّ أن خسف الله به وبمُلكه الأرض على أعين الناس.

- العِبرة من ذلك والذي يتمثل في قصة قارون، أن المال والسلطة والقوة والتي ينعمها الله على بعض الناس، هي امتحان من الله لهم وهي تكليف وليس تشريفاً - فالسلطة تعني المسؤولية تجاه من تسلمنا زمام أمورهم من الناس، ومن واجبنا أن ندير شؤونهم، ونتدبرها، ونحافظ على مواردهم، ونحكم بينهم بالعدل والمساواة، لأن المال والجاه عرض زائل، وهما مجرد وسائل لتوفير فرص العيش الكريم، ومواردَ توافرت لنا لنتمكن من خلالها من تحسين الحياة من حولنا.

لكن للأسف نرى أن حال أحدنا - إن كان من أصحاب المال والجاه والسلطة - كحال قارون في تجبره وغروره - فمن يملك المال والجاه والسلطة، يستغل كل ذلك في إشباع شهوته لظلم الناس والتكبر عليهم وإذلالهم والتحكم في مصائرهم، فانتشر الظلم وكثر المظلومون، وأصبح المال مدعاة للفخر والتعالي على الناس، وأداةً ومعياراً نقيّم به الناس إلى طبقات ودرجات للمفاضلة بينهم، بعد أن انتفت التقوى ومخافة الله في نفوس أكثر الناس.

غاب عنا - بعد أن غفلنا عن الله وعن ذِكره - أننا أمام أمرين، إما أن نكون مثل سليمان الحكيم، المؤمن العابد الصالح، أو مثل قارون المتعنت الظالم المتكبر.

إن لنا في قصص القرآن عِبراً كثيرة وفي سير الأنبياء دروساً ومواعظ كثيرة أيضاً - فلنستفد منها في حياتنا ونقوّم بها نفوسنا وهذا لا يتأتى إلّا ببذل الجهد والمثابرة وشحذ الهمم لتقوية الإيمان والتقوى في نفوسنا. وكذلك نشر هذه القيم في نفوس من حولنا وتشجيعهم عليها، وتذكيرهم بالقصص والعِبر التي وردت في القرآن الكريم وقصص الأولين من الأمم التي سبقتنا في هذه الحياة الدنيا والاستفادة منها لنحقق بذلك عدالة الله في الأرض، ولنحافظ على الأمانة التي أمرنا الله بها لتعود البركة ويعم الخير من جديد، فنسعد في الدارين الدنيا والآخرة.

النتيجة هنا، فإنه حين ينعم الله علينا بالسلطة والنفوذ، ويمنحنا المال والجاه، فهذا يعني أن ذلك بمثابة تكليف لا تشريف، فالسلطة تعني المسؤولية تجاه من تسلمنا زمام أمورهم من الناس، ومن واجبنا نحوهم أن ندير شؤونهم، ونتدبر أمورهم، ونحافظ على مواردهم، ونحكم بينهم بالعدل وبالمساواة، أمّا الجاه والمال فهما مجرد وسائل لفرص العيش الكريم، وموارد متاحة نتمكن من خلالهما أن نلعب دوراً في تحسين حياة من حولنا.

لكن للأسف ليس هو الحال اليوم حيث يجب أن نكون، ولو كان كذلك فلماذا نجد بأن السلطة تستغل للنفوذ، والتحكم بزمام الأمور، وقد انتشر الظلم وكثر المظلومون، أما المال فمدعاة للمفخرة والتعالي، أصبح أداة ومعياراً نقيّم من خلاله الناس في مستويات، بعد أن حل مكان التقوى في المفاضلة بينهم.

كل ذلك من دون أن نعي أننا في خياراتنا ومسرتنا نتمثل أحد النموذجين إما أن نكون سليمان الحكيم، المؤمن العابد الصالح، أو قارون المتعنت الظالم والمتكبر...

اللهمّ احفظ الكويت آمنة مطمئنة، والحمد لله رب العالمين.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي