No Script

«ورشةُ شغلٍ»... لا تهدأ مَراصد وأبحاث وتقارير مَرجعية وأحلامُ تغيير

ناصر ياسين وزيرٌ من خارج السرب

الوزير ناصر ياسين
الوزير ناصر ياسين
تصغير
تكبير

- فكّك «أساطير» خطاب الكراهية ضدّ اللاجئين السوريين وفَضَحَ عنصريّته

... لن يكون التاريخ فخوراً وهو يروي بعد حين ما حلّ بلبنان في مستهلّ مئويته الثانية. ربما يُعَنْوِنُ صفحاتٍ تكسوها شارات سود بـ «وصمة العار»، وفيها حكايا صادمة عن الوطن الذي كان يوماً «دُرّة الشرقيْن» قبل أن يُقتاد إلى الجحيم.

لن يذيع التاريخُ سراً عن بلادٍ قبضتْ عليها التواطؤات بين بعض الداخل وبعض الخارج، فـ «سفكتْ» الأحلامَ في وطنٍ جميل جعلوه برتبةِ ساحةٍ أو مقبرة أو دجاجة تبيض فساداً، وجعلوا دولتَه أطلالاً ومؤسساته حُطاماً وشعبه متسولاً.

تواطؤاتٌ أتاحتْ لمَن بيدهم الأمر الإفلاتَ من العقاب كل مَرة... لا عدالة ولا ثورات فكفكتْ قبضتَهم على السلطة والناس والأنفاس، فها هم يعيدون «تدوير» مشاريعهم وتحالفاتهم وهَوَسهم وحكوماتهم و... «كأن شيئاً لم يكن»...

لم تكن الحكومة الجديدة على قدر الآمال، بل جاءت مخيّبة وشكلت قفزةً إلى الخلف رغم أن اللبنانيين الذين دَهَمَهُمُ البؤسُ جَعَلَهم اليأسُ يفضّلون وجودَ حكومةٍ ولو كيفما كان على ما عداه.

يدرك اللبنانيون أنهم مع الحكومة الجديدة – القديمة يُلدغون من الجُحْر مراتٍ ومرات ولكن ما باليد حيلة بعدما إكتوت يومياتُهم بنار الأزمات الجهنمية وصاروا في صراع بقاء.

وزراء حكومة «الشيء أفضل مما لا شيء» ليسوا كـ «أسنان المشط»، لا في تجاربهم وكفاءاتهم وسُلّم قِيَمِهم، ولا في إنتماءاتهم وإستقلاليتهم وديناميتهم.

بعض مَن في الحكومة مجرد صدى لصوت سيّدهم وما فعلت يداه بالبلاد والعباد، يلهون بـ «كليلة ودمنة» ويتشاطرون في نظرياتٍ خنفشارية وتفضحهم زلاتٌ فينضحون بما فيهم.

والبعض الآخر من الوزراء لا يشبهون حكومة «المنظومة» التي أعيد استنساخُها، وبدوا إستثناءً يليقون بالمرحلة الإستثنائية والمهمة الإستثنائية والوجع الإستثنائي.

ثمة أسماء لامعة وأخرى مغمورة... لكن على ذمة شكسبير فإن «ليس كل ما يلمع ذهباً». وحدها التجربة المعاشة في زمن «الموت» اللبناني دلّت من دون الحاجة إلى الأصابع، على مَن هم أهل خبرة وثقة وقرار حر.

عرف اللبنانيون من بين هؤلاء وعن ظهر قلب، عباس الحلبي، المثقف، وداعية الحوار وحارس التجربة اللبنانية. وفراس أبيض، الطبيب المناسب في المكان المناسب بعدما شكلت تجربتُه خط الدفاع الأول في زمن «كورونا».

أما الأكثر حضوراً في يوميات اللبنانيين وتَماساً مع مآسيهم وتَفاعُلاً مع فواجعهم فهو ناصر ياسين، الذي إختيرت له وزارة البيئة وكان يمكن أن يكون سوبر وزيراً لحقائب الناس في لحظة الإطباق على أنفاسهم.

يكفي تصفُّح C.V هذا الأكاديمي، الناشط، المثابر، الباحث، المُبادِر والمسكون بـ «الهمّ الإنساني» وإرادة التغيير... يقيم في «عرين» الجامعة الأميركية ومَيادينها الكثيرة، وفي «الإنتفاضة» قبل 17 أكتوبر 2019 وبعدها.

الوزير الآتي من خارج «المنظومة» لا يقيم وزناً لـ «الشعاراتية» ولا هو طوباوي... علوم وأبحاث وأرقام في مقاربة أصل الإنهيار وأبواب الإصلاح في بلادٍ تدار خبْطَ عشواء على أيدي مجموعةٍ إحترفت سياسة «الغاية تبرر الوسيلة» ومعها كل هذا الهذيان الذي يهدد لبنان بالزوال.

ناصر ياسين، حائز على شهادة ماجستير في علوم السكان من الجامعة الأميركية في بيروت العام 1997، وعلى ماجستير في علوم الإنماء من جامعة London School of Economics عام 2003، وعلى دكتوراه في علوم التخطيط من جامعة University College London العام 2008.

هذا الرصيد العلمي المتعدّد الميدان رشّحه لإحتلال مواقع قيادية، فهو شغل منصب مدير مؤسسة عصام فارس للسياسة العامة والعلاقات الدولية بين 2019 و 2020، ومدير البحوث في المؤسسة عيْنها منذ عام 2014. أستاذٌ في كلية علوم الصحة منذ عام 2019، ومدير تنفيذي في مركز البحوث عن السكان والصحة في الجامعة الأميركية في بيروت بين 2008 و 2009، ومؤسس وحدة التدريب في كلية علوم الصحة في الجامعة الأميركية بيروت بين 2009 و 2012.

أكثر التجارب تأثيراً، التي جعلتْ الوزير ياسين في قلْب الحدَث اللبناني، في وقائعه ومآلاته، كانت تأسيسه «مرصد الأزمة» البحثي لدرْس تداعيات الأزمات المتعددة وكيفية مقارباتها منذ العام 2020 والإشراف عليه، وهو الذي أصدر سلسلة تقارير تميّزت بالعلمية والصدقية، تناولت جوانب مختلفة من حياة اللبنانيين بعدما حاصرتْهم الأزمات وصاروا أمام ما يشبه «التحدي الوجودي».

ففي الوقت الذي تآكلت الدولةُ كمرجعيةٍ مع بقاء البلاد 13 شهراً بلا حكومة، تحوّلت أبحاث «مرصد الأزمة» في الجامعة الأميركية نصوصاً مرجعية يتكئ عليها الداخل والخارج للوقوف على الحقائق والظواهر والمخاطر التي تعتلي التيتانيك اللبنانية مع تَزايُد مظاهر السقوط الحر والإرتطام الكبير والفوضى الكلية وما شابه من تعابير غص بها قاموس الأزمة الأسوأ على الإطلاق.

... خطر سقوط لبنان في مرتبة الدولة الفاشلة – الهجرة الثالثة من لبنان، أرقام مفزعة وخسارة لا تُعَوَّض – تكاليف الغذاء للأسرة اللبنانية خمسة أضعاف الحد الأدنى للأجور – 3 قطاعات مهمة في لبنان تخسر مواردها البشرية – المدارس الرسمية غير مهيأة للعام الدراسي... غيضٌ من فيض الأبحاث التي أصدرها «مرصد الأزمة» بالنيابة عن الحكومة ووزرائها.

فمن مبادرة الجامعة الأميركية من أجل اللاجئين السوريين، إلى مرصد إعادة إعمار بيروت بعد الإنفجار الهيروشيمي في مرفئها، مروراً بمرصد الأزمة، أمضى ياسين سنواته الأخيرة كأنه في شخصه ومعاونيه وزراء ظِل في بلادٍ انهارتْ بين يديْ وزراء العلاقات العامة والخاصة.

ياسين، إبن البقاع، السهل الممتنع الذي كان يوماً ممتلئاً كواحدٍ من «إهراءات روما» لم يغادر القرعون (بلدته) وأخواتها المهجوسة بـ «مرض» النهر (الليطاني) وموتها رمياً بالإهمال والجشع والتلوث وسقوط الدولة. فمن على صفاف النهر خرج إلى الرحاب... ومعه عاد النهر أولويةَ الأولويات في «البيئة».

كثيرون هم الذين أخذوا على ناصر ياسين «مغامرته» الحكومية، فهم يخشون أن تبتلع المنظومةُ العملةَ النادرةَ في نصاعة الموقف وصوابيته وصدقيته. فثمة مَن يشبّه الوزير الآتي من مكان آخر بـ «حريريي» زمن رفيق الحريري الذي كان يلفّ العالم للإتيان بهم إلى مشروع النهوض كباسل فليحان ومحمد شطح وسواهما...

لا يشبه ياسين نظراء على الطاولة دخلوا مع حفاضات وضفادع وعصافير، وكان أول وصولهم شطحات هميونية على طولهم... وربما سيكون مكروهاً بعدما كان فكّك الكثير من «أساطير» الإئتلاف الحاكم المعادية للاجئين السوريين وفَضَحَ هزالتها وعنصريتها أمام الداخل والخارج على حد سواء بعدما أوفى هذا الملف الإنساني – السياسي دراسةً وبحثاً وأعلى من شأنه كقضية خارج البازار اللبناني وأمراضه المزمنة.

كان يمكن لـ «إبن الثورة» أن يكون أكثر من وزير، ربما «لجنة وزارية» في ذاته نظراً لإحاطته بالواقع ووقائعه، وهو في «البيئة» حدد إستراتيجيةً من سبع أولويات متكاملة، وربما على نحو لم يفعله سواه... حماية مصادر المياه، إدارة النفايات الصلبة، المقالع والكسارات، الصيد البري، حماية الغابات، الحد من الإنبعاثات وحماية الهواء، وضْع أسس إنتاج الطاقة البديلة.

لن يتاح لناصر ياسين ترجمة إستراتيجيته وما في جعبته من مهمات وأفكار في غضون ثمانية أشهر، وهي العمر الإفتراضي لحكومةٍ عليها الرحيل بعد إشرافها على الإنتخابات النيابية في مايو 2022. لكن الحيّز الزمني القصير ينبغي أن يقدّم إلى اللبنانيين نموذجَ الوزير من خارج السرب الذي يمكنه القيام بدورٍ كبير... إنه التحدي.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي