No Script

خواطر صعلوك

الرواقية من الرواق!

تصغير
تكبير

الحرية هي أن تملك نفسك وتحكمها «اتزان» وتقصر رغباتك دائماً على أن يحدث كل شيء كما يحدث فحسب «رضا»، وتعيش في توافق مع الطبيعة «تناغم» وتصبح مواطناً عالمياً «تفهم وقبول».

الحرية ليست حالة قانونية تحددها الدساتير أو إمكانية التنقل من مكان إلى آخر تحددها المطارت ومنافذ الجمارك، هي توجه عقلي للإنسان المنيع أمام الإحباط أو خيبة الأمل، لأن رغباته وقراراته تعتمد على ذاته ولا تنطوي على أي شيء خارج قدرته، لا ينقصه ما ليس في حوزته أو قدرته.

لماذا تجبر نفسك على حضور مآدب أصحاب النفوذ والبحث عن أنصار، والدخول في هوس التنافسية على المناصب والتعامل مع العرافين والسحرة والدجالين، الذين يرتدون قمصان وبدل حرامية من الدرجة الثالثة حسب تصنيف الشرطة، وتمارس ألعاباً كتلك التي كانت تمارس في الحلبة الرومانية؟

ربما كان السؤال السابق كبيراً جداً، من حيث المساحة والمسافة التي يخلقها بينك وبين العالم الخارجي، ولكن في النهاية فإنه حسب «زينون» - فيلسوف الرواقية الأبرز - فإن الحرية امتياز حصري للحكماء، أما الأشخاص العاديون، الذين يشكلون غالبية الناس، فليسوا حمقى فقط بل عبيد أيضاً.

ربما كانت العبارة السابقة قاسية على البعض، وربما كان فيها من العمومية أكثر مما فيها من الدقة، ولكن في النهاية طالما يحمل قلبك العوائق والأوهام، واعتقادك أن جسدك هو سبب فشلك، مع مجموعة من العواطف والانفعالات التي تستعبدك، وتصوراتك بأن خيرك الشخصي يعتمد على الآخرين ووجودهم، وأن قيمتك تساوي مقدار ما تملكه وما يمكن أن تتملكه، وإيمانك بالحظ المبالغ فيه... فبلا شك أن الفيلسوف الرواقي زينون كان محقاً في جزء كبير مما قاله.

ربما كانت الجملة السابقة أقرب إلى الدقة منها إلى العمومية، ولكنها أيضاً أغفلت البيئة الخارجية كلياً، وأهميتها في تشكيل الحرية أو حتى مفهوم السعادة للفرد. لا شك أنه من المهم لأي إنسان أن ينسجم مع طبيعته البشرية، ولكن أيضاً من المهم أن يتناغم مع محيطه الاجتماعي وبيئته المادية.

تأمل عزيزي القارئ هذا الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان في صحيحه وعلق عليه الشيخ الألباني على أنه على شرط الشيخين البخاري ومسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وأله سلم: «أربعٌ من السعادة: المرأةُ الصالحة، والمسكنُ الواسِع، والجارُ الصالح، والمَرْكَب الهنيء، وأربعٌ من الشقاء: المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيِّق».

وكما تلاحظ هنا فإن «من» للتبعيض وليست للشمولية، أي أن أسباب السعادة كثيرة وكذلك الشقاء، ولكن ما ذكره رسول الله - علية الصلاة والسلام - هو بعضها، ويعلمنا الحديث الشريف عن الصادق المصدوق أن هناك مؤثرات خارجية قد تكون مهمة في تشكيل المفاهيم الكبرى، ولكن أيضاً يعلمنا في أحاديث أخرى أن هناك من امتلك المسكن الواسع وتزوج المرأة الصالحة وجاور الجار الصالح، ولديه المركب الهنيء، ولكنه رغم ذلك يعيش في شقاء... هنا تصبح عبارات المدرسة الرواقية مفهومة في أن العالم والحرية والسعادة تبدأ من الداخل «الاتزان - الرضا - التناغم - التفهم والقبول»، وأن علينا جميعا اتباع منهجية «الرواء».

في الختام كان هذا المقال - الذي يدل دربه - تعليقاً على من يعتقد أن وضعك لعلم باريس كشعار في حسابات تواصلك الاجتماعي، عندما يقع تفجيراً ما في فرنسا، أو كتابة بعض الاقتباسات الإنسانية في البايو، أو مشاركتك في مسيرة تحمل فيها الشموع من أجل اقتلاع شجرة، أو ركضك في الشارع عارياً كشكل من أشكال التضامن الرمزي مع الحرية الجنسية، أو ركوبك على دراجة هوائية، وأنت ترتدي زياً نسائياً من أجل المشاركة في حملة ضد التحرش، أو رسم ألوان قوس قزح على جبهتك وخديك كدعم للمثلية الجنسية، أو سعيك الدؤوب لأن تظهر بكل ما شذ من القول أو الفعل أو الممارسة، وسعيك بمقاطع صوتية ومرئية واللهاث خلف استرعاء الانتباه عبر الانفجار الانفعالي... فإن كل ذلك لا يعبر عن انفتاحك نحو العالم وحريتك بقدر ما يعبر عن انفصالك عن كل ما هو حولك، ابتداء من الهوية والانتماء والبيئة الاجتماعية، وانتهاء بأنك لا تعلم أن كل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.

@Moh1alatwan

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي