No Script

رواق الفكر

القراءة للجميع (2 من 2)

تصغير
تكبير

... يحدّثنا التاريخ عن الشغف بالقراءة وحب الاطلاع والسعي وراء العلم، مثلما جاء عن الجاحظ الذي لم يكن يملك نقوداً لشراء الكتب فجاء في باله أن يكون حارساً ليلياً لإحدى المكتبات، مقابل قراءة كتب الوراق، مما يسّر له الاطلاع على أنواع العلوم والفكر والأدب، وقد كانت دور النشر تسمى حينها بالوراقين، والجاحظ هذا عجيب في جلَده وهمته في القراءة والاطلاع ليلاً على ضوء شمعة، حتى (طلعت عيونه) وسمي لذلك بالجاحظ كما يقولون.

ولَك أن تتصور لولا مكتبة الجاحظ هذه، التي عاش بين أوراقها وأعلامها؛ هل كنّا سنعرفه؟ فالمكتبات ودور النشر لها دور عظيم في نشر كتب العلم والثقافة والفكر، وكم من كاتب مغمور كاد أن يندثر إنتاجه لولا أن رفعت إحدى دور النشر قيمته وأبرزته إعلامياً وسلّطت عليه الأضواء.

وكذلك كانت المكتبة الوطنية - أول مكتبة تجارية في الكويت - حيث ظهرت في عام 1920 للمرحوم محمد أحمد الرميح. وبالتأكيد أن أثرها وقتئذ كان كبيراً على الثقافة في مجتمع ما قبل النفط، فالمثقفون والعلماء كانت لهم حظوة ومقام لا يستهان به.

ويكفي أن نعلم أن كبار المثقفين وقتئذ عبدالعزيز الرشيد ويوسف بن عيسى القناعي كانا عضوين في مجلس شورى 1921، في عهد الأمير الراحل أحمد الجابر رحمهم الله جميعاً.

وبما أننا نتحدث عن المكتبات فما زلت أذكر قبل أكثر من عشرين عاماً، حيث حضرت إلى قاعة المؤتمرات في مدينة نصر - أحد معارض الكتاب الدولي في المحروسة - وقد كانت قاعات المؤتمرات تضجّ بالمكتبات المحلية والدولية وبجميع اللغات؛ والأعجب أن هناك عشرات من القاعات الثقافية الصغرى، والتي لا تستوعب أكثر من خمسة عشر إلى عشرين كرسياً، والتي يقدم فيها محاضرون من مفكري وناقدي الفكر والأدب والفلسفة في موضوع ما أو قضية معينة، يحضرها المهتمون من مثقفي وكتّاب وطلاب الجامعة، وتحدث نقاشات وحوارات على الموضوع المطروح سلفاً.

وهكذا في كل أرجاء المعرض، طيلة شهر كامل تشاهد حركة علمية وثقافية، أشبه ما تكون بحركة عكاظ الأدبية في عصر ما قبل الإسلام، حينها كنت أحضر محاضرة عن شخصية تاريخية عظيمة هي هارون الرشيد، وقد كانت من أروع المحاضرات التي لا تُنسى؛ الغريب أن المحاضر كان الممثل الكبير نور الشريف، وقد تم الانتهاء للتو من عرض مسلسله الشهير على التلفزيون.

غصّت القاعة بمئات الحضور من الجنسين، ولم أجد مكاناً للجلوس، فظللت واقفاً في إحدى الزوايا منصتاً لمحاضرته، ودفاعه العجيب عن هذه الشخصية... حينها أقنعنا بالأدلة أن الرشيد كان مظلوماً في التراث العربي، وأنه كان يحج عاماً ويجاهد عاماً، وقد برع نور الشريف - رحمه الله - في سرد التاريخ بصوره وشخصياته كأنه متخصص في هذا المجال.

المهم كانت قاعات الثقافة في شهر يناير وفبراير - على ما أذكر - مليئة بالمثقفين ورواد الفكر والتخصصات المختلفة، والله إنني كنت أمشي بين قاعات المعرض الكبير وفي دهاليزه، أرفع قدميّ كي لا تدوسا الكتب والمجلات القديمة، التي يعرضها مالكوها وقد كان بعضها من المكتبات الخاصة، وهذه الأخيرة لها شأن غريب وعجيب، فهي تنتقل من صاحبها الأصلي بعد وفاته على يد ورثته، لآخر لا يعرفه لكنه يقرأ ويهتم بالعلم فيشتريها بثمن بخس، إنها حكمة الله.

وما زلت أذكر مما قرأته أن أحد الأفندية في مصر ورث عن أبيه العالم الجليل مكتبة ضخمة، باعها بعد وفاته ليسدّد ديونه ويعيش، وفي العراق أيام الحصار باع بعض المثقفين كتبهم، بحثاً عن المال لشدة الحاجة والعوز، والذين باعوا كتبهم من المثقفين والمفكرين ليعيشوا، قد لا يلامون خصوصاً في زمن رفع فيه شأن أقوام، ونزل شأن آخرين! فالمفكر الكبير صاحب العبقريات عباس محمود العقاد، باع كتبه مرتين لحاجته إلى المال؛ ويروى أنه عاش عزيزاً شامخاً ومات فقيراً!

وعلى كلٍ؛ فأحوال الكتب والمكتبات والثقافة والمثقفين لا تنتهي، ولعلي أفرد مقالاً خاصاً لرحلات المثقفين الكويتيين، وكذا من زار الكويت منهم وتأثيره على الحياة العامة.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي