No Script

«صيدلية البيت» ابتكارٌ «حربي» أصابَها الخواء... أخيراً

... في لبنان الدواء صار داءً وأكثر

حقائب سفر القادمين الى لبنان... صيدليات نقّالة
حقائب سفر القادمين الى لبنان... صيدليات نقّالة
تصغير
تكبير

- الحاجة إلى تأمين الدواء تحولت هاجساً تماماً كما الطعام والمحروقات والكهرباء
- بعض الصيادلة شركاء لمستوردين من أرباب السوق السوداء خبأوا الأدوية في انتظار ارتفاع سعرها
- حقائب المغتربين استبدلت الهدايا بالأدوية وصيدليات عربية وأوروبية... تتساهل
- أيام الأدوية «الغربية» إلى أفول ورواج نظيراتها الآتية من تركيا وإيران وسورية
- صيدليات تقسم علبة الدواء على عدد من المرضى وتبيعها... حَبّة حَبّة

علاقة اللبنانيين بالأدوية علاقة مَرَضية. والمَرَضية في هذا المعنى لا تعني العلاقة بالمرض وبموجبات تعليمات الطبيب. هي واحدة من موروثات الحرب التي جعلت الحاجة إلى الأدوية عنصراً أساسياً في حياة اللبنانيين، ليس نتيجة الحاجة إليها فحسب، بقدر ما كانت وما زالت عنصرَ اطمئنانٍ نفسي إلى أن الأدوية مؤمّنة. وهذا هو الهاجس الذي عاد يقضّ مضاجع اللبنانيين في المدة الأخيرة.

ففي حربٍ دامت 15 عاماً وحروب متفاوتة مستمرة منذ أكثر من أربعة عقود، ومعارك جوالة وحروبِ تهجيرٍ متنقلة، صارت الأدوية جزءاً لا يتجزأ من حياة اللبنانيين.

والمساعدات التي كانت تصلهم من المنظمات الإنسانية العاملة في «أرض الحروب» غالباً ما قصدت تعزيز قطاع الأدوية، نتيجة المعارك والإصابات والحروق وتلوُّث الهواء والمياه وتَسَلُّل المواد الكيميائية وما سبّبتْه من تفشي الأمراض المستعصية.

وترافقتْ هذه الحاجة - الهاجس مع تَفَلُّتِ قطاع الدواء خلال الحرب كسائر المجالات الأخرى خصوصاً في ظل قصف المستشفيات وتضرُّر هذا القطاع وعشوائية سوق الأدوية، ما جعل اللبنانيين على تماسٍ أساسي مع الدواء، وصارت الصيدلية المنزلية جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية، بعدما حلّ الخوف من عدم توافره ومن صعوبة وجود طبيب أو تَعَذُّر القدرة اللوجستية على الوصول إليه وإلى المستشفى.

لا يخلو منزلٌ من صيدليةٍ صغيرة كانت ومازالت من أساسيات البيت، ولا سيما أن الأدوية الضرورية والمتمِّمات الغذائية لم تكن خاضعة لوصفات طبية. كان كل شيء في متناول اللبنانيين، الأدوية مؤمَّنة، والاحتياجات الطبية متوافرة.

قبل الحرب وبعدها، صارت الأدوية من القطاعات الضرورية التي دعمتْها الحكومة، فكانت أسعارها مخفضة قياساً إلى رواتب اللبنانيين. وتَرافَقَ الدعمُ مع تنظيم قطاع الصيدلة، وتحديد الأدوية التي تحتاج إلى وصفات طبية عملاً بالآداب الطبية والصيدلانية المتعارَف عليها.

نُظِّم القطاعُ لكن اللبنانيين ظلوا على قدرتهم في تدبير أمورهم الطبية، فكانت الأدوية متوافرة وبكثرة، خصوصاً أن القطاع الصيدلاني واستيراد الأدوية شهد ازدهاراً كبيراً، كما مصانع الأدوية التي وازت الصناعات الغربية، وانتشرت الصيدليات بوفرة، على امتداد الجغرافيا اللبنانية.

صارت صلة اللبناني بالدواء مركزية، لا علاقة لها بالشِعر «وداوني بالتي كانت هي الداء». صار الدواء علامة اطمئنان، وركيزة أساسية في يوميات الخروج من الحرب والموت ومواجهة الأعباء. علماً أن إحدى نتائج الحرب أظهرت أن أدوية الأعصاب تحوّلت عنصراً أساسياً في حياة الناس، وبينت الدراسات العلمية ارتفاع نسبة تناول اللبنانيين للمهدئات، في شكل كبير، لا سيما أن بعض أنواع هذه الأدوية لا يحتاج إلى وصفات طبية.

وحين أقرّت وزارة الصحة، ضرورة الحصول على وصفة طبية لأحد أنواع المهدئات، تحوّل الأمر نقمةً بالنسبة إلى الذين كانوا يتناولونه، بعدما صارت هذه الأدوية نوعاً من المتنفس للبنانيين ضربتهم الحروب والانهيارات الاقتصادية والاغتيالات، والسيارات المفخخة، والضغوط الحياتية والمشاكل النفسية والعاطفية والأزمات العائلية.

في الفترة الأخيرة، انكشفت علاقة اللبنانيين بأدويتهم اليومية، وهي علاقة صارت يوماً بعد آخر، تكشف جزئيات من التضامن الاجتماعي ومن الخوف من المرض والمستقبل، ومن العلاقة التي تحولت هاجساً في تأمين الأدوية كجزء من الحاجة التقائية إلى تأمين الطعام والمحروقات والكهرباء.

ومنذ انهيار سعر صرف الليرة، وبدء الكلام عن رفع الدعم عن السلع الأساسية، كان خوف اللبنانيين الأول هو الدواء، لاسيما مع تفشي «كورونا» ومن ثم انفجار مرفأ بيروت.

فالهمّ «ما فوق العادي» تأمين أدوية أساسية لمعالجة الحروق والإصابات، وسط انهيار المدخرات، وبدء إجراءات تقليص مصرف لبنان وتأمين الدولار لشركات استيراد الأدوية وتأمين المستلزمات الطبية، وتأخيره في فتْح اعتمادات لها.

في هذه المرحلة بدأ اللبنانيون أولى مراحل البحث عن الأدوية وتخزينها، خصوصاً للأمراض المستعصية والمُزْمِنة ولا سيما تلك التي تخص العجزة والأطفال.

صار الهمّ الأول حجز أدوية لأشهر بدل الاكتفاء بشراء الحاجة الضرورية. لا يوجد بلد يضطر فيه أي مواطن أن يكون على معرفة وثيقة بصيدلي، كما بصاحب محطة محروقات، من أجل تأمين حاجاته.

وضاعف تعثر المستشفيات وارتفاع تعرفة الأطباء من اللجوء إلى الصيدلية لتأمين الدواء مباشرة من دون استشارة طبيب.

وأصبح اللبناني يقوم بجولته الصباحية على محطة المحروقات والصيدلية تماماً كما على الأفران والسوبرماكت، يسأل عن موعد وصول الدواء.

يبدو المشهد سوريالياً، بعد مرحلة «عِزّ» انتشار الأدوية وتوافرها بكثرة. صار بعض الصيادلة، ومنهم شركاء مع مستوردين، من أرباب السوق السوداء، يخبئون الدواء في انتظار ارتفاع سعره الرسمي.

هؤلاء كانوا قلة، في مقابل صيادلة حاولوا التعامل بالحد الأدنى من تأمين الأدوية لزبائنهم حصراً، كي لا يتحول الدواء سلعة تباع إلى خارج لبنان، خصوصاً في ضوء انكشاف تهريب أدوية إلى بعض الدول في ظل أزمة «كورونا».

المرحلة الثانية بدأت مع الاتكال على المغتربين لتأمين الضروريات من الأدوية. في هذه المرحلة التي مازالت مستمرة إلى الآن، انتشرت صور حقائب المغتربين، الآتين إلى بيروت، وهي مليئة بالأدوية.

فغالبية العائلات اللبنانية لديها مَن هم في المغتربات أو على صلة بمغترب.

و«المُهاجِرون» أظهروا في هذه المرحلة تضامناً كبيراً مع العائلات، والمفارقة أن دولاً غربية وعربية، تساهلت مع تمرير حقائب الأدوية لمجرد أنها ستصل إلى لبنان، وهناك صيدليات عربية وأوروبية باتت تؤمن الأدوية للبنانيين بمجرد نسخة عبر «واتساب» لوصفة طبيب لبناني.

المرحلة الثالثة تجلت في تأمين الأدوية من دول مجاورة. فلبنان كان تعوّد على أدوية من صنع غربي نظراً إلى ثقته بالمعايير الطبية والرقابة على هذه الأدوية. على عكس ما يحصل حالياً، إذ نشطت الآن سوق شراء الأدوية من تركيا وسورية وإيران.

وشكلت السوق التركية، إحدى أكبر أسواق الاستيراد منها، في ضوء توافر الأدوية فيها وتطبيق بعض شروط الاتحاد الأوروبي عليها، وانخفاض أسعارها في ظل انخفاض سعر الليرة التركية، وقربها من بيروت، وتنظيم قطاعات تجارية وصيدلانية رحلات عمل إليها لتأمين الأدوية لقاء بدل مادي.

في حين نشطت حركة الاستيراد من سورية وإيران ولكن بوتيرة أقل نشاطاً من السوق التركية.

أما المرحلة الرابعة فهي التي أطلت مع رفع الدعم عن الأدوية والارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار أخيراً، ما أدى إلى ارتفاع خيالي بأسعار الأدوية وتفلُّت سعرها بعدما تجاوز الدولار الـ 24 ألف ليرة، وهذا انعكس في صورة مباشرة على سوق الدواء، الذي ارتفعت بعض أسعاره بأكثر من عشرة أضعاف.

ويقول أحد الصيادلة إن عودة ارتفاع الإصابات في «كورونا» مثلاً ستشهد حالياً ضغطاً على شراء الأدوية، لكن ما كان سهلاً الحصول عليه منذ عام، صار متعذراً بعد ارتفاع الأسعار حالياً.

وهذا الأمر ينسحب على أدوية كل أنواع الأمراض.

وروت صيدلانية، أنها باتت تقسم علبة الدواء على المرضى، فأي مريض يحتاج إلى علاج أيام قليلة، لا تبيعه الدواء إلا على قدر احتياجاته.

وهذا يعني أنها تضطر إلى فتح علبة الدواء وتقسيمها على عدد المرضى حَبّة حَبّة. وهذا أمر لم يحدث معها حتى في أيام الحرب.

وأشارت إلى أن المشكلة التي ستظهر لاحقاً لا تتعلق فقط باستحالة الحصول على الأدوية، أو التقليل منها فحسب، كما يفعل كثير من العائلات التي تحاول تخفيف أعباء عنها، بل كذلك امتناع اللبنانيين عن المتممات الغذائية والفيتامينات التي أصبحت عنصراً أساسياً من دورة الحياة الصحية، لا سيما أنهم باتوا اليوم معرَّضين أكثر لانهيار جهاز مناعتهم مع انخفاض مستوى التغذية لديهم.

ولفتت إلى أن الانهيار الصحي لم تظهر تداعياته بعد، بسبب الاعتماد على ما يتم التعويض عنه من خلال العائدين من الخارج.

لكن هذه الأدوية جزء من مشكلة كبيرة، خصوصاً مع احتمال رفع الدعم عن أدوية الأمراض المستعصية أو الأدوية المخصصة للاستخدام في المستشفيات، وهذه ستكون كلفتها خيالية، وسيضطر المرضى إلى تأمينها بأنفسهم بكلفة عالية كما بدأ يحصل في بعض المستشفيات.

وهي دوامة لم يعتدها اللبناني، الذي كان يعيش لأشهر ماضية في بلد قام منذ مئة عام على قطاع صحي عالي الجودة، ونشط أخيراً في مجال السياحة الاستشفائية والطبية العالية، ليتحوّل إلى متسوّل لأبسط أنواع الأدوية يعالج بها أمراضَه المستعصية.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي