لماذا أصبح مقتدى الصدر «الخصم اللدود» للسياسيين الشيعة في العراق ؟
يتحضر العراق إلى إعلان نتائج الانتخابات الخامسة التي تُجرى للمرة الأولى بنسبة قليلة من التزوير، وبوجود مراقبين دوليين لطالما رفضهم الساسة العراقيون تحت عنوان حفظ السيادة. ولكن ما يتحضر له العراق أكثر هو الانتصار المتوقع لـ«الزعيم الصدري» السيد مقتدى الصدر. وهذا ما يخشاه غالبية السياسيين العراقيين بسبب مواقفه المتشددة حيال أمور كثيرة وعلى رأسها العلاقات الداخلية والعلاقات مع دول الجوار ودول العالم.
وكثيراً ما كتب عن الصدر ومواقفه المتنوعة التي يستغلها خصومه لمهاجمته وذلك بسبب قلة إدراكهم لنظرته السياسية التي يتمناها للعراق... فما هي سياسة السيد مقتدى؟ ولماذا أصبح الخصم اللدود للسياسيين الشيعة في العراق الذين يشنون حرباً إعلامية شرسة ضد مناصريه؟ مقتدى الصدر هو الابن الأصغر للمرجع الكبير السيد محمد صادق الصدر، الذي قتله نظام صدام حسين. فورث عن والده قاعدة شعبية، غالبيتها من فقراء الشيعة، الذين يدينون له بولاء لا منازع عليه.
وعند احتلال العراق من أميركا عام 2003، كان الشاب مقتدى لا يملك الخبرة السياسية لإدارة تيار ضخم أعلن الولاء المطلق له. فتقرب منه إبراهيم الجعفري، رئيس الوزراء السابق، وأحمد الشلبي (الراحل الذي يقال إنه كان أحد أسباب احتلال أميركا للعراق) وعدد كبير من السياسيين في العراق على أمل المشاركة في إدارته والعمل ضمناً لسحب أنصاره لأن ما من أحد كان يمتلك شعبية مماثلة وخزاناً بشرياً ضخماً يواليه.
وكان والد مقتدى ينتقد صمت المرجعية العليا في النجف، التي أطلق عليها اسم «الحوزة الصامتة» وأطلق على نفسه اسم «الحوزة الناطقة». وتبع ابنه السيد مقتدى الخطى نفسها في السنوات الأولى للاحتلال ولبس الكفن - مثل والده - كإشارة إلى استعداده للموت في سبيل قول كلمة الحق التي اعتقد بها.
وفي تلك السنوات، سيطر مقتدى على مدينة النجف الأشرف، وكذلك على «مدينة صدام» في بغداد، التي تمثل أكبر حي في العاصمة العراقية، ليطلق عليها اسم «مدينة الصدر». وبرز كأول سياسي - مُعمم يتحدى الاحتلال علناً، ويطالبه بالخروج من العراق وهو معروف الإقامة والانتماء، ويهاجم أول رئيس وزراء في الحكومة الموقتة التي أنشأها الاحتلال الأميركي، أي إياد العلاوي.
وهكذا أصبح الصدر أول رمز للمهمشين العراقيين ورمزاً لمقاومة الاحتلال الأميركي، خصوصاً بعد أن قرر الحاكم المدني الأميركي بول بريمر إغلاق «صحيفة الحوزة» التابعة لمقتدى بسبب توجيهها انتقادات لاذعة لمجلس الحكم العراقي الذي عينته أميركا، والذي رفضه وهاجمه الصدر علناً.
وكان مقتدى أول من نادى بانسحاب الاحتلال بقوة الكلمة ومن على منبر جامع الكوفة، الذي كان والده يتحدى من خلاله صدام حسين بوجود مخابراته الحاضرين داخل المسجد. وطالب مقتدى بضرورة إجراء انتخابات حرة ونزيهة واختيار برلمان عراقي مسؤول عن صياغة الدستور واختيار الحكومة المقبلة.
وأنشأ الزعيم الصدري «جيش المهدي» الذي انتشر بقوة في النجف والبصرة والعمارة والناصرية والكوت، ما فاجأ قوات الاحتلال حينها، والتي قررت اعتقاله أو قتله. فنشبت حرب النجف الأولى في وقت لم يكن مقتدى وأنصاره يعرفون فن الحرب ولكنهم تسلحوا بالعقيدة والإرادة اللازمة لمواجهة الاحتلال. فكان التسلح ضعيفاً مقابل أقوى جيش في العالم. إلا أن ذلك لم يردع الصدر عن إعلانه العداء لأميركا وقتاله لها.
وهذا الموقف جذب إيران التي أرسلت الراحل الحاج أبو مهدي المهندس إلى النجف الأشرف ليقدم مساعدة «الجمهورية الإسلامية» في التسليح والتدريب ما دامت الأهداف مشتركة.
وأنشأ مقتدى القوات «الخاصة» ومن بعدها شكل سراً مجموعة اسمها «عصائب أهل الحق»، أعطى قيادتها للمتحدث باسم التيار سابقاً الشيخ قيس الخزعلي ونائبه حينها الشيخ أكرم الكعبي. وقد كان الخزعلي يعمل تحت إمرة السيد مقتدى ومن ثم ضمن دائرته الخاصة بعد خروج القيادة الصدرية من النجف إلى بغداد عند انتهاء المعارك مع أميركا وبتدخل المرجع الأعلى سماحة السيد علي السيستاني.
وقد بدأ الصدر رحلاته ذهاباً وإياباً إلى إيران لقناعته بأن القوات المحتلة تريد اغتياله. فالمؤامرة على مقتدى كانت أولاً داخلية لأن الأميركي لم يفقه الكثير عما يحدث في العراق، وتالياً فإن «نصائح» السياسيين العراقيين المقربين من أميركا وغير المعارضين لها - والذين دعموا وجودها في العراق - كانوا على يقين أن الصدر يشكل خطراً عليهم، وذلك لأفكاره الثورية ولرفضه الانتماء والتبعية لأي دولة أو قوة، ولولائه الدائم لمناصريه. وتالياً فإن قتله كان يريح الجميع الذين يطمحون إلى شرذمة أنصاره والاستيلاء عليهم لبناء قواعد شعبية أكبر.
أما أميركا فاعتبرت بأن شخصاً مثل هذا الشاب (الصدر) الذي يؤيد «حزب الله» في لبنان في السنوات الأولى من سطوع نجمه على الساحة العراقية. وتسعى إيران للتقرب منه. ويرفض الوجود الأميركي ويتمتع بشعبية قوية... هي دوافع كافية لمحاولة التخلص منه.
إلا أن الصدر كان يلجأ إلى إيران ولكنه لم ينصاع يوماً لقيادتها. وهذا ما دفع طهران إلى محاولة شرذمة تياره باحتضانها الكعبي وتمكينه من إنشاء حزب يتبعه (حركة النجباء) وكذلك فعلت مع الخزعلي. الذي تزعم «عصائب أهل الحق» بعدما انفصلا عن التيار الصدري. وهذا ما زاد مقتدى قناعة بمطالبة إيران التوقف عن التدخل في شؤون العراق وإدارته.
أما موقف الصدر من المنشقين فكان دائماً كالآتي: «لا أحد في التيار الصدري مرغم على البقاء تحت قيادتي. من يريد الرحيل فليرحل لأن التيار الصدري باقٍ». وكان محمد اليعقوبي أخذ جزءاً من التيار الصدري وأنشأ «حزب الفضيلة». وبقي مقتدى مع المناصرين الذين يريدون الوقوف معه ومازال تياره هو الأقوى والأكثر عدداً.
وبسبب شعبيته الكبيرة التي تتفوق على أي حزب آخر، بقي الصدر مهيمناً على الساحة العراقية. فهو أول من حارب الاحتلال ولكنه لا يمانع بوضع يده بيد أميركا كدولة عظمى تريد علاقات تجارية وديبلوماسية مع العراق بعد أن تخرج كقوات قتالية محتلة.
والسيد مقتدى لا يرى الغرب عدواً إلا إذا تدخل في شؤون العراق الداخلية. ولكنه لا يعتبر إيران عدوة حتى ولو تدخلت في العراق بل يطالبها بالخروج ووقف تدخلاتها لأن العراقيين قادرون على منع أي دولة مهما عظم شأنها أن تستخدم العراق منصة لمهاجمة إيران أو أي دولة أخرى. فلإيران جغرافيا ومذهبا ومصالح وأهداف مشتركة لا يمكن مقارنتها بالولايات المتحدة المتسلطة والمحتلة. بالإضافة إلى ذلك يعتقد الصدر أن إيران سترى فائدة في التعامل مع دولة عراقية قوية بدل نسج علاقات مع فصائل متعددة خصوصاً حين تكون الدولة في بغداد صديقة وغير معادية وينتفي خطر الوجود الأميركي وتآمره على إيران والعراق. وهو كان أشرس من حارب التكفيريين بإرسال «سرايا السلام» الصدرية لحماية المقرات الشيعية في معقل «داعش» في سامراء عام 2014 ومقاتلة أعداء العراق.
لا يتردد الصدر في إعلان نياته بضرورة إقامة علاقات مميزة مع الكويت والمملكة العربية السعودية ومع الأردن وتركيا وجميع الدول الغربية على أساس الاحترام المتبادل للسيادة وعدم التدخل في شؤون العراق الداخلية. فلم يكن يوماً منغلقاً على العالم ولا كانت علاقته حكراً على إيران أو أي دولة، بل تلاقت أهدافه مع أهدافها دون أن يكون تابعاً لها.
ولهذه الأسباب جميعها يتعرض الصدر وتياره لأبشع الانتقادات والهجمات من الداخل العراقي، خصوصاً من الأحزاب الشيعية التي تصفه تارة بأنه عميل لأميركا وتارة بأنه تابع لإيران أو يُحابي المملكة العربية السعودية. وهذه الاتهامات سببها نقطتان: الأولى، بأن هؤلاء لم يفقهوا شيئاً عن التيار الصدري واتجاهاته وعقيدته وسياسته. فهذا التيار لديه طاعة عمياء لقائده مهما قيل عنه واتهم به. ولذا فإن هذه الانتقادات والاتهامات لا تؤثر على القاعدة الشعبية بل تبقى توالي الانتفاضات ضمن أعداء التيار الصدري.
ثانياً، ولأنه من المتوقع أن يحصد التيار الصدري أكثر الأصوات في البرلمان المستقبلي. فكان من الضروري محاولة ضربه من خصومه، وتهشيم سمعته وتشويهها وعدم انصافه.
وكانت آخر الحملات عليه تلك التي روجت بأن الصدر يريد حلّ «الحشد الشعبي»، الذي يعتبره أنصاره «مقدساً». الصحيح أن مقتدى نادى تكراراً بدمج «الحشد الشعبي» الذي أسسه السيد السيستاني بعد فتوى «الجهاد الكفائي» عام 2014 حين احتلت «داعش» ثلث العراق. ولكن الصدر يملك ثلاثة ألوية داخل الحشد: لواء 313، 314، 315 بالإضافة إلى ذلك فهو يستطيع التمني بدمج الحشد ولكن ذلك يحتاج لموافقة السيستاني والبرلمان العراقي الذي أقر إنشائه. وينادي مقتدى بحل جميع الفصائل وعلى رأسها البشمركة الكردية لتبقى القوة الأمنية فقط تلك التابعة للدولة العراقية. وهذا ما أعطى مادة دسمة للسياسيين الذين يتمنون الوصول إلى رئاسة الحكومة مثل نوري المالكي لمهاجمة الصدر وتبني «قدسية الحشد الشعبي»، على الرغم من أن قوات الزعيم الصدري هي جزء من الحشد.
لم يتوان السياسيون العراقيون عن توجيه شتى الضربات للصدر في محاولة فاشلة لإضعافه. فقد قدر هؤلاء أنهم لن يحصلوا على المقاعد التي تمثلهم اليوم، وتالياً فإن إضعاف مقتدى أصبح بمثابة «أمر اليوم». وبعد الانتخابات ستعود الأمور كما كانت عليه قبلاً وستتوقف أو تخفت الانتقادات، لتبدأ التحالفات التي لابد منها.
لا أحد يستطيع المزايدة على الصدر كأول من أعلن العداء للقوات الأميركية المحتلة دون غيره وقاتلها. ولا يستطيع أحد المزايدة على وطنيته رغم الاختلاف معه حيال توجهه السياسي وأدائه خلال الحكومات السابقة المنتخبة، والتظاهرات العديدة التي دعا إليها تكراراً، وقراراته التي تدل على وجود قوة عراقية تتفوق على الدولة نفسها.
لقد تدخل الجميع، حتى مرجعية السيد كاظم الحائري عبر بيانه الأخير، في محاولة لإضعاف الصدر لتوجه إليه ضربات تحت الحزام. لكن تلك الحملات كانت بعيدة عن «الانتقاد البناء»، بل جاءت في سياق السعي لتشويه مسيرته، خوفاً من صعود قوة التيار الصدري وقدرته الانتخابية وفرضه رئيساً قوياً للوزراء يتمتع بشعبية قوية يفرض الانسحاب الأميركي وحل «الفصائل» وضبط أعداد القوى الأمنية التي يطلق عليها اسم «الفضائية»، أي لأعدادها الوهمية الضخمة بعيدة عن الحقيقة وتحجيم سلطة الأحزاب الصغرى والكبرى. وهذا ما يخشاه أكثر القادة العراقيين ولاعبون من خارج العراق لا يريدون رئيساً قوياً للوزراء لكي لا يتأثر نفوذهم. وعلى الرغم من هذه القوة، فإن مقتدى سيضطر في نهاية المطاف إلى التحالف مع أحزاب وكتل عدة لتسمية رئيس الوزراء المقبل للعراق... ويبقى السؤال برسم من سيذهب إلى تحالف الضرورة مع التيار الصدري بعد الانتخابات. من سيجرؤ على الخضوع لسلطة السيد مقتدى؟