بعدما تَبَدَّلَتْ أحوال البلاد والعباد

«الدولار الطازج»... حلم مُرّ يراود اللبنانيين

... «الحلم المر»
... «الحلم المر»
تصغير
تكبير

- هل أصبح اللبناني... «العامل الآسيوي الجديد»؟
- شاب غادر للعمل بـ 400 دولار علّه يؤمن ولو 100 دولار «فريش» لعائلته لـ «الصمود»

حين بدأ استقدام العمال الأجانب إلى لبنان في مرحلة الثمانينات للعمل في المنازل والمؤسسات، كانت الغالبية تأتي من الفيلبين، نساءً ورجالاً، وغالبيتهم من حملة الشهادات العالية. إحداهن، أتت للعمل في بيروت، من أجل جمْع ما تحتاجه للذهاب إلى الولايات المتحدة لاستكمال اختصاصها بالطب.

عملت في منزل أحد السياسيين اللبنانيين وجَمَعَتْ ما تحتاجه على مدى أعوام ورحلت إلى أميركا. وكان راتبها حينها لا يتعدى 200 دولار.

يقول أحد مديري مكاتب العمال الأجانب في لبنان: «كنتُ أتساءل دائماً كيف يمكن لشابات يحملن شهادات أن يأتين إلى بيروت للعمل في المنازل، وبراتب ضئيل قياساً إلى رواتب اللبنانيين. اليوم بعدما شهدنا ما يجري من انهيار عملتنا وهجرة اللبنانيين، صرتُ أفهم معنى أن يتقاضى لبناني راتباً لا يتجاوز مئة دولار».

هو نفسه يخبر كيف أنه في عزّ الأزمة والانهيار، كان بعض اللبنانيين الذين يعملون في الخارج يرسلون «الدولار الطازج» من أجل استمرار الحصول على خدمات المكتب. والدولار الطازج هو عنوان السنة الأخيرة من حياة اللبنانيين.

«فريش دولار»، بدعةٌ مثيرة يعود الفضل فيها إلى السياسة المصرفية التي أوصلت لبنان إلى ما هو عليه، وإجراءات تسمح فقط لبعض اللبنانيين بالحصول على «الورقة الخضراء» (BANKNOTE) إذا كان دولارهم «حديث العهد»، فيما الدولارات المودعة في المصارف، والتي أفنى غالبية أصحابها عمرهم في العمل لتحصيلها، أصبحت محرمة عليهم، إلا وفق سعر صرف بالليرة اللبنانية (أصبح 8 آلاف ليرة لبنانية) فيما سعر الدولار في السوق كاد أن يتجاوز الـ 28 ألفاً.

وهذه البدعة أصبح لها مسارها المصرفي وحساباتها الخاصة وناسها. فكما هناك مثل لبناني يقول «ناس بسمن وناس بزيت»، صار هناك ناس براتب لبناني وناس براتب «فريش دولار».

من أجل الدولار الطازج تَغَيَّرَتْ المقاييس في لبنان، وتَبَدَّلَ أسلوب الحياة والعمل. هناك فئة باتت تعيش أفضل مما كانت تعيش عليه سابقاً بفضل تبدُّل رواتبها من الليرة إلى الدولار الذي تقبضه كاملاً، وهؤلاء يعملون في مؤسسات غربية أو منظمات إنسانية، وفئة تستفيد من التحويلات بالدولار من الخارج، على غرار عائلات يعمل أبناؤها في دول الخليج العربي.

ويروي عدد من الذين يعملون فيها وهم يستعدّون للعودة إلى لبنان لقضاء عطلة الأعياد، كيف يتكاتفون لتأمين نقل أموال من أصدقائهم إلى عائلاتهم في لبنان، وكيف تتفهّم كل أجهزة الأمن في المطارات العربية هذه الإجراءات، بعدما أصبح وضع لبنان على كل شفة ولسان.

في المقابل تسعى غالبية اللبنانيين للتفتيش عن موارد رزق بالدولار في الخارج.

وقد بدأ قطاع الإعلام مثلاً يعيش هاجس تأمين الدولار، لموظفيه وصحافييه، بعدما تراجعت رواتبهم إلى الحد الأدنى، وبدأ صحافيون يتعاملون مع مؤسسات عربية وغربية بأعمال محدودة من أجل تأمين راتب بالعملة الصعبة.

في المرحلة الأولى، شهد لبنان هجرة الأطباء إلى دول عربية وأوروبية، حيث إن الكثير منهم يحمل جنسية أوروبية. فتعرفة الأطباء في لبنان أصبحت خيالية إذا ما قورنت بما كان يتقاضاه الطبيب سابقاً، ولا قدرة للبنانيين على دفعها.

هذه الهجرة كانت مع بداية الأزمة الاقتصادية واستفاد منها جيلٌ من الأطباء من الأعمار المتوسطة والصغيرة المتخرّجين حديثاً، وهؤلاء وجدوا في دول عربية حاجتهم لتأمين رواتبهم بالدولار، في وقت كانت المستشفيات في لبنان تعجز عن تغطية تكاليفها بعدما انهارت المؤسسات الضامنة.

ومع الأطباء تكثفت هجرة الممرضين والممرضات والقابلات القانونيات، وفنيين في القطاع الاستشفائي.

لكن مع تدهور الأوضاع المالية، وانهيار الليرة يوماً بعد آخر، بدأت بعض المؤسسات التي تستقدم متخصصين تخفّض عروض العمل للبنانيين، الذين باتوا يقبلون برواتب أقل بكثير مما كان يعرض عليهم سابقاً.

ويروي أحد الممرضين انه كان معروضاً عليه السفر إلى الخارج براتب لا يقل عن ألفي دولار، لكن حين حزم أمره أخيراً وقرر السفر تبدّلت شروط العمل وصار راتبه لا يتجاوز 700 دولار.

يقول أحد العمال الفنيين «أصبح اللبناني العامل الآسيوي الجديد»، أي أن اللبنانيين باتوا يرتضون بأجور متدنية فقط للسفر وترْك لبنان كي يتقاضوا رواتب بالدولار لتأمين معيشة عائلاتهم.

ويروي أحد هؤلاء أنه ترك العمل في مطعم في لبنان كان يتقاضى فيه قبل الأزمة ما قيمته ألف دولار أصبحت اليوم 60 دولاراً، وهو يستعدّ للسفر إلى جورجيا للعمل في مطعم مقابل 400 دولار. وهذا يسمح له بأن يؤمن لوالديه ولو مئة دولار في الشهر، أي ما يوازي حالياً أكثر من مليونيْن و800 ألف ليرة.

وتنسحب هذه الحالة على عدد من الموظفين الذين كانوا يعملون في مؤسسات تجارية كبرى، وتركوا العمل فيها، أحياناً لعقد عمل لبضعة أشهر فقط، كما حصل أخيراً مع مجموعات لبنانية انضمت إلى معرض دبي للعمل فيه لمدة ستة أشهر مقابل رواتب بالدولار.

ولأن «الفريش دولار» يتحول يوماً بعد آخر السبيل الوحيد للبنانيين للنجاة من الانهيار المتمادي في حياتهم اليومية، تسعى مؤسسات لا تزال صامدة إلى تحقيق بعض التوازن في دخل موظفيها، فتؤمن لهم جزءاً من رواتبهم بالدولار الطازج، فيما تسدد بقية الراتب بالليرة.

في المقابل تعجز مؤسسات كانت تدفع لموظفيها بالدولار عن إقناع المصارف بالإفراج عن هذه الرواتب كاملة، أو عن جزء يسير منها، بسبب السياسة التي يعتمدها مصرف لبنان.

قد يكون أبلغ مثال على قيمة «الدولار الطازج»، ما يحاول الجيش تأمينه لعسكرييه من 100 دولار شهرياً.

وأبلغ مثال على قيمة المئة، أن الجيش تَقَدَّمَ بطلب المساعدة حين كانت المئة دولار ما زالت توازي أقلّ من مليوني ليرة، واليوم أصبحت توازي قرابة مليونين و800 ألف، وقد تصبح حين تتم الموافقة عليها أكثر من ثلاثة ملايين و... الحبل على الجرار.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي