مبادرات فردية في زمن الأزمات القاهِرة
لبنانيون يَتّحدون و.. يَتَحَدّون
- رامي عياش أطلق «تحدي التعلّم».. التكفل بتعليم طفل لمدة عام
- إليسا تبادر بـ«صمت»... جرعات دعمٍ و«طاقة إنسانية»
- كريستيل العضم خطفها انفجار مرفأ بيروت وبقي عملها الإنساني «حياً» ينبض باسمها ولذكراها
- «سيدات عطاء».. إعلاميات وناشطات في الخطوط الأمامية لمبادراتٍ على الأرض
- «من عيلة لـ عيلة».. أُسرة في الاغتراب «تتبنى» عائلة في الوطن الأم بهبة مالية شهرية
في تاريخه عرف لبنان ما يسمى بـ«العونة» وهي تقليد قروي قديم يقوم على تداعي أهل القرية فيما بينهم لإنجاز عمل يصعب على فردٍ واحد القيام به.
و«العونة» هي روح النخوة والمساعدة والتضامن التي لا تزال تجمع بين اللبنانيين بعدما فرّقتْهم السياسة والانتماءات الحزبية وتركتْهم حكوماتُهم المتعاقبة وحيدين يواجهون أكثر الأزمات المالية والاقتصادية والمعيشية «توحُّشاً».
واليوم تعود «العونة»، لا ببُعد قروي ضيق بل بمفهوم إنساني أشمل حيث يتداعى اللبنانيون، على طريقة «في الاتحاد قوة»، كل من موقعه لمساعدة الأشدّ حاجة بينهم، فيجتمعون أفراداً أو مجموعات صغيرة لتقديم الدعم إو ربما إنقاذ الغارقين في جحيم الفقر والبؤس من أبناء وطنهم. إنه التضامن الإنساني بأسمى صوره يتجلى في «بلاد الأرز» بجناحيْها، المقيم الذي يرفض أن
«يقتل» الانهيار المتدحرج «روحه»، والمغترب الذي لم يكن يوماً إلا «شريان الحياة» حين يستشري اليأس ويموت الأمل.
نداءاتُ الاستغاثةِ ترتفع عاليةً حيناً ومخنوقة أحياناً... مواطنون لبنانيون يتخبّطون في أمواج المعاناة الصاخبة ولا يكادون يرفعون الرأس لأخذ نَفَسٍ حتى تعاجلهم أزمةٌ أعتى. الحاجة كبيرة جداً، والفقر بات حالة عامة تسيطر على ما يقارب 82 بالمئة من اللبنانيين. وقد كشفت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «اسكوا» أن نسبة الفقر المتعدّدِ البُعد تضاعفت في لبنان خلال العامين الماضيين وقفزت بشكل مخيف من 42 الى 82 بالمئة، وأن ما كان يعرف سابقاً بالطبقة المتوسطة صار اليوم من ضمن فئة «الفقراء الجدد» التي حلت في تسميتها ومفهومها مكان «الأغنياء الجدد» التي سادت في سنوات عز لبنان وازدهاره بعد التسعينات من القرن الماضي.
الحكومة اللبنانية لا تزال تتخبط في إصدار البطاقة التمويلية التي تشكل «بحصة» صغيرة تسند «خابية» العائلات المحدودة الدخل والفقيرة، ووزارة الشؤون الاجتماعية لا تزال عاجزة عن تقديم مساهماتها للمؤسسات الخيرية التي تعنى بمساعدة المحتاجين، فيما «حزام البؤس» يتمدد كل يوم، وحاجة الناس تتخذ أبعاداً مأسوية لم يعد معها بالإمكان صمّ الآذان عن سماع صرخاتهم وأنينهم.
... أدوية، حليب أطفال، مؤونة وخبز وطعام، أقساط مدارس ولوازم مدرسية، مستلزمات نظافة شخصية... كلها حاجيات بديهية باتت الكثير من العائلات تفتقدها. صحيح أن الجمعيات والمنظمات غير الحكومية باتت كثيرة جداً في لبنان، وكلها لها يدٌ في المساعدة، وبعضها يقوم بأعمال جبارة، لكن الحاجة الكبيرة دفعت بأصحاب النخوة للقيام بمبادرات فردية لمساعدة أخوة لهم في الوطن هم في أمسّ الحاجة للمساعدة.
ربات بيوت، أمهات وآباء، فنانون ومشاهير، تلامذة مدارس أو طلاب جامعات، وحتى ضحايا... كلهم أرادوا المساعدة علّ تلك المساهمات البسيطة تشكل بتضافُرها «القروش البيض» في... الأيام السود.
مبادرات فنية إنسانية
الفنان اللبناني رامي عياش، أطلق قبل أيام مبادرة بعنوان «تحدي التعلّم» التي تقوم على التكفل بتعليم طفل لبناني لمدة عام كامل، وذلك من أجل تخفيف أعباء الأقساط المدرسية عن العائلات اللبنانية.
وكشف عياش أن جمعية «عيّاش الطفولة» التي أنشأها قبل أعوام تتكفّل بتعليم 2000 طفل في لبنان من شماله إلى جنوبه من دون أي تفرقة. لكنه تكفّل على عاتقه الخاص بتعليم طفل لمدة عام كامل.
وهو أطلق تحدياً لكل الفنانين عبر مواقع التواصل للقيام بالأمر نفسه، بدءاً بالفنانة مايا دياب والمُنْتِج صادق الصباح ورجل الأعمال المصري نجيب ساويروس، على أن يختار كل واحد من هؤلاء ثلاثة أسماء جديدة حتى ينتشر هذا التحدي بين الشخصيات الفنية أو الاجتماعيّة وتعمّ فائدتَه أكبر عدد من التلامذة المحتاجين، حيث أن الهدف كما يقول عياش «تعليم آلاف الأطفال».
وكان المُنْتِج الصباح أوّل مَن قَبِل التحدي وتكفّل بدوره بتعليم طفل لبناني. وهكذا وبمبادرة فردية، استطاع عياش وضع الفن في خدمة التخفيف من معاناة المجتمع اللبناني في حين يغيب أهل الفن عموماً عن الاهتمام بالقضايا الإنسانية في لبنان في تقصيرٍ فاضحٍ منهم عدا بعض الأسماء النادرة منهم.
الفنانة إليسا بات معروفاً عنها سعيها الدائم لتقديم مساعدات لمَن ترى أنه بحاجة إليها. ومؤخراً قامت بالتكفل بتركيب أجهزة طاقة شمسية على نفقتها الخاصة لتأمين الكهرباء لبيوت عائلات يعاني أشخاص فيها مشاكل في التنفس ويحتاجون إلى آلات أوكسجين. وتبلغ تكلفة كل جهاز نحو 6000 دولار وأكثر. وقامت الفنانة بهذه المبادرة بعيداً عن عيون الإعلام واستطاعت من خلالها توفير الطاقة الكهربائية و«جرعات أوكسيجين» في عزّ الحاجة إليها.
وسبق لإليسا تقديم مساعدات لأفراد ظهروا على الشاشات اللبنانية يطلبون العون أو يروون قصصهم. وكانت قصة «العمّ» الذي أمضى شهرين يأكل الزعتر والزيتون من المآسي التي أثرت بـ إليسا التي طلبت الحصول على اسم ورقم «العم» لتعمل على تقديم مساعدة مادية له.
«ضحية» معطاء
كريستيل العضم كانت إحدى ضحايا انفجار مرفأ بيروت في 4 اغسطس 2020. خسرتْ الصبية الثلاثينية حياتها هي التي تركت سويسرا حيث كانت تعمل لتعود إلى لبنان وتساهم في خدمة بلدها.
رحيلها المأسوي شكّل صدمةً لأهلها وكل محبيها، لكنهم أرادوا ألا يذهب موتها هباء فقام والدها ورفاقها بتأسيس جمعية تحمل اسمها تهدف إلى تقديم المساعدات للطلاب اللبنانيين من أجل تأمين مستقبل أفضل لهم. وكانت كريستال من الأشخاص الذين عملوا في الشأن الاجتماعي، وكانت تهتم بتأمين أجهزة الكمبيوتر للتلامذة المحتاجين وتدريبهم على كيفية التواصل «أونلاين».
وبعد رحيلها أرادتْ العائلة والأصدقاء تكريم إرثها من خلال إكمال مبادرتها ومتابعة تقديم المساعدات العينية ولا سيما الحواسيب للتلامذة الذين يشكلون أمل لبنان فحملوا «شعلتها» وضمنوا استمرار عملها الانساني «حياً» ينبض باسمها ولذكراها.
سيدات العطاء
ريتا منصور، إعلامية لبنانية ناشطة على مواقع التواصل وفي مجال العلاقات العامة. وكانت قبل الأزمة المالية جزءاً من حركةٍ صحفية وتلفزيونية وتسويقية. ومع بدء جائحة «كورونا» بدأت تساعد الصديقات في تسويق منتجاتهن البيتية من مؤونة وغيرها وتساعدهن على استحداث صفحاتهن الخاصة على مواقع التواصل.
ومع اشتداد الأزمة، لمست منصور أن الناس من حولها ليسوا بخير وأن العائلات المستورة تعاني، فوجدت أنه لا بد من استثمار خبرتها وعلاقاتها لمساعدة الأكثر حاجة وتأمين الأدوية والحليب والمواد الغذائية بشكل خاص. ولبّت بضع سيدات نداءها وخصوصاً رنا الداعوق، سارة ياسين والاعلامية سينتيا الاسمر.
وعبر هذا التجمع الصغير، بدأ العمل على جمْع المساعدات وتلبية الاحتياجات، وانطلقت حملاتٌ يومية على مواقع التواصل لحضّ مَن يستطيع على تقديم ما تيسر من مساعدات.
وتقول منصور: «فوجئت بحجم الطلبات ومدى العوز الذي تعيشه عائلات كانت حتى الأمس القريب تعيش مستورة في بيوتها في غنى عن طلب المساعدة».
مسابقات وإعلانات وإطلالات إذاعية وتلفزيونية، أساليب تستخدمها منصور لجمْع المساعدات العينية ولتحفيز الناس على مد يد العون. ويداً واحدة مع سيدات الحملة وأصحاب «الأيدي البيض» من داخل لبنان وخارجه، استطاعت هذه المبادرة تأمين أدوية ضرورية ومواد غذائية وأحياناً وجبات يومية لأشخاص هم بأمس الحاجة إليها.
«من عيلة لعيلة»
«من عيلة لـ عيلة»، مبادرة فردية عملتْ على إطلاقها الإعلامية كاتيا دبغي لتكون جسر مساعدة بين لبنان المغترب والمقيم. وتقول كاتيا: «من خلال معايشتنا للعائلات اللبنانية ولواقع حياتها، لمسنا كم أن الحاجة كبيرة حيث يرزح عدد كبير من العائلات اللبنانية تحت خط الفقر بسبب تدهور سعر الليرة وتدنّي الرواتب وفقدان الوظائف والبطالة ما تَسبّب بمعاناة معيشية ومادية خانقة. وتعاني الكثير من العائلات في لبنان انعدامَ الاحتياجات الأساسية من طعام ودواء واستشفاء وتعليم وغيرها، في ظل غياب الحلول والدولة. ولذلك انطلقت مبادرة»من عيلة ل عيلة «كي تكون جسرَ عبورٍ وخلاص للعائلات الفقيرة في لبنان نحو حياة أفضل».
وتقوم مبادرة «من عيلة لـ عيلة» على الجمْع بين العائلات الأكثر فقراً في لبنان والعائلات أو الأشخاص ذوي الأيادي الخيرة في دول الاغتراب من خلال تبني أسرة لبنانية في الوطن وتقديم هبة مالية شهرية توازي مئة دولار أميركي أو أكثر بحسب الرغبة، وذلك لفترة زمنية غير محددة تخضع لرغبة الجهة المانحة.
دور المبادرة أن تكونَ الوسيط بين الطرفين، وهي لا تتلقى هبات مباشرة من العائلات أو الأشخاص المانحين في الخارج، بل ترشدهم إلى العائلات التي يرغبون بكفالتها وتوفر لكم كل سبل التواصل المباشر معها كي تذهب التقديمات إليها مباشرة.
وتعمل دبغي عبر مساعدة بعض الصديقات على رصد عائلات تعاني أوضاعاً صعبة لتعمل على ربطها مع عائلات من الخارج، كما تقوم بتوفير عرض «داتا» العائلات مع الحفاظ على الخصوصية عند الطلب. وتحرص على أن يقوم كل مَن تلقى مساعدة بتقديم الشكر لمُساعِده لضمان الشفافية وتأكيد وصول المساعدات إلى مستحقيها مع التشديد على حفظ كرامة كل شخص.
... مبادراتٌ تشكّل غيْضاً من فيْض تَضامُن شعب لبنان مع نفسه، وتَكافُله فيما بينه في ما يمكن وصفه بـ «أزمة القرن» التي لم يعرفها منذ أن أُعلن «كبيراً»... قبل مئة عام وعام.