No Script

العراق... استحقاق آخر بعد أفغانستان

هل بدأ أفول نجم الإمبراطورية الأميركية؟

قوات أميركية في العراق
قوات أميركية في العراق
تصغير
تكبير

عام 1963 قال رئيس وزراء بريطانيا آنذاك هارولد ماكميلان، إن «القاعدة الأولى في عالم السياسة هي عدم اجتياح أفغانستان أبداً». وقد بنيت هذه القاعدة السياسية لأن الدول، عادةً، تتعلم من التاريخ لتفادي أخطاء الماضي.

لقد فقد جانكيز خان حفيده في معارك المغول في أفغانستان عام 1221، وخسرت بريطانيا الامبراطورية عند اجتياحها أفغانستان عام 1839، وخرجت لتطلق على معاركها هناك لقب «كوارث أفغانستان».

وخسر الاتحاد السوفياتي، الحرب في أفغانستان التي انسحب منها في العام 1989، أي بعد 10 أعوام من الغزو.

واعتقدت الولايات المتحدة، أنها ستنجح حيث أخفق الجميع، فتكسرت إمبراطوريتها على جبال هندوكوش الشاهقة وصفد كوخ التي تضم كهوف تورا بورا. ولكن هل ذهبت الإمبراطورية الأميركية إلى غير رجعة ؟ وهل ستكون رصاصة الرحمة في العراق عند خروجها من بلاد ما بين النهرين؟

تنتهي الحروب عندما يفوز طرف على آخر ويكون الخاسر مستعداً للاستسلام أو الخروج من البلد المحتل. وهذه النظرية لا تحتاج للكثير من الذكاء على الرغم من كثرة التحليلات والمقالات لتفسير الانسحاب الأميركي ونعته بشتى الصفات.

ولكن المشكلة تبدو ان مفكري أميركا لم يدركوا لغاية اليوم لماذا انسحب أقوى جيش في العالم من أمام قبائل متعددة القوميات وليس بالضرورة متفقة في ما بينها، تعيش في الأرياف ويقبع عدد من قاداتها، اما في سجن غوانتانامو او قاعدة باغرام، حيث الداخل مفقود والخارج مولود ولا يتمتع السجناء بأي حقوق مدنية، بحسب معاهدة جنيف لسجناء الحرب.

ويقول أكثر المفكرين السياسيين شهرة في أميركا هنري كيسنجر الذي شغل منصب وزير الخارجية ومنصب مستشار الأمن القومي في عهدي ريتشارد نيكسون وجيرارد فورد في مقاله الأخير، «ان تدمير قاعدة طالبان قد تحققت» وان «اميركا استطاعت احتواء وليس القضاء على طالبان».

إذاً لم يفهم الأميركيون سبب خسارتهم. فلا يمكن لحركة مثل طالبان أو غيرها الصمود - كما حصل لـ«داعش» في سورية والعراق - إذا لفظتها القاعدة الشعبية.

ولا يمكن لدولة عظمى مثل أميركا ان تحكم أفغانستان لمدة 20 عاماً وتطلب هي التفاوض مع قادة «طالبان» الذين وضعتهم في سجونها - مثل الملا عبدالغني برادر والملا أنس حقاني - في «غونتانامو» و«باغرام».

والأهم في الأمر ان مسؤولين في «طالبان» يقولون إنهم فوجئوا كيف طلبت أميركا إيقاف الهجمات عليها خصوصاً عند بدء الانسحاب ولم يطلبوا سوى التفاوض بين الحكومة الحالية والحركة على التفاهم لتسلم السلطة.

هذا هو الخطأ الأول ورصاصة الرحمة التي أطلقتها أميركا على نفسها، عندما طلبت تنسيق الانسحاب والجلوس مع قادة طالبان لتعترف ضمناً أنها ستغادر أفغانستان من دون عودة قواتها وأنها فشلت بعد عشرين عاماً عندما أزاحت الحركة لتستبدل الحكم الجديد بـ«طالبان» نفسها.

ولم تفهم هذه القوة العظمى أنها لن تستطيع تصدير الثقافة الغربية لأي دولة في وسط أو غرب آسيا أو أي بقعة لديها عاداتها وتقاليدها ودياناتها ومجتمعها وقبائلها وعشائرها وروابطها الاجتماعية وقواعد سلوكية خاصة بها. وهذا هو الخطأ المميت الذي ارتكبته أميركا في أفغانستان.

أما الخطأ الثاني، فهو تنصيب قادة فاسدين في الحكم أرهقوا الدولة ولم يقدموا شيئاً لبناء مقومات الحياة فيها. فما زالت أفغانستان تنوء تحت فقر مدقع وعدم استثمار لقدراتها النفطية والغازية والمعدنية الغنية جداً.

وقد ركزت أميركا اهتمامها على العاصمة كابول وتركت الأرياف، كما هي حيث شكلت هذه المناطق بيئة حاضنة لحركة طالبان التي لم تضم فقط الأكثرية البشتون بل لديها أيضاً طاجيك وأوزبيك وغيرهم.

ولم تهتم يوماً أميركا بكسب عقول وقلوب الدول التي احتلتها. فلم تنجح في أفغانستان ولا في العراق (2003) ولا في سورية (2011) ولا في لبنان الذي طردت منه عام 1983.

وعندما تفشل أميركا عسكرياً تتجه نحو العقوبات التي تزيد من نقمة الشعوب عليها لأنها تعتقد انها غير معنية بما يحدث للدول والشعوب التي تتضرر من حروبها وعقوباتها، لأن ما من أحد يملك صلاحية مساءلتها.

فقد أسقطت قنابل نووية على هيروشيما وناكازاكي في اليابان، وخاضت حرب فيتنام التي قتل فيها أكثر من ثلاثة ملايين فيتنامي، وحرب العراق التي قتل فيها أكثر من مليون شخص. وقامت أميركا بانقلاب ضد حكومات منتخبة ديموقراطياً مثل حكومة ميرزا محمد - خان مصدق في إيران عام 1952، وفي تشيلي دعمت انقلاباً ضد الرئيس سلفادور أليندي عام 1973 واللائحة تطول ولا من محاسب لأفعال أميركا التدميرية.

إلا أن الطامة الكبرى عندما أرادت أميركا من الجيش الأفغاني الذي دربته طيلة 20 عاماً ان يصمد ويقاتل ويقتل فقط ليعطي الفرصة للقوات الأميركية لتخرج بهدوء وتجلي رعاياها. وهذا دليل على أنها ليس فقط لا تأبه للاقتتال الداخلي الأفغاني، بل إنها كانت تدرك ان الغلبة ستكون لـ «طالبان» التي تمتعت بدعم محلي وقبلي على عكس أميركا وحلفائها.

يردد المفكرون الأميركيون ما قاله الرئيس جو بايدن من ان «أفغانستان بعيدة عن أميركا ولا مصالح لديها هناك».

فلماذا لم ينتبهوا للبعد الجغرافي من قبل؟ هل استطاعت أميركا القضاء على «القاعدة» التي أعلنت المبايعة لزعيم «طالبان» الملا هبة الله آخوند زادة؟ وهل العراق وسورية على مسافة جغرافية قريبة من القارة الأميركية ؟ جميعها اعذار اقبح من الذنوب لتبرير الاستثمار الفاشل.

أما الضربة الكبرى فقد أتت من نتائج الانسحاب الأميركي من دون فرصة، عندما أعلن بايدن أنه «غير معني إلا بأمن الجنود الأميركيين». وهنا صدق كيسنجر عندما قال ان «أميركا ليست لديها أصدقاء أو أعداء دائمون، فقط مصالح».

وأتى الرد سريعاً من أكبر حليف غربي لأميركا، عندما أعلن وزير الدفاع البريطاني بن والاس ان «أميركا لم تعد دولة عظمى».

وكذلك أعلن منسق «الخارجية» في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل أنه «ينبغي على أوروبا الاعتماد على نفسها وبناء جيش لها»، ليتوقف الانجرار وراء القوة الأميركية.

كانت خطوة الانسحاب الأميركي الفوضوي من دون الالتفات إلى حلف شمال الأطلسي (30 دولة) ضربة قاسية لهذه الدول خصوصاً لبريطانيا التي تعتبر نفسها الطفل المدلل لأميركا.

وهذا ما دفع الرئيس إيمانويل ماكرون إلى إبلاغ الحكومة العراقية، ان «فرنسا باقية إذا انسحبت أميركا». وكانت أوروبا هددت بالخروج مع أميركا إذا خرجت. إلا ان نتائج ما جرى في أفغانستان قد أعطت درساً لأوروبا التي وجدت نفسها مجرد أداة تستخدمها أميركا كتابع لها وليس كحليف.

هذه الخلاصات لا تعني ان أميركا لم تعد قادرة على الإيذاء. ولكن التغيير الحاصل اليوم هو دليل على ان العالم أصبح أكثر وعياً لأهداف أميركا ونتائج حروبها العبثية وانتقالها للعقوبات التي تستخدمها ضد الشعوب حين تفشل، لإيهام نفسها بانها ما زالت قادرة على إرغام الشعوب للرضوخ لإرادتها.

وبدا ان أوروبا والقارات الأخرى وعلى رأسها آسيا، بدأت تعمل لفك الهيمنة الأميركية وإيجاد السبل والبدائل التي تتناسب مع احتياجاتها وعلاقاتها الاقتصادية والسياسية. وسيتطلب هذا المسار بعض الوقت، إلا أنه لم يعد كلاماً في الهواء بل أصبح واقعاً انطلق من الصين وروسيا وإيران وفنزويلا وكوبا ودول أخرى بدأت تأخذ في الاعتبار تنوع صداقاتها واحتياجاتها...

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي