No Script

خواطر صعلوك

بث إذاعي... مكتوب!

تصغير
تكبير

في مرحلة ما من مراحل التاريخ السّحيق كان الإنسان يخاف من النار، ويقدّسها، لقد كانت مرحلة طفولة في المعتقدات والتصوّرات البشرية، ولكنها نضجت وبلغت مرحلة الوعي والإدراك، وأصبح الإنسان الذي كان يعبد النار قادراً على وضعها في «الولاعة»، التي بدوره يضعها في جيبه، ولكنه ظلّ كما هو إنسان تحوي نفسه التقوى والفجور، فمن الممكن أن يحرق بالولاعة غابة بكاملها، ومن الممكن أن يحرق البخور لمن حوله.

المنطق نفسه ينطبق على وسائل الإعلام، ففي الكويت - على سبيل المثال وتحديداً في عام 1951م - انطلقت الإذاعة الكويتية وبدأ أول بث للإرسال الإذاعي من خلال جهاز متواضع في المبنى العام لمدة ساعتين يومياً، ثم ظهرت دائرة المطبوعات والنشر والإرسال التلفزيوني وتضخّمت وزارة الإعلام أقساماً وقطاعات، ثم نجح الإنسان فجأة ومن دون سابق إنذار أن يضع كل الإعلام في «هاتف»! وما بين الولاعة والهاتف... نتحدث عن مجلس الأمة اليوم.

في مقال في مجلة كويتية وصف صقر الرشود «رحمه الله» عام 1968م حال الشباب الكويتي بعد النفط، بأن «كل شيء صار نهب المفاجأة والمصادفة، كما صار مندفعاً بقوة المادة وحدها، فكان للاقتصاد كل الأثر في تغيير الإدارة السياسية وجغرافية المدينة والأخلاق والقيم والسلوك وطريقة التفكير، ثم جاء التثمين فباعد بين الناس وشكّل نفسيتهم على أساس التباعد، ووزّعت المراكز الوظيفية على غير أساس ثابت».

وأضاف: صار كل شيء يتغيّر بسرعة، مضاعفات اقتصادية ومشاريع كبيرة بنائية وتجمعات شخصية ومشاكل الدستور والقوانين، وميزانيات إضافية وبرلمان ومناورات سياسية واتجاهات فكرية وصحافة وأجهزة إعلام وأدوات سياسية... كل هذا حدث في فترة قصيرة جداً، لم يؤهل المجتمع فيها نفسياً وفكرياً للمواجهة واللقاء، ولم يكن له أيّ اختيار بين التقدّم والتوقّف. انتهى.

ورغم أن هذا المقال كُتب في سياقه وقتها، إلا أن أجزاء كبيرة منه مطابقة لما يحدث اليوم في مجلس الأمة تحديداً، والذي تحوّلت أدواته الرقابية إلى أدوات تأزيمية، وبعد تجربة برلمانية طويلة وخبرات متراكمة وبحوث دستورية عديدة، ما زلنا نسمع عن «حلّ غير دستوري» واستجوابات شخصية، وأعضاء برلمان يتكلمون باسم الجميع عدا دوائرهم، وتداخل اختصاصات ما بين السياسة العامة للدولة، وما بين رغبات بعض النواب الشخصية، واستقالة حكومات بعد أقل من شهر... لقد نجحنا في أن نضع النار في «ولاعة» والإعلام في «هاتف»، وفشلنا في أن نضع مجلس الأمة على الطريق التنموي الصحيح أو على طاولة الحوار. لقد أصبح العالم مفتوحاً وصندوق ديموقراطيتناً مغلقاً... ثم سرقوا الصندوق ونحن نصيح «المفتاح معاي»!

عموماً عزيزي القارئ بما أننا في بث إذاعي مكتوب في صحيفة، فدعونا نستمع إلى هذه الأغنية: الواسطة والمذهبية والطائفية والمحسوبية والمنسوبية والشللية والرويبضية والحرامية والمهلبية والزعفران والفول والطعمية، واقتراحات برلمانية تقال في الفترة الصباحية ويُتراجع عنها في الفترة المسائية، واقتباسات عن الأوضاع السياسية منقولة من «ربع الديوانية»، وتفعيل الأدوات الدستورية والمشاهد المستقبلية الضبابية... كل ذلك وأكثر عزيزي القارئ سببه غياب تفعيل اللوائح الداخلية، وضعف النظم الإدارية وحلقة التواصل الحكومية والإملاءات البرلمانية.

كان ما سبق نغمة موسيقية في الأوضاع الحالية، وهي أوضاع تخلّصت منها الإمارات وقطر والمملكة العربية السعودية، واستفادوا من التجارب الدولية، والتقارير الدورية، من دون أن يفعّلوا أدواتهم الدستورية، ومن دون أن يأخذوا قروضاً من الصناديق الدولية، ومن دون أن ينشروا ليل نهار أن عندهم عجزاً في الميزانية. وأهلا بكم مرة أخرى بعد هذه النقلة الغنائية... ونعتذر عن إكمال البث لأسباب تقنية.

Moh1alatwan@

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي