No Script

على الهواء

الصوفية بين الفلسفة والأدب (2 من 2)

تصغير
تكبير

لا يسعنا ونحن نتحدث عن الصوفية بين الفلسفة والأدب أن نغفل الإشارة إلى شاعر أقبل على عالم الروح بكل هِمة ونشاط، وجاهد نفسه مرتفعاً عن سلطان الشهوة، منصرفاً عن عالم المادة مثبتاً بما قاله من شعر ذي معانٍ رقيقة، وإشارات عميقة، أن الشعر صالح للتعبير عن الحقائق الخفية في النفوس.

ذلكم هو عمر بن الفارض، المنعوت بشرف الدين، توفي ابن الفارض سنة 632 هـ ولقب بسلطان العاشقين، وقد انقسم الناس في ابن الفارض مذاهب شتى، فرفعه بعضهم الى إمامة المحبين، وانحدر به بعضهم إلى درجة الكفر المبين...

ومن أهم التهم الموجهة إليه قوله بالاتحاد، ولكنه دافع عن نفسه، وقال إن هذه المسألة يصعب فهمها لشدة غموضها لدى الذين لا يؤمنون بغير المشاهدة والواقع، ويضرب الأمثال لكشف هذه الحقيقة ويقول:

فان لم يجوّز رؤية اثنين واحداً

حجاك، ولم يُثبت لبعد تثبت

سأجلوا اشاراتي عليك خفية

بها كعبارات لديك جلية

***

إن الشاعر المتصوف يسمو في حبه، حتى يفنى في محبوبه، فلا يرى في كل شيء سوى الله تعالى...

وقد وافقه الأستاذ «نللينو» قائلاً: إن ابن الفارض لم يكن فيلسوفاً من فلاسفة وحدة الوجود بل كان شاعراً صوفياً مؤمناً مغرقاً في الإيمان، وليست قصيدته التائية الكبرى، إلا تعبيراً عن ذوقه الشخصي، ويستشهد على ذلك بقوله:

وحياة أشواقي إليك

وحرفة الصبر الجميل

لا أبصرت عيني سواك

ولا صبوتُ إلى خليل

***

ولستُ في هذا المقام مدافعاً عن ابن الفارض ولكنّي أعرض بعض ما قاله من شعر في الحب بالذات العلية، ونحن بصدد الحديث عن الشعر الصوفي وفلسفته وفي صورة سما فيها سمواً غاب فيه كما قلنا عن نفسه، وصار في حالة من السمو فإذا هو يشعر بأنه لا وجود له، ولا وجود لاي شيء في هذا العالم، وإنما الوجود الحقيقي لله سبحانه، وقد برأه كثير من الباحثين من المغالاة في التصريح بهذا الاتحاد، كما غالى غيره كالحسين الحلاج وابن سبعين وغيرهما، والذي يهمنا في هذا المقام، وضع هذا الشعر في موضعه الصحيح من أدبنا العربي من حيث جماله الفني، وصدق تجربته الشعرية...

يقول ابن الفارض:

يقولون لي صفها فأنت بوصفها

خبير، أجل عندي بأوصافها علم

صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا

ونور ولا نار وروح ولا جسم

إن الرمزية هنا لا تخفى في هذا الشعر، فهي بيّنة واضحة، والشاعر يرمز به إلى الحب الإلهي الذي هو أصل الوجود، والذي لم يتقيد بقيود الزمان والمكان، ويتغنى ابن الفارض معبراً عن عواطفه بإيماءات أُخرى فيقول:

أشاهد معنى حسنكم فيلذلي

خضوعي لديكم في الهوى وتذللي

وأشتاق للمغنى الذي أنتم به

ولولاكم ما شاقني ذكر منزل

هذا هو الشاعر الصوفي والفيلسوف الأديب صاحب الشعر الرقيق الجميل، عمر بن الفارض.

من كتابي: مواقف في الحياة (الجزء الأول).

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي