دمشق تستفيد من «قلة شهية» واشنطن على الاحتفاظ بوجودها العسكري في سورية
المؤشر القوي لمصير القوات الأميركية التي تحتل نقطة الحدود بين سورية والعراق في التنف وكذلك في الشمال الشرقي السوري، تحدده تطورات العلاقات الكردية مع دمشق، وكذلك مؤشرات العودة السورية للحضن العربي بعد أعوام طويلة من الحرب.
فمن الدلالات الأخرى التي صدرت أخيراً، هي رغبة أكراد سورية (حزب العمال الكردستاني السوري) الانخراط في المفاوضات مع مركز القرار في دمشق بعد أعوام طويلة من المعاندة.
والواضح أن قرار الولايات المتحدة السماح لسورية باستيراد وتصدير الغاز الذي تنتجه مصر ويمر عبر الأردن وصولاً إلى أراضيها لينتهي في لبنان، لم يكن يصب في مصلحة لبنان فقط، بل شكل إشارة إيجابية تجاه سورية أيضاً.
في مطلع الشهر الجاري، زار وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، سورية للمرة الأولى منذ 10 أعوام.
وكان يرافقه رئيس الهيئة الاتحادية للهوية والجنسية والجمارك وأمن المنافذ، بهدف تطوير العلاقة أكثر، بعد ما فتحت أبوظبي سفارتها في دمشق منذ عامين.
ولم تكن عابرة، مشاركة مدير إدارة المخابرات العامة السورية اللواء حسام لوقا، قبل أيام، في المنتدى العربي الاستخباراتي، في القاهرة... وهو اجتمع مع عدد كبير من مديري ورؤساء أجهزة الاستخبارات العربية، رغم وجوده على لائحة العقوبات الأوروبية منذ عام 2012 والأميركية منذ 2020.
ولم تعد اللقاءات السورية - العربية خجولة، بل أصبحت أكثر جرأة وانفتاحاً بسبب القبول ببقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة.
وثمة مؤشرات أخرى أكثر دلالة على بدء مرحلة جديدة، فمن الواضح أن بقاء القوات الأميركية في سورية لم يكن يوماً يصب في المصلحة القومية ولا الأمنية للولايات المتحدة، بل أن وجودها خدم إسرائيل التي استعانت بالقدرات اللوجستية والاستخباراتية الأميركية، في سورية.
هذه العلاقة الاستخباراتية مقدر لها أن تستمر بوجود أو عدم وجود قوات أميركية في سورية، لأن إسرائيل أصبحت ضمن القيادة المركزية الوسطى، وتالياً فان مستوى التعاون قد ارتفع أكثر من قبل.
أما بالنسبة للدعم اللوجستي واستخدام المطارات الأميركية المنتشرة في الشمال الشرقي، فإن إسرائيل بدأت تتعرض لضغط روسي لوقف ضرباتها المتكررة في سورية.
كذلك أعلنت إيران وحلفاؤها، أنهما يمتلكان الضوء الأخضر من القيادة السورية للرد على الهجمات الإسرائيلية، وتالياً، فُقِد مبدأ التوازن بين الربح والخسارة لدى إسرائيل، لتستمر بضرباتها ضد أهداف معينة تعتبرها مهمة، بينما هي استعراضية في أغلب الأحيان.
هذا لا يعني أن إسرائيل تتجه إلى وقف الضربات التي تشنها من مسافة بعيدة - غالباً تكون من فوق الجولان المحتل أو لبنان أو عبر صواريخ دقيقة مجنحة - إلا أنها تستطيع توجيهها من دون الحاجة إلى الوجود الأميركي، ما دامت سياسة «توازن الردع» لم تمارسها دمشق ضد تل أبيب.
فقدت أميركا أي سبب إستراتيجي لوجودها في سورية، وهي لا تمتلك سياسة واضحة تستطيع أن تبرر بقاء قواتها في الشمال الشرقي وفي منطقة التنف أو تستفيد من هذا البقاء.
وما يجبرها على البقاء هو الرأي العام الغربي الذي يدافع عن أكراد سورية، والذي يرى أن 10 أعوام حرب لم تحقق الأهداف المطلوبة بقلب النظام، وتالياً هناك أمل غير واقعي أن بإمكان تحقيق أي خرق من شأنه إبقاء القوات الأميركية وممارسة العقوبات الاقتصادية القاسية التي أصابت الشعب بالصميم، وليس النظام في سورية.
واللافت أن القوات الكردية - التي كانت تتشدد في مواقفها من الحكومة المركزية - بدأت بالتفاوض المرن مع دمشق، لتناقش كمية الغاز والنفط التي تستطيع الاحتفاظ بها في محافظتها، وعلى أن تسلم الكمية الأكبر للحكومة في دمشق. بالإضافة إلى ذلك، فإن المفاوضات وصلت إلى بحث وضع القوات الكردية تحت لواء الجيش السوري، ولكن مع بقائها في المحافظة الشمالية.
وهناك تفاصيل أخرى يجري بحثها بين الطرفين، وخصوصاً أن دمشق تعلم أن أكراد «حزب العمال السوري» يفاوضون تحت النار التركية، بعدما هددت أنقرة بالانقضاض على مناطق أخرى حدودية تحت سيطرتهم، وبعدما أظهرت واشنطن عدم رغبتها بتوتير العلاقات التركية - الأميركية، أكثر مما هي عليه اليوم، وتالياً لا توجد رغبة لواشنطن بالوقوف في وجه أنقرة ومشاريعها في سورية، مما يدفع الأكراد نحو موسكو ودمشق، أكثر فأكثر.
وبالفعل، لجأ الأكراد إلى روسيا لإيقاف التمدد التركي عبر حلفائها السوريين.
وقد قبلت موسكو بذلك بعد أن دفعتهم إلى التفاوض مع الحكومة المركزية التي لا بديل عن وجود قواتها على الأرض في الشمال السوري لتمنع تقدم أنقرة التي تحشد قواتها في المنطقة.
وأخيراً، فإن عودة سورية إلى الحضن العربي ورفع الضغط الأميركي عنها، يصبان أيضاً في رهان المجتمعين العربي والدولي على إمكان سلخ طهران عن دمشق، أو على الأقل تقليل النفوذ الذي تتمتع به إيران في بلاد الشام عبر تقديم يد أخرى غير الإيرانية التي دعمت سورية طيلة عشرة أعوام... وتالياً فإن الجميع يعول على موقف الأسد الذي لا بد أن يتصرف كرئيس دولة، يتقبل العلاقات العربية ويرمي بالماضي خلفه لإعادة بناء الوطن الجريح.
لا شك أن شهية أميركا ورغبتها بتقليص الوجود العسكري في غرب آسيا، يصبان في مصلحة سورية وإعادة إعمارها وعودتها إلى الجامعة العربية في الأشهر المقبلة. إلا أن هذا لن يمنع واشنطن من إعلانها مستقبلياً أنها تقف ضد أي تقارب مع سورية لـ... حفظ ماء الوجه فقط.