No Script

رُضّع في مكبات النفايات ومرضى على حفافي الطرق وصغار بلا ألعاب ولا مدارس

في لبنان «فلذات الأكباد» يُكابِدون... فظائع الكبار

تصغير
تكبير

- والِدٌ باع ألعاب طفله البلاستيكية ليسدّ رمق العائلة
- أب مفجوع بموت طفله الرضيع باع أغراض منزله ليسدد فاتورة المستشفى
- أم اضطرت إلى بيع «شَبكتها» وبعض ما تملكه من قِطع ذهبية لتؤمّن قسط المدرسة لابنتها
- أطفال لبنان المصابون بالتوحّد... وحيدون بلا مدرستهم الخاصة

يصعب إحصاء ضحايا مَظاهر الارتطام الكبير في لبنان، لكن الصغار غالباً ما يشكّلون الحلقة الأضعف في مسلسل الأزمات الهائلة كالتي تجتاح بلاد ما بين النكبتين... النكبة السياسية التي يصنعها الكبار في أكلهم لكل «الحصرم»، والنكبة المعيشية المتناسلة من أزمات المال والنقد والاقتصاد، والتي تقبض على الناس والأنفاس في زمن يتبخر الدواء ويندر حليب الأطفال ويشح الخبز ويتلاشى الراتب ويصبح البنزين والمازوت عملة نادرة.

وثمة ظواهر غريبة ومفزعة وهستيرية أخذت تطفو على سطح الحال الجهنمية التي تفترس لبنان وتستوطن يومياته السود...

... أهل يتخلصون من أطفالهم. يرمون فلذات أكبادهم في مستوعبات النفايات. يتركون شيئاً من قلوبهم أمام أبواب المساجد ويفرون. يَدَعونهم على جنبات الطرق ويهرعون.

ورغم أن مثل هذه الظواهر «الفردية» ليست جديدة ولم تكن حكراً على لبنان، فإن تكرارها وفي وقت قصير في زمن الانهيار الشامل وكوابيسه المفجعة، يجعلها ظاهرة اجتماعية يُخشى توسعها مع تَراكُم المآسي وتَمَدٌّدها وبلوغ اللبنانيين ما هو أشد إيلاماً من البؤس الذي صار من السهل قراءة معدلاته في أرقام الفقر والبطالة والجوع والهجرة، وفي المقارنات المبكية التي يُفهم منها أن «بلاد الأرز» تقف في طليعة طابور الدول التي تمدّ يدها للآخرين ولسان حالها... «لله يا مُحسنين».

هل هو اليأس وقسوة الحياة في عهدة «جهنم»؟ هل هي الظروف الطاحنة والويلات التي لا حد لها؟... ما الذي يدفع أهل إلى رمي أطفالهم للقدَر والمجهول والفرار بأنفسهم وكأنهم يريدون النجاة على متن التايتانيك؟

ما من أحد يمكنه تقديم إجابة عن هذه الأسئلة المُرة بقدر ما أن هذه الظاهرة تكشف عن واقع مؤلم قاس لا يستوعبه عقل ولا عاطفة. وبين قلة فهْم الدوافع وإدانتها، تتأرجح الآراء فيأبى البعض أن يصدق أن ثمة أسباباً على فظاعتها تبرر التخلي عن فلذات الأكباد، فيما يؤكد آخرون أن الحياة البائسة في لبنان باتت تطرح أكثر من علامة استفهام حول قدرة الإنسان على تحمّل جبل الأزمات الهائلة والهادرى.

ما يعيشه الأهل في لبنان اليوم قاسٍ وقاسٍ جداً بكل المعايير... من تحديات الحياة اليومية الى أكثر الظروف تطرفاً وحدّة.

والوقائع التي تشهدها بلد الأرز في شكل يومي شاهِد على الصراع القاتل الذي يعيشه الأهل والخيبات التي يتلقونها بلا هوادة.

طفولة تدفع ثمن العوز والذل

أكثر من طفل في الأسبوعين الأخيريْن وُجدوا متروكين، مرميين. طفلة حديثة الولادة عُثر عليها في مرمى للنفايات تحت أحد الجسور في منطقة برج حمود الساحلية، فسارعت القوى الأمنية وهيئات الإسعاف الى إنقاذها والقيام بالإجراءات الضرورية لوضعها في مكان آمن.

وعُرف في ما بعد أن الطفلة بحالة جيدة وقد تم تأسيس ملف حماية لها لدى قاضية الأحداث في جبل لبنان جويل أبو حيدر لإجراء اللازم بحسب قانون حماية الأحداث، وأن أي إجراء لرعايتها كعائلة البديلة سيتم وفق الاصول أمام المحكمة المختصة.

وما هي إلا أيام حتى تم العثور من أحد الشبان على طفل آخَر حديث الولادة أمام باب مسجد صلاح الدين في منطقة البداوي قرب مدينة طرابلس. ورغم انتشار الخبر على مواقع التواصل الاجتماعي وترْك الشاب لرقم هاتفه للاتصال به في حال التعرّف على أهل الطفل، لم يُعرف مصير الرضيع وما آلت إليه حاله أو منّ تكفل برعايته.

وبعدها بأيام عدة وفي منطقة ضهور المنية الشمالية أيضاً وُجدت طفلة حديثة الولادة قرب مسجد الماروق وتم تسليمها للقوى الأمنية من دون أن يُعرف كذلك ما كان مصير هذه الطفلة.

أما في بلدة العقيبة الساحلية، فعثرت القوى المحلية على طفلة تبلغ من العمر خمسة أعوام مصابة بكسور في الرجلين والحوض مرمية الى جانب مستوعب النفايات على الطريق العام. وتم على الفور إسعاف الطفلة من الجهات المختصة وتسليمها الى الشرطة لاتخاذ الإجراءات القانونية.

وتُعتبر هذه الحادثة فريدة من نوعها ومختلفة عن سابقاتها إذ ان هذه الطفلة بلا شك كانت تعيش وسط عائلة رعتْها حتى هذه السن، ولكن مع تَفاقُم وضعها الصحي وربما احتياجها لجراحات أو علاجات مكلفة فضّل أهلها التخلي عنها بطريقة مؤلمة لا يمكن تَصَوُّرها ولا قبولها.

مآس ٍتطحن الأهل

العيّنات القاسية، تُقابِلُها ظروف لا تقلّ إيلاماً بالنسبة لبعض الأهل وإن تكن أقلّ تطرّفاً وفظاعة.

فالمدارس التي تعنى بذوي الاحتياجات الخاصة بدأت تقفل أبوابها واحدة تلو الأخرى نظراً لما يواجهها من أوضاع مالية صعبة لا قدرة لها على الاستمرار في ظلها.

وبالأمس أقفلت المدرسة الوحيدة التي تعنى بأطفال التوحّد وهي Autism School 123 التي تعمل على احتضانهم ودمجهم في المجتمع وتساعد عائلاتهم على توفير رعاية أفضل لهم.

وكذلك المدرسة الوحيدة في لبنان التي تهتمّ وترعى الأولاد المصابين بمرض الصرع، ما يعني أن أهل هؤلاء الاطفال الذين يواجهون في الأصل مصاعب جمة في رعاية الملائكة الصغار الذين يحتاجون الى عناية خاصة قد ازدادت الأعباء عليهم مع قفل هذه المدارس قسراً لأبوابها نتيجة نقص حاد في التمويل، فبات مستقبل صغارهم على كف عفريت.

المآسي تنتظر الأهل على كل مفترق بحيث باتت غالبية الطرق مسدودة في وجوههم، أو دونها عثرات تحتاج الى طاقة جبارة لاجتيازها.

أحد الآباء في مدينة صور وهو المواطن سليمان عبود نفذ اعتصاماً وإضراباً عن الطعام أمام دائرة النفوس في سرايا صور، احتجاجاً على عدم حصوله على إخراج قيد لابنه، ليسجّله في المدرسة.

وقال عبود الذي افترش الأرض ثلاثة أيام أمام السرايا: «إن دائرة النفوس تزعم أن لا أوراق إخراج قيد لديها والمعاملات متوقفة فيها. أنا ماضٍ بالاعتصام تعبيراً عن معاناة الناس وقررتُ الإضراب عن الطعام إلى حين حصولي على مستند قيد».

والدٌ آخَر ضجت بقصته مواقع التواصل الاجتماعي التي ذكرت غالبيتها أنه قام ببيع ألعاب طفله البلاستيكية بمبلغ 80000 ليرة للحصول على ما يسد به رمق العائلة من خبز وبعض الأطعمة، علماً ان المبلغ يكاد يعادل 4 دولارات لا غير.

فيما اضطر أبٌ مفجوع بموت طفله الرضيع ذي الأشهر الثلاثة بسبب نقص الأوكسجين في المستشفى إلى بيع أغراض منزله حسبما أوردت الصحافية والناشطة السياسية غادة عيد حين طالبه المستشفى بسداد فاتورة الاستشفاء.

كل الأهل يعانون اليوم في لبنان وما شهر سبتمبر إلا سيف مصلت فوق رؤوسهم مع العودة الى المدارس وما تتطلّبه من مستحقات مالية وتكاليف ليسوا قادرين على تأمين غالبيتها... تتنازعهم الرغبة في تأمين واحد من أهمّ حقوق الأطفال وهو التعليم، والخشية من أن يكون الحمل فوق طاقتهم.

إحدى الأمهات تقول أنها اضطرت الى بيع «شَبكتها» وبعض ما تملكه من قطع ذهبية لتؤمن قسط المدرسة لابنتها، فيما قال والد إنه مضطرّ، رغم أن القانون يمنعه من ذلك، إلى العمل في وظيفة أخرى إلى جانب عمله في مؤسسة رسمية للحصول على مبلغ إضافي يعينه على تأمين جزء يسير من احتياجات عائلته. هزيمة الإنسانية

إنها هزيمة الإنسانية حين يقف الأهل عاجزين عن القيام بواجباتهم كأرباب أسرة وتأمين المأكل والطبابة والدراسة والرعاية لأطفالهم.

ماذا يصبح دورهم وكيف تتبدل علاقتهم بأولادهم والى أين يدفعون بهؤلاء؟

أحد النشطاء العاملين في الشأن الاجتماعي في واحدة من مؤسسات رعاية الطفولة والاحداث في لبنان شرح لـ «الراي» ما يحدث متحفظاً عن ذكر اسمه:

«إن الوضع الاقتصادي الضاغط على الأهل يؤثّر بشكل مباشر على الأولاد الذين يسمعون معاناة أهلهم طوال اليوم ويتفاعلون معها سلباً أو إيجاباً.

بات الأولاد يعرفون جيداً أن الأهل لم يعودوا قادرين أن يؤمنوا لهم احتياجاتهم الأساسية، وهذا ما يعرّض علاقة الأولاد بالأهل الى التزعزع. فبعض العائلات انتقل من مستوى اجتماعي ومادي مقبول الى مستوى آخَر أقل بكثير مما عهدوه، فانتقل الأولاد نتيجة ذلك من بيئة عهدوها الى أخرى، فتغيّرت مدرستهم وأصدقاؤهم والقدرة على تلبية احتياجاتهم.

وصاروا مضطرين للتعامل مع أوضاع لم يعهدوها سابقاً كأن يشتروا كتباً مستعملة او هواتف قديمة، ولم يعد بإمكان بعضهم الدخول الى دكان الحي لشراء السكاكر أو الحصول على أي شيء يرغبون به.

وإلى هذا ينشغل الأهل طوال اليوم عن أبنائهم بالسعي الحثيث المُنْهِك لتأمين لقمة العيش، ويهملون بذلك التواصل مع الأولاد أو يجعلونهم (فشة الخلق) فيتصرفون بعصبية وعنف تجاههم ولا يصغون إليهم ولا يُشْرِكونهم في همومهم وشؤون البيت».

ويضيف: «إزاء هذا الواقع ثمة أولاد يتفهمون الأمر ولا سيما إذا استمر التواصل العاطفي الصحيح مع الأهل، فيما البعض الآخر يحمّلون الأهل وزر ما وصلوا إليه ويلومونهم على عدم قدرتهم على تلبية احتياجات أولادهم.

ومن هنا بدأنا نرى ظواهر غير صحية أكثر فأكثر مثل التسرب المدرسي، حيث هناك كثير من الأولاد ولا سيما في الفئات المعدمة يرفضون الذهاب الى المدرسة ويتوجهون الى أعمال لا تتناسب وسنهم أو يميلون الى الانخراط في نشاطات مشبوهة كالسرقة أو عِشرة السوء للحصول على احتياجاتهم الأساسية. وما يزيد الطين بلة ان بعض المدارس ودور الرعاية التي تحتضن الأولاد الذين يعاني أهلهم صعوبات مادية وأوضاعاً معيشية بائسة قد بدأت تقفل أبوابها.

وأخيراً أقفلت دار رعاية كانت تضم 130 ولداً بعدما باتت غير قادرة على تأمين مستلزمات رعايتهم ودراستهم ما ترك هؤلاء عرضة لشتى أنواع المخاطر وجعل أهلهم عاجزين عن تأمين البديل لهم».

... ظواهر غير اعتيادية يشهدها المجتمع اللبناني تصيب العائلة في الصميم وتهدد كيانها وهي آيلة الى الازدياد إذا استمر التقهقر الاقتصادي والاجتماعي... صرخة يتردد صداها في فضاء خاوٍ لا من يجيب فيه سوى أطفال إما يُتركون على قارعة الطريق أو فريسة انهيارٍ وكأنه «الموت البطيء».

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي