No Script

«عملية حصان طروادة»... كتاب جديد يكشف خبايا وأسرار وراء هبوط طائرة بريطانية في يوم الغزو العراقي

قصة رُعب في مطار الكويت!

تصغير
تكبير

- الرحلة رقم 149 حملت 367 راكباً و10 أفراد من فرقة استخباراتية خاصة
- القوات العراقية احتجزت الركاب كدروع بشرية ولم تطلق سراحهم إلا بعد مرور 5 أشهر
- مهمة المجموعة الخاصة كانت التنسيق مع المقاومة الكويتية وتقديم تقارير من أرض الواقع
- جندي عراقي هدّد مضيفة ببندقية كلاشينيكوف ثم أمسكَ بها ومزّق ملابسها واغتصبها
- تم توزيع الرهائن على أماكن متفرقة وعرضهم على شاشات التلفزيون... وصدام حسين التقى 25 منهم
- طفل بريطاني ركل صدام حسين بقوة في كاحله... والديكتاتور طالب بمعرفة والديه
- التداعيات بدأت بمجرد انتهاء حرب تحرير الكويت في فبراير 1991... لماذا سُمح للطائرة بالهبوط؟
- معلومات عن أن مهمة الفرقة كانت بأمر مباشر من مارغريت تاتشر وبموافقة اللورد كينغ

نشرت صحيفة «ميل أون صنداي» البريطانية مقالاً مطولاً كتبه الصحافي المخضرم ستيفن ديفيز مستعرضاً من خلاله جوانب من كتابه المدوي الجديد الذي صدر أخيراً عن دار «جون بليك (بونيير)» للنشر بعنوان «عملية حصان طروادة» (Operation Trojan Horse)، وهو الكتاب الذي يفجر مفاجآت مدوية تصل إلى الكشف عن مدى تغلغل أجهزة الاستخبارات البريطانية، حيث تتمحور فصول الكتاب حول طائرة ركاب بريطانية جرى تسييرها بتاريخ 1 أغسطس 1990 قبل ساعات قليلة من بدء الغزو العراقي للكويت، وأن رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك مارغريت تاتشر وجهاز MI6 الاستخباراتي البريطاني كانا قد خططا سراً لهبوط تلك الطائرة ترانزيت خصيصاً في مطار الكويت لأنها كانت تحمل على متنها فرقة مهام استخباراتية خاصة، وأن تلك المغامرة غير المحسوبة أدت إلى كارثة إنسانية تمثلت في قيام صدام حسين باحتجاز جميع ركاب وأفراد طاقم تلك الطائرة كرهائن واستخدمهم كدروع بشرية.

ويخلص مؤلف الكتاب إلى أن السلطات البريطانية قد تسترت على التفاصيل الخاصة بتلك العملية وضللت الرأي العام البريطاني لسنوات.

نستعرض في التالي أهم ما جاء في الكتاب الذي يقع في 320 صفحة والذي يحمل عنوان: «عملية حصان طروادة» (Operation Trojan Horse)، والذي يقول مؤلفه إنه يقدم «القصة الحقيقية لسر الرحلة 149 والتستر الحكومي الأكثر إثارة للصدمة خلال الثلاثين عاماً الماضية.

367 راكباً وفرقة من 10 شبان

بينما كان عالقاً في زحام حركة المرور على الطريق رقم M3 خلال توجهه بسيارته للعمل في مطار هيثرو اللندني في يوم 1 أغسطس 1990، كان كلايف إيرثي - الذي كان آنذاك مدير خدمات مقصورات الركاب لدى الخطوط الجوية البريطانية - ممتلئاً بشعور داخلي بوجود خطر منذر وهو يستمع إلى نشرة الأخبار عبر مذياع السيارة.

ولأنه كان قد سبق له أن طار في رحلات جوية طويلة على مدار أكثر من 20 عاماً، فإنه كان معتاداً على التعامل مع ركاب مرعوبين من الطائرات، وركاب سكارى، وشجارات بين الركاب، وحتى حالات موت مفاجئ بين الركاب، كما أنه طار عبر عواصف شرسة.

لكن على الرغم من كل ذلك، فإنه شعر بقلق من الأخبار التي أفادت بأن قوات من الجيش العراقي كانت محتشدة بأعداد كبيرة على الحدود العراقية المشتركة مع دولة الكويت التي كان من المقرر أن تتوقف رحلته فيها كمحطة ترانزيت في طريقها إلى الهند ثم ماليزيا. ومع ذلك، انضم كلايف في ذلك اليوم إلى 17 آخرين من أفراد طاقم الرحلة و367 راكباً من جنسيات مختلفة على متن الرحلة رقم 149 التي كانت وجهتها النهائية هي العاصمة الماليزية كوالالمبور.

وإدراكاً منه لوجود مشاعر قلق واسعة النطاق بين الركاب، قام كلايف بطمأنتهم بأن أعلن عبر ميكروفون الإذاعة الداخلية لطائرة الخطوط الجوية البريطانية أن الحكومة قد أكدت لهم أن «السفر إلى الكويت آمن» وأنه «إذا ظهرت أي مشاكل، فسيتم تحويل مسار الرحلة». تنفّس الركاب الصعداء، حتى أن البعض صفقوا تعبيراً عن ارتياحهم. وقبل إغلاق أبواب الطائرة بقليل، صعد إلى متنها مجموعتان من الركاب المتأخرين. المجموعة الأولى تألفت من عضو رفيع المستوى في الأسرة الكويتية الحاكمة، والثانية تألفت من تسعة أو عشرة شبان يتمتعون بعضلات مفتولة وجلسوا جميعاً في المقاعد التي في مؤخرة الطائرة. وقال أحد الركاب إن هؤلاء الشبان كانت قسماتهم وسماتهم عسكرية الطابع.

«كل شيء في مطار الكويت يبدو طبيعياً»

أقلعت الرحلة رقم 149 في الساعة 7.04 مساءً بتوقيت لندن. وبعد مرور ساعات قليلة - وبينما كانت الطائرة محلقة فوق البحر الأبيض المتوسط - تلقى قائدها الكابتن ريتشارد برونياتي رسالة من طيار آخر على متن طائرة ركاب أخرى تابعة للخطوط الجوية البريطانية كانت منطلقة في الاتجاه المعاكس إلى لندن.

كان ملخص تلك الرسالة هو:«كل شيء في مطار الكويت يبدو طبيعياً».

لكن الحقيقة هي أن تلك الطمأنة لم تكن صحيحة. فلقد كان الحاصل آنذاك هو أنه تم إرجاع رحلات جوية أخرى كانت متجهة إلى الكويت بعد تحذيرها من أنه سيتم إغلاق مطار مدينة الكويت الدولي«لأسباب أمنية».

في تلك الأثناء، كانت الدبابات العراقية ومركبات الدعم قد اكتمل احتشادها على طول الحدود مع الكويت على امتداد البصر، ثم بدأت زوارق بحرية حربية في إطلاق وابلاً تلو الوابل من القذائف المتفجرة.

هبوط الطائرة

وعند الساعة الثالثة فجراً بتوقيت الكويت بتاريخ الثاني من أغسطس، اتصل تشارلز باول - مستشار السياسة الخارجية - برئيسة الوزراء آنذاك مارغريت تاتشر خلال حضورها مؤتمراً في ولاية كولورادو الأميركية، وأبلغها بأن صدام حسين قد غزا دولة الكويت.

وفي الساعة 4.13 من صباح ذلك اليوم، هبطت رحلة الخطوط الجوية البريطانية رقم 149 في مطار الكويت الدولي، لتبدأ الأحداث الدراماتيكية بأن احتجزت القوات العراقية ركاب وأفراد طاقم الطائرة واحتجزتهم كرهائن لاستخدامهم كدروع بشرية، ولم تطلق سراحهم إلا بعد مرور خمسة أشهر، وعانى كثيرون منهم لاحقاً من أزمات ما بعد الصدمة.

مهمة «غير رسمية»

في ذلك الوقت، كان الصحافي ستيفن ديفيز كاتب هذا المقال يعمل لصحيفة «صنداي» اللندنية، وكلفه أحد رؤسائه بأن يقوم بإجراء تحقيق استقصائي صحافي لاستكشاف جوانب تلك القصة.

وفي سياق ذلك التحقيق الممتد، استمع ديفيز على مدار سنوات عدة إلى روايات وشهادات عدد من أولئك الرهائن، ومن بينهم امرأة شابة وصفت كيف حاولت الانتحار مراراً وتكراراً لأنها لم تتعافَ مطلقاً من المحنة النفسية التي عاشتها خلال فترة احتجازها كرهينة.

وقال ديفيز إنه استمع إلى مضيف طيران سابق تحدث إليه عن معركته المستمرة طوال حياته مع الخوف الذي شلَّ حياته وأدى في النهاية إلى إنهاء حياته المهنية كمضيف. كما استمع ديفيز إلى رهائن آخرين سردوا حكايات مروعة عن عمليات اغتصاب واعتداءات جسدية وعمليات إعدام وهمية والاقتراب من الموت جوعاً.

كان تقدير الموقف متأخراً جداً لوقف غزو قوات صدام حسين للكويت، ولكن كان على الحكومات الغربية أن تضمن عدم استمرار ذلك الغزو والاحتلال. لذلك، قررت بريطانيا إرسال فرقة نخبة مختارة - بعضهم عسكريون وبعضهم الآخر موظفون حكوميون في أدوار غير رسمية - إلى الكويت قبل بدء الغزو العراقي.

دور المجموعة الخاصة

كان مقرراً لأفراد تلك المجموعة الخاصة (الذين وصلوا متأخرين إلى متن الطائرة) أن يقوموا بالتواصل والتنسيق مع شبكة المقاومة الوطنية الكويتية، وتقديم تقارير من على أرض الواقع عن تحركات القوات العراقية وعن مستودعات إمدادات الوقود ومستودعات التخزين العسكرية، وتوجيه الضربات الجوية الغربية لتدميرها.

جرت مناقشات مفصلة حول أفضل طريقة لإدخال أعضاء ذلك الفريق الخاص إلى الكويت، وكان هناك إجماع على أنها يجب أن تكون طريقة سريعة وموثوقة وتتفادى المعابر الحدودية ونقاط التفتيش. وفي النهاية، تقرر سفر أعضاء الفريق مباشرة إلى الكويت، ووقع الاختيار على رحلة الخطوط الجوية البريطانية رقم 149 التي كان مقرراً لها أن تتوقف في مطار الكويت كمحطة «ترانزيت» خلال رحلتها إلى وجهتها النهائية في ماليزيا.

«اخرجوا! اخرجوا!»

وبمجرد هبوط الطائرة، غادرها الركاب ذوو المظهر العسكري بسرعة وهدوء، بينما اختار معظم المسافرين الباقين عدم النزول وغلبهم النعاس في مقاعدهم أثناء قيام عمال النظافة بعملهم.

وعندما نظرت طفلة من الركاب تدعى جينيفر تشابيل (12 عاماً) - والتي كانت في طريقها إلى الهند حيث يعمل والدها - عبر النافذة المجاورة لمقعدها إلى أجواء شبه المطار المظلمة رأت ثلاث طائرات مقاتلة تحلق بسرعة وعلى ارتفاع منخفض جداً. ثم حصل صوت مدوٍ ارتجت بسببه الطائرة بعنف فارتعد الناس في مقاعدهم، وتدافع بعضهم البعض وصرخوا:«اخرجوا! اخرجوا!». ونظراً إلى أن خزانات وقود الطائرة كانت تحوي 57 ألف غالون من الوقود، فلقد كانت الطائرة بمثابة قنبلة موقوتة قابلة للانفجار إذا حاولت الإقلاع بينما كان جنود عراقيون يشقون طريقهم إليها عبر المدرج في مطار الكويت الدولي. فضربة واحدة كانت كافية لتحولها إلى كتلة نيران عملاقة. وسرعان ما بدأ ركاب الطائرة وأفراد طاقمها في الركض في اتجاه صالات المطار بينما كانت قنابل تنفجر بالقرب منهم هنا وهناك.

وفي الأفق البعيد نسبياً، كان يمكنهم رؤية دبابات وجنود مشاة، حيث كانت قوات عراقية تحاصر المطار. وهكذا تقطَّعت السُبُل بركاب الطائرة وأفراد طاقمها في ساحة المعركة. وسرعان ما سيطر الجيش العراقي على زمام الأمور، وجمعهم في حافلات ونقلهم إلى فنادق قريبة من المطار.

الاغتصاب...«لهو ومرح»!

وقالت مضيفة الخطوط الجوية البريطانية، نيكي لوف، إنها عندما فتحت ستائر نافذة غرفتها في فندق ريجنسي بالاس وأطلت منها، رصدها جنود عراقيون وأومأوا إليها من أسفل بإشارة تعبر عن الإعدام شنقاً.

وفي وقت سابق، عندما قامت مضيفة أخرى بالتفتيش أسفل مقاعد الحافلة بحثاً عن متعلقات بعض الركاب، اعترضها جندي عراقي وهددها ببندقية كلاشينيكوف (AK-47) ثم أمسك بها ومزّق ملابسها واغتصبها.

سمع زميلها المضيف طاهر ضاهر صراخها فصاح على الجندي بغضب طالباً منه التوقف عن ذلك، فأجابه جندي آخر:«إنه يلهو ويمرح معها فقط». فصرخ فيه ضاهر بغضب:«هذا لهو؟ هذا مرح؟ اغتصاب فتاة هو لهو ومرح؟».

وبعد أن وصل ضابط عراقي وأخبره موظف الخطوط الجوية البريطانية كليف إيرثي بما حدث، طلب من المضيفة التعرف على الجندي الذي تم اقتياده بعيداً باتجاه الشاطئ. وبعد دقائق، انطلقت طلقات نارية وتم إعدامه.

هروب... وبقاء

أراد بعض الرهائن المحتجزون أن يخططوا للهروب قبل أن يغلق العراقيون الحدود، لكن رهائن آخرين ارتأوا ضرورة البقاء جميعاً وعدم الفرار على أمل أن يتم إطلاق سراحهم.

في تلك الأثناء، ومع تزايد قلق أقارب وأصدقاء الرهائن، ظلت الحكومة البريطانية مصرة على قول: لا تقلقوا، يتم الاعتناء بالجميع – معظمهم يقيم في فنادق فاخرة.

وخلال مؤتمرات ومقابلات صحافية، تساءل إعلاميون آنذاك عن سبب السماح لتلك الطائرة بالهبوط في مطار الكويت، فقيل لهم إنها كانت هبطت هناك قبل وقت طويل من بدء الغزو العراقي وأن الأمر كان مجرد «سوء حظ» عندما علقت الطائرة بعد ذلك على أرض المطار.

وفي الحقيقة، كانت حياة الرهائن تزداد قتامة يوماً بعد يوم. وهرب عدد قليل منهم، بمن فيهم النقيب برونياتي، إلى منزل كويتي آمن. وبالنسبة للباقين، أمرتهم القوات العراقية بالاستعداد لمغادرة الفندق، لكن الوجهة كانت غير معروفة.

وبحلول ذلك الوقت، كان السياسيون في لندن وواشنطن يحاولون تحديد ما إذا كان غزو الكويت هو نهاية مغامرة الجيش العراقي أو ما إذا كان الهجوم على السعودية هو الهدف التالي النهائي الذي كان من شأنه أن يمنح صدام حسين سيطرة خانقة على شريان النفط المغذي لاقتصادات الغرب.

رهائن في أماكن متفرقة

في غضون أول أسبوعين بعد الغزو العراقي للكويت، جرى توزيع الرهائن الغربيين الذين كانوا على متن الرحلة 149 وغربيين آخرين ممن كانوا مقيمين أصلا في الكويت على أماكن متفرقة: إلى العراق لاتخاذهم دروعاً بشرية؛ أو تحت الحصار في مبنى سفارة الولايات المتحدة لدى الكويت؛ أو نقلهم إلى بغداد في قوافل؛ أو في داخل معسكرات تحت حراسة جنود عراقيين.

في أحد المعسكرات في الصحراء الكويتية، نجح بعض أولئك الرهائن في توليف تردد إذاعة«بي بي سي»البريطانية وراحوا في كل ليلة يستمعون إلى تقارير عن بدء حشود هائلة لقوات الحلفاء (في مناطق قريبة من الحدود الكويتية). وهكذا، كان واضحاً أن حرباً جديدة ستندلع قريباً في المنطقة، وكانوا هم عالقين في وسط المعمعة.

بعد ذلك، حمل البث الإذاعي إليهم بعض الأخبار السارة التي كان مفادها أن صدام سيترك جميع النساء والأطفال ليغادروا عائدين إلى أوطانهم. ولكن كان من المقرر في الوقت ذاته وضع الرهائن الغربيين المتبقين في مواقع استراتيجية لمنع قصف الحلفاء لأهداف معينة في الكويت والعراق، وتحديداً المنشآت النووية والكيميائية والصناعية والعسكرية.

وتم نقل مضيف الخطوط الجوية البريطانية تشارلز كريستيانسن إلى قاعدة محمد صالح الصاروخية التي توجد على بعد نحو 65 كيلومتراً من العاصمة العراقية بغداد، والتي كانت هدفاً رئيسياً لغارات قوات الحلفاء. وقيل لكريستيانسن ولزملائه الرهائن إنه سيُطلق عليهم الرصاص فوراً إذا حاولوا الهرب.

إعدام وهمي ... واجتماع مع صدام

وفي أحد المعسكرات العراقية في البصرة، أخذ عضو بارز في حزب البعث الحاكم - الذي كان يكره الغربيين - أربعة رهائن ليلاً، وأجبرهم على الركوع بجانب خندق وأمر جنوده بالاصطفاف خلفهم. سمع الرهائن الأربعة صوت تعمير أجزاء بنادق. لكن لم يتم إطلاق أي طلقات: لقد كانت تمثيلية إعدام وهمي. وبعد ذلك، تمت إعادة الرهائن المصدومين والمفزوعين نفسياً إلى المعسكر.

كما تم عرض العديد من أولئك الرهائن الغربيين على شاشات التلفزيون العراقي في عملية دعائية مضاة. وكانت أسوأ نقطة هي اجتماع تم تنظيمه ليجمع بين 25 رهينة (بعضهم من ركاب الرحلة 149) وبين صدام حسين شخصياً. واستدعى الديكتاتور العراقي الطفل البريطاني ستيوارت لوكوود البالغ من العمر خمس سنوات، والذي كان والده يعمل في صناعة النفط، مرتدياً قميصه وبنطاله القصير، كان الطفل ستيوارت صورة مجسدة للبراءة. ورأى مشاهدو التلفزيون حول العالم صدام الغاضب وهو يربت على رأس الصبي الصغير وهو يحدق في والديه ويطوي ذراعيه ويبسطهما في توتر شديد. وفي وقت لاحق، وبعيداً عن عدسات الكاميرات، قام طفل بريطاني آخر بركل صدام حسين بقوة في كاحله، وطالب الديكتاتور بمعرفة والديه، لكن لم يكن هناك رد، ثم عاش ذلك الطفل ووالديه ليرووا تلك الحكاية لاحقاً.

من بغداد إلى إنكلترا

وبحلول شهر ديسمبر، كان لدى العراق 200 ألف جندي في الكويت، حيث تخندقوا جيداً استعداداً لصد الهجوم المرتقب، حيث كان في مواجهتهم تحالف من قوات غربية وعربية بقيادة الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الأب، وهو التحالف الذي بلغ تعداده في النهاية 250 ألف جندي. لكن صدام عاد ليخدع الجميع مرة أخرى.

فبعد ظهر يوم 6 ديسمبر، صدر بيان إخباري عراقي قصير قال إنه سيتم الافراج عن جميع الرهائن. تم وضع الرهينة البريطاني جون تشابل على متن رحلة جوية من بغداد إلى إنكلترا. وقال تشابل:«عندما هبطنا في مطار غاتويك، كاد دوي أصوات الهتافات الحماسية أن يحطم زجاج نوافذ الطائرة».

البحث عن الحقيقة

لكن التداعيات بدأت بمجرد انتهاء حرب تحرير الكويت في فبراير 1991.

فلقد كان الركاب الفرنسيون أول من تساءلوا مطالبين بتفسير: لماذا سُمح للرحلة رقم 149 بالهبوط بينما كان الغزو العراقي قادماً إلى الكويت؟ ركّز الفرنسيون على تصريح سابق كانت السيدة مارغريت تاتشر أدلت به عندما قالت إن تلك الطائرة قد هبطت قبل فترة طويلة من بدء الغزو. لكن الواقع هو أن الاجتياح العراقي كان قد بدأ فعلياً عندما كانت الطائرة على بُعد أربع ساعات فقط من الكويت، كما كانت هناك تحذيرات لا حصر لها. وكان هناك آخرون يحاولون أيضاً كشف جوانب الحقيقة. فلقد استمع كلايف إيرثي، مدير خدمات مقصورة الركاب في الرحلة رقم 149، إلى مجموعة الشبان مفتولي العضلات الذين استقلوا الطائرة في اللحظة الأخيرة وكان لديهم تذاكر مشفرة لحساب عسكري وتم فحصهم على متن الطائرة في مطار هيثرو من جانب زميلته كارول مايلز، التي غادرت شركة الطيران لاحقاً لتتولى وظيفة في وزارة الدفاع البريطانية.

أمر مباشر من مارغريت تاتشر

وأكد مصدر من داخل جهاز MI6 البريطاني وجود علاقات وثيقة تربط بين الخطوط الجوية البريطانية وبين أجهزة الاستخبارات، وبعد سنوات عدة اكتشف كاتب المقال الذي نشرته صحيفة «ذا ديلي ميل» أن كابتن الطائرة (الرحلة رقم 149) الكابتن ريتشارد برونياتي كان أحد عملاء جهاز MI6! كما أكد ناثانيال هاول، سفير الولايات المتحدة آنذاك لدى الكويت، أنه قد تم إبلاغه بأن الرحلة 149 هبطت وعلى متنها فريق استخباراتي وقوات خاصة سرية. وفي وقت لاحق، تم إعطاء كاتب المقال تفاصيل عن السجلات العسكرية لبعض أعضاء ذلك الفريق – بمن فيهم واحد اتضح أنه كان يدير شركة أمنية خاصة في منطقة إيست أنجليا في إنكلترا.

وكشف مصدر من داخل القوة الجوية الخاصة (SAS) أنه كان هناك فريق عسكري سري على متن تلك الرحلة، وأن ذلك الفريق كان يعمل لحساب مجموعة سرية للغاية تسمى Inc ويديرها جهاز MI6. وفي العام الماضي، قام أنتوني بايس – الذي كان ضابط MI6 في السفارة البريطانية في الكويت آنذاك – بالإفصاح عن أنه يعتقد أن مهمة تلك الفرقة كانت بأمر مباشر من السيدة مارغريت تاتشر وبموافقة صديقها اللورد كينغ الذي كان آنذاك رئيس مجلس إدارة الخطوط الجوية البريطانية.

أضرار نفسية

ولم يتعافَ معظم ركاب وأفراد طاقم الرحلة 149 من محنتهم النفسية، حيث عانى بعضهم من مشاكل صحية طويلة الأمد أو احتاجوا إلى علاج نفسي. وكانت هناك حالات ومحاولات انتحار، وخسر أكثر من نصف الرهائن وظائفهم أو منازلهم.

كانت الراكبة الطفلة جينيفر تشابيل تبلغ من العمر 12 عاماً ولديها سجل مدرسي جيد، لكن هذه المحنة أدت إلى سنوات من المشاكل النفسية والاحتياج إلى جلسات علاج نفسي، بل وحاولت تشابيل الانتحار مرات عدة. وقالت لكاتب المقال:«إنه هاجس ما زلت أتعامل معه. نحن ما زلنا نستحق إجابات حقيقية من الخطوط الجوية البريطانية ومن حكومتنا. لا يمكنني أن أصدق أنهم كانوا لا يدركون ما الذي كان يحدث قبل إرسال تلك الطائرة. أنا أعتقد أنه جرى استغلالنا».

تدمير الطائرة... وإخفاء الحقيقة

وقد تم تدمير طائرة الرحلة (في مكانها على أرض مطار الكويت) من جانب طائرات مقاتلة أميركية بناءً على طلب من جانب البريطانيين. والسؤال هنا هو: هل كان ذلك لطمس الإحراج الناجم عن إحراز الحكومة البريطانية هدفاً في مرماها أم كان للتستر على شيء آخر؟ يبدو أنه قد تم قمع الحقيقة باستخدام جميع الأدوات الموجودة في ترسانة حكومتي لندن وواشنطن – ابتداء بالإنكارات ووصولاً إلى التعتيم على التواريخ والجداول الزمنية.

لكن التستر ارتكز طوال الوقت على أساسات مهتزة، ومع مرور الوقت بدأت ألواح التستر تتساقط واحداً تلو الآخر.

فإخفاء الحقيقة كان أسهل بكثير في العام 1990، حيث لم تكن هناك هواتف نقالة للتصوير أو البث المباشر للأحداث، ولم تكن هنالك وسائل تواصل اجتماعي تكذب التصريحات الرسمية. وكان من الممكن آنذاك تصديق أن الديموقراطيات الغربية لا يمكن أن تخوض حرباً على أساس معلومات استخباراتية مشوهة، وأنه من غير الممكن أن يكذب قادة الدول الغربية على مواطنيهم.

ولكن بعد مرور نحو 30 عاماً، من المشين أن يتضح أخيراً أن قد تم قمع الحقيقة لفترة طويلة وأنه قد قيل الكثير من الأكاذيب. وإنه لأمر لا يغتفر أن يتضح أن قصة الدروع البشرية - ضحايا عملية احتجاز رهائن جماعية عانوا شهوراً من الرعب وعقوداً من المعاناة - قد تم التستر عليها عمداً.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي