No Script

نقد داخلَ المكان: قراءَة في السيرة الذاتيَّة لسحَر خَليفة

د. سعاد العنزي
د. سعاد العنزي
تصغير
تكبير

انتهيتُ من قراءة السيرة الذاتيَّة الأدبيَّة للروائيَّة الفلسطينيَّة سحر خليفة، المعنونة بــ(روايتي لروايتي)، وهي السيرة الذاتيَّة التي تطلَّعتُ إلى قراءتها طويلاً، وكنتُ جدّ متشوِّقة لقراءتها. على الرَّغم من بساطة العنوان وابتعاده عن البُعد الجماليِّ، إلَّا أنَّه يملك جماليته الخاصَّة، بل المفرطة في الخصوصيَّة، التي تنبع من كون سحر خليفة كاتبة فلسطينيَّة نسويَّة سخَّرت مشروعها الكتابيَّ ونضالها الإنسانيَّ من أجل قضايا وطنها المحتلِّ والنساء الفلسطينيَّات الواقع عليهنَّ عنف الحرب والاستعمار، وتبعات الثقافة الذكوريَّة المقموعة بدورها بسبب الاحتلال، فمارست قمعاً مُضاعفاً ضدَّ النساء.

منذ البداية، تبيِّن الكاتبة أنَّ النضال النسويَّ لا يقلُّ أهميَّةً عن النضال السياسيِّ، بل إنَّه، في كثير من الأحيان، يحارب سياسيّاً واجتماعيّاً، موضِّحةً أنَّ «النضالَ النسويَّ الجنسويَّ، فيه تحدٍّ وتذمُّر وتُهم جزافيَّة وعبثيَّة تصل أحياناً حدَّ التكفير والخروج من الدِّين والأخلاق. وأيضاً، قد تصل حدَّ الاتِّهامات بالخيانة الوطنيَّة وشقِّ الصفِّ. لكنَّ النضال سياسة. وطريق الحريَّة سياسة». (١١٢) ولا تنسى خليفة أن توضِّحَ صعوبة طريق النضال النسويِّ والسياسيِّ، على حدٍّ سواء، في مجتمع يعيش بدايات التأسيس المدنيِّ، وأنَّ المجتمع الفلسطينيَّ بسيط في آرائه، ولديه كثيرٌ من التصوّرات السطحيَّة، فتقول: «وما اكتشفتُ، هو أنَّنا شعبٌ مهذارٌ كثير الكلام، قليل الفعل، سقيم التفكير، عديم التنظيم». (٦٠) مؤكِّدةً أنَّ المنهزمين في دواخلهم لا ينتصرون. وهذا الرأي ينسحب على ثقافة كاملة، تعرقل الإبداع والتقدُّم، وتقف ضدَّ نموِّ المواهب وازدهار الثقافة: «كم من المواهب والإمكانات نزعتها أو أفسدتها عادات الجوِّ العامِّ وممارساته؟ كم امرأة ذات مواهب وطاقات، وكم رجلاً، فقدا بوصلتهما ولم يجداها، ولم ينجزا، لأنَّهما وقعا في المحظور، وانزلقا إلى عادات الجوِّ العامِّ، وتكرارها؟»

إنَّ رواية سحر خليفة لروايتها وسرديَّتها الخاصَّة، تخبرنا بوضوح وتركيز شديدين كيف استطاعت امرأة غير متعلِّمة، على نحوٍ كافٍ، الانقلابَ على بنية القهر والقمع المتأصِّلة في المجتمع العربيِّ، وأن تخرجَ من زواج تقليديٍّ، وترفض كلَّ مظاهر العزِّ والترف والثروة في بيت أبيها من أجل أن تشقَّ طريقها الخاصَّ بها، وتكملَ تعليمها في جامعة بيرزيت، وتبلورَ نظرتها الواقعيَّة إلى وضعيَّة المرأة حتَّى تعيشَ حياتها مستقلَّة اقتصاديّاً، إذ نجدها هنا تنظر إلى المال نظرة واقعيَّة ماديَّة بعيدة عن النظرة الرومانسيَّة الحالمة التي قدَّمتها السينما المصريَّة في بداياتها، كما تبيّن: «إذ بدأتُ أعرفُ أنِّي بتُّ وحيدةً ولا شيء يسندني ويسند ابنتي إلَّا تلك الدولارات، وأنَّ المال عنصرٌ أساسٌ من أسس التحرُّر والكرامة... وأنَّ المرأة من دون مالٍ أسيرةُ الأبِ والزوج ومن يصرف، بلا قدرة على اتِّخاذ قرار للتغيير أو حتَّى التمرُّد». (١٠٣)

بالتزامن مع الدراسة، كتبت سحر خليفة أعمالها الإبداعيَّة التي خرجت لتسرد معاناة الفلسطينيِّ من الداخل، مرويَّة من وجهة نظر نسويَّة، تقول أشياء مغايرة عن السرديَّة السائدة، ربَّما الآن أصبحت مألوفة لنا نحن القرَّاء العرب بسبب كسر الحصار عن طريق الثورة الرقميَّة، إنَّما في الماضي لم تكن بهذا الوضوح.

على امتداد (٢٧١) صفحةً، بدأت سحر من الحكاية التقليديَّة للنساء العربيَّات، اللاتي لم ينجبنَ أبناءً، فيذهب والدها، ميسور الحال، ليتزوَّج امرأةً أخرى لإنجاب الولد الذي سيحمل اسم الأسرة. إنَّما، هذه المحاولة لم تُكلَّل بالنجاح الكامل، فتبيِّن خليفة كيف أنَّ الرجال قادرون على الاستغناء والتخلِّي دائماً. وضعُ النساءِ في موقع الضحايا هو الأمر الذي تألَّمت لأجله خليفة، على حالها وحال أمِّها، حتَّى طليقة أبيها، تقول: «لماذا لا أفرح أو أشمت؟ لماذا تصرَّف أبي بتلك القسوة؟ لماذا لم يواجهها، لماذا لم ينذرها؟ لماذا عرَّضها لذلك الإذلال؟». (٤١) وهي هنا أرادت أن تقول إنَّ معاناة النساء واحدة، وكانت لها معاناتها الخاصَّة في زواجها، كما تبيِّن: «انقلب زوجي إلى كاسرٍ بعد زواج أبي. كان في أثناء وجوده يهاب ويحسب الحساب لأسباب عدَّة». (٤٥) قرَّرت الفرار من هذا الزواج الذي لم يكن مناسباً لآمالها وتطلُّعاتها، ومن هنا بدأت رحلتها في البحث عن فضاء جديد ومحطَّة جديدة تنطلق منها، فكانت جامعة بيرزيت، وتطوّراتها المعرفيَّة والجماليَّة، بداية سلسلة كفاحها من أجل القضيَّة الفلسطينيَّة، وتسجيلها لتفاصيل الحياة في فلسطين، ورصد معاناة الفلسطينيين في الداخل، بأطيافهم كافَّة.

عرضت خليفة لبعض كواليس نشر روايتها، من تلقٍّ واستجابة، بما يتراوح بين الرفض والتأييد. ثمَّ تحصل بعد ذلك على بعثة للدراسة في أميركا، وقد بيَّنت أثر هذه النقلة في تطوير وعيها وإدراكها لموقعها في الوجود، موضِّحةً أثر الثقافة الأميركيَّة فيها، وفي وعي الشارع العامِّ بالقضيَّة الفلسطينيَّة. ثمَّ تقف عند ظاهرة عدم قدرة الجاليات العربيَّة على الاستجابة والتفاعل مع معطيات الثقافة الأميركيَّة، وأنَّها حافظت على منظومة أفكارها ومعتقداتها، متسائلة عن السبب الذي يمنع من التغيير والتطوير. وهذا يثير النقاش حول مسألة اندماج الضيف بالمجتمع المضيف وثقافته، وهذا قليل جدّاً. وكأنَّ الأقليَّات حينما تذهب إلى ثقافة أجنبيَّة، تريد أن «ترضع من الذئبة من دون أن تعضَّك». بمعنى، كيف يستفيد الضيف من خيرات البلد المضيف من دون أن يحتكَّ ثقافيّاً بعادات وتقاليد ثقافة ذلك البلد؟! ما يحرم المرء من فرصة تطوير الذات. تشير خليفة إلى هذا الأمر منتقدةً نساء الجاليات العربيَّة: «تعامل بناتها كما عوملت هي في طفولتها، فتقمعهنَّ، وتوافق على تزويجهنَّ كما تزوَّجت هي، وتُعاد القصَّة من أوَّلها إلى آخرها في الجيل الجديد الذي يرث كلَّ تلك العادات والمفاهيم والسلوكات، جيلاً بعد جيل. ويظلُّ الجوُّ العربيُّ على حاله، لا يتغيَّر مهما ابتعدت به المسافات والأزمنة عن وطنه». (٢٣٨)

إدوارد سعيد في سيرته الذاتيَّة (خارج المكان)... بدأ حياته غريباً، وانتقل إلى وضعيَّة الداخليِّ، ومِنْ ثَمَّ انتهى بالعودة إلى الخارجيِّ. في كتابته بقي سعيدٌ شخصيَّة داخليَّة وخارجيَّة إشكاليَّة؛ وعلى الرَّغم من هذا، كان يدعو إلى الانتماء إلى كلِّ العالم، مثلما ترى ليلى الداخليّ أنَّه في سبيل التخلُّص من الهويَّات القاتلة، يدعونا سعيدٌ «إلى حبِّ العالم؛ أي الانتماء إلى العالم الرَّحب ذي النوافذ المتعدِّدة، نوافذ الثقافة الإنسانيَّة»، «ليلى الداخلي، 2015، ص: 142».

لكنَّ سحر خليفة، في المقابل، قرَّرت أن تعود إلى وطنها وتخرج من غربتها، تذكر: «أقول بصدق إنِّي خرجت منها وأنا أقسم ألَّا أعود إليها ثانية ما حييت، وكنت اكتشفت فيها الوجه الأقبح، ولم تعد تؤثِّر فيَّ مزاياها». (٢٣١) وهي هنا، ليست مثل وضعيَّة سعيد، نجدها تختار البقاء داخل المكان والعودة إلى الوطن في نهاية المطاف. ربَّما ذلك لأنَّها كامرأة شرقيَّة تعاني من غياب حضورها في التاريخ، ومن ثمَّ تحتاج إلى الانتماء وإثبات ذاتها وخصوصيّتها، وتنتمي إلى المكان، وإلى أرضيَّة صلبة تقف عليها، إضافة إلى رؤيتها خدمة الوطن من الدَّاخل. لذلك، بعد أن خاضت في رحلاتها المعرفيَّة والأدبيَّة المتعدِّدة اختباراً لانتمائها، ارتأت ضرورة العودة إلى الوطن بعد نيل شهادة الدكتوراه من أميركا، وخدمته من الداخل، على الرَّغم من أنَّ الثقافة الأميركيَّة شرعت لها أبوابها، وحصلت على امتيازات عدَّة، من مثل برنامج الكتابة الإبداعيَّة في جامعة إيوا وغيرها من الامتيازات.

لم تقدِّم سحر خليفة في هذه السيرة الذاتيَّة سيرتها فحسب، بل سيرة وحياة مجتمع بأكمله، نجاحاته وإخفاقاته، وعرضت معها إشكاليَّات زمن ثقافيّ ملتبس المفاهيم، والأهمّ من هذا وذاك، سيرة كفاح امرأة قويَّة قالت للمجتمع كلِّه: «لم نعد جواري لكم».

سحر خليفة، روايتي لروايتي، بيروت: دار الآداب، الطبعة الأولى: ٢٠١٨م.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي