No Script

«كورونا» أَخْرج حِرَفاً... من الحَجْر في لبنان

تصغير
تكبير

مع انتشار وباء «كورونا» بدا العالم وكأنه قد ولج زمناً آخَر، ولكن بعض «طقوس» العيش المختلفة التي أرستْها الجائحةُ بدت وكأنها أعادتْ عقارب الساعة إلى الوراء عبر إحياء حِرف كانت منسية.

هي لحظة استعادية تحوّلت لدى الكثيرين في لبنان، مع شهور الحَجْر وتجارب العزل وكذلك فصول الإغلاق ورفعه، أسلوبَ حياةٍ يراوح على ميزان مقياس التجربة الصحية الإستثنائية وما أوجبته من عُزلة اجتماعية، بين محاولات الإعتياد والتأقلم وبين فرصة اكتشاف الذات وما تختزنه من مشاعر ومواهب وتَوثُّب للإبداع. فالحِرف اليدوية التي كادت أن تندثر تماماً استعادت مكانتها، كما وثّقت السوشال ميديا مساحات فنيّة غير مألوفة تشكّلها الأنامل في المنازل وتُصنَّف في خانة المأكولات والديكورات وأشياء أخرى.

نسج الأمل

تبديد الخوف من المجهول وجدتْه دلال جمال الدين في حياكة الصوف. فطالِبة الدراسات العليا في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأمام التبدّل الهائل الذي أصاب يومياتها، ليس نتيجة انتشار «كورونا» فحسب بل أيضاً تحت وطأة الأزمة الإقتصادية، لمعتْ في رأسها فكرة شراء سنّارتين وكرات من خيوط الصوف لتعلُّم أصول هذه الحرفة بغرض التسلية وقتْل الملل في صباحات وأمسيات الحَجْر، وكذلك لتحقيق الربح وتأمين مدخول إضافي يخفّف الأعباء عن كاهل والديها.

لمَ الحياكة دون غيرها؟، تقول دلال (23 عاما) لـ «الراي» إنها اعتادت في سنوات الطفولة رؤية أمها منكبّة على صنع الملابس الصوفية الناعمة، وبيعها جاهزة أو تحت الطلب، محققةً أرباحاً لا بأس بها. ولأن الحياكة تتطلب الكثير من الدقة والحرفية، طلبت الشابة النصح والإرشاد من والدتها للإفادة من خبرتها، بحسب ما توضح، مردفةً أنها لجأت أيضاً إلى الإنترنت لمشاهدة الفيديوات التعليمية التي تُسَهِّلُ على الراغبين والراغبات باكتساب المهارات، الخطوات كافة.

«غير أن ما بدا سهلاً على صعيد تعلّم التقنيات واجهتْه صعوبة توافر المستلزمات، ولا سيما الخيطان» تكشف دلال، مشيرةً إلى أن الأزمة الإقتصادية طاولت أسعار ما تحتاجه في صناعتها «المتواضعة» نتيجة ارتفاع سعر الدولار، وخصوصاً وأن الطلب على عُدّة هذه الحِرفة زاد في الآونة الأخيرة. وتختم جازمةً أن المعوقات لم تثبط آمالها، بل ضاعفت مسعاها لإرضاء شغفها «الفني» وتقديم الأفضل لزبائن يتنامى عددهم بشكل يفوق التوقعات.

مونة بيتية

ميرنا خاطر (41 عاماً) تلقت بدورها سيلًا من الدعم والتشجيع من المحيط، لا سيما زوجها وأمها وكل الأهل والأقارب وحتى الجيران، للمضي قدماً في إعداد المؤونة البيتية كالمربيات والمخللات والمقطرات ومن ثم بيعها للذوّاقة، محبّي المصنوعات الغذائية البيتية الذين أعجبوا بلائحة منتوجاتها المتنوعة.

خاطر التي تكشف أن مسار العام 2020 حملها نحو ما اكتشفت فيه ذاتها فبرعت ونجحت وراكمت الآمال، تشرح لـ «الراي» أن تداعيات الأزمة المالية في لبنان فضلاً عن ظروف كورونا كانت أَفْقَدَتْها عملَها في مجال المحاسبة كما أرخت بظلالها على عمل زوجها. وبينما جهدت لإبقاء عائلتها آمنة من أي خطر، من خلال إعداد غالبية الاحتياجات الغذائية منزليا، تراءى لها في ما تفعله - وخصوصاً تحضيرها ووالدتها المربيات في مطبخها الخاص - طريقًا جدياً ليس فقط للتسلية والقضاء على الملل بل أيضاً من أجل الكسب المالي وتحقيق مدخول إضافي للأسرة.

وتقول ميرنا إنها فور تنبُّهها لهذه الفكرة التي تُعدّ في الوقت عيْنه مكسباً لكل زبون باحثٍ عن المُنتج النظيف والآمن 100 في المئة، سارعت إلى التواصل مع صديقتها التي تقطن في بعلبك لتبادُل المشورة والتعاون، كما قصدت «يوتيوب» لطرح الأسئلة والحصول على الإجابات، دون أن تغفل نصيحة الأكبر سناً ولا سيما أمها التي تثمّن مساعدتها الدائمة لها.

هذا على صعيد الإعداد، أما من جهة التسويق فإن الدعاية الشفوية لمنتجاتها تتزايد بحكم التجربة وفق ما تشير ميرنا، بينما يلعب كل من «واتساب» ومواقع التواصل الإجتماعي دوراً في الإعلان والترويج.

وماذا عن المستقبل؟ تجيب ميرنا التي تفاخر بكونها أماً لثلاث فتيات: «إزاء الواقع المشجّع، أفكر بتوسيع المشروع وافتتاح محل خاص بي أعرض فيه منتجاتي».

كعكة الفنون

بالنسبة لـ ميراي كيوف (25 عاماً)، الحائزة على إجازة في الأدب العربي والطالبة في قسم التصميم الداخلي، لم يكن مشروعُ إعداد قوالب الكيك الخاصة بالمناسبات وأعياد الميلاد منزلياً أمراً ممكناً لناحية توافر الوقت اللازم قبل الإقفال الذي فرَضه وباء «كورونا». علماً أنها كانت ترغب في جعل كل من طريقة التحضير وأساليب التزيين فسحةً فنية للتعبير منذ زمن، إلا أن انشغالات الحياة بين الدراسة والعمل في مجال التعليم حالا دون ذلك.

البداية وفق ما تقول الشابة لـ «الراي» كانت «لدى إعدادي كعكةً مميزة في عيد ميلاد أخي. ومع استمرار الإقفال وتَزايُد الإقبال على كل ما هو منزلي ونظيف حضّرتُ كعكات بتصاميم أخرى جميلة ومبتكرة للأقارب ومن ثم الأصدقاء. وهكذا، وبتأثير من التشجيع وبحافز من الثناء والدعم انطلقتُ في مشروعي الخاص واشتريت العدّة المطلوبة لعملي».

لا تتواني اليوم ميراي عن طلب مساعدة أمّها لدى عجلتها من أمرها في تسليم الطلبيات. كما يخوّلها تطبيق «انستغرام» استعراض ما أنجزتْه ويضعها على تماس مع زبائن محتملين. أما هي، فتحرص على جودة المكونات في موازاة جعل الأسعار مُناسِبة لكل الميزانيات، مع الالتزام بمتابعة اكتساب المهارات وتعلُّم الوصفات التي تطوّر أسلوبها الذي تقول في شأنه: «هو شخصيتي الحاضرة في تصاميمي، ويجمع إلى البساطة والألوان الهادئة حبي للطبخ، كما يربط شغفي بصناعة الحلويات مع موهبتي بالرسم وشغفي بالفنون».

«إحياء» الإسمنت

أمام واقع لبنان المأزوم بانهياره المالي والمكلوم بانفجار الرابع من أغسطس الذي دمر العاصمة وحصد الكثير من الأرواح، وجدتْ ميريللا صحيح، الحائزة على إجازة في الحقوق والتي تمتهن الكتابة الصحافية وتعمل كمستشارة اعلامية، في الإسمنت فسحةً لخنق الرتابة والضجر وعلاجاً لتعب الروح. فهي بحسب ما تكشف لـ «الراي» هربت من الواقع المرير والسجن المنزلي الذي فرضه الوباء باللجوء الى الفن، واختارت مادة الإسمنت الجافة كهذا الزمن لتعيد تشكيلها وتُبْرِز جمالاتها وتمنحها ألواناً تضخّ فيها الحياة.

ما الحرفة التي وقعت عليها ميريللا صدفةً فأعجبتْها وقررت مزاولتها؟ توجز الإجابة بالقول: «أثناء تصفّحي أحد التطبيقات الإفتراضية لفتني فيديو تحويل ثياب رثّة الى أحواض فنية للزراعة عن طريق مزجها بمادة الاسمنت، فتحمّستُ للفكرة، ويمكنني القول إنه كان حباً من النظرة الأولى لم يلبث أن تحوّل إلى شغف. وبتشجيع من الأهل، أنشأتُ صفحة على انستغرام لنشر»إنجازاتي الإسمنتية«بعد تحويل مطبخ والدتي مشغلًا».

وتلفت باهتمام إلى مبادرة صفحة «عديلة» الشهيرة على مواقع التواصل إلى تنفيذ لوغو خاص بالحساب @cineduvent أو سينما الهواء، كما أسمتْه ميريللا، وذلك من باب تشجيع الأعمال الصغيرة وخصوصاً الحرفية، بعدما طلبت الشابةُ المساعدةَ عبر تغريدة على موقع «تويتر».

وعن إتقانها تحضير المزيج واستخدام الأقمشة والخروج بالتصاميم النهائية، تشير إلى أن «المحاولات الأولى لم تكن بالسهلة، فتطويع الإسمنت ومزْجه تطلّب مهارات أجهلها. لكن تكثيف التجارب أَوْصَلَني إلى الخلطة المثالية، وبدأتُ رحلة الابتكار التي أدخلتْني سوق المنافسة وأوصلت أعمالي الفنية إلى منازل زبائني، رغم أن جني الأموال في ظل الظرف الاقتصادي الخطير لم يكن هدفي».

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي