بيوت اللبنانيين «ملاهٍ» لـ... رأس السنة
يقال إن «الحاجة أم الاختراع»، ويقال أيضاً إن «الضيق يولد الانفجار»... وبهذين المَثَليْن اختصر اللبنانيون واقعهم بُعيد رأس السنة فأرادوا الاحتفال والرقص والهيْصة كـ «فشة خلق» تساعدهم على التخلص من حال الكآبة والإحباط التي يعيشونها. لكن الانهيار المالي - الاقتصادي بتداعياته المعيشية وظروف «كورونا» الصحية وقفا حجر عثرة أمام سعيهم الى التفلت من قيود الحزن، وبات السهر في الملاهي الليلة وأماكن الترفيه حلماً بعيد المنال دونه عقبات كثيرة لغالبيتهم الساحقة. لذا لجأ اللبناني الى حسه العملي المعروف ليبتكر حلولاً تتيح له قضاء أجمل سهرة بأفضل الظروف الصحية والاقتصادية، فاستدار نحو منزله الجبلي المتروك ليحوّله ولو لليلة الى ملهى ليلي يستقبله وأصدقاؤه بأفضل الشروط.
الدولة اللبنانية التي تسعى للموازنة بين الوضعين الصحي والاقتصادي استبقت موسم الأعياد وأعلنت تخفيف إجراءات التعبئة المعمول بها لتتيح للمطاعم والصالات والنوادي الليلة استقبال روادها حتى ساعة متأخّرة من الليل، لكنها فرضت شروطاً صحية كثيرة منها إلزام هذه الأخيرة بعدم استقبال أكثر من 50 في المئة من قدرتها الاستيعابية مع اعتماد قواعد التباعد الاجتماعي ومنْع الرقص (قُصد منه منع التجمع في حلبة رقص). واستغلّت هذه المرافق السياحية الموضوع علّها تتمكن من تحقيق بعض الأرباح التي تُبْعِدُ عنها كابوس الإقفال النهائي فأعلنت عودة السهرات الى مرابعها. لكن في وقت يتوجب عليها الحد من عدد روادها وزيادة إنفاقها لتأمين مستلزمات السهر التي باتت تكلفتها خيالية، كان لا بد من رفع أسعار السهرات ولا سيما سهرة رأس السنة.
السهر متنفّس اللبنانيين
شكلت عودة السهر متنفّساً كان اللبنانيون بحاجة إليه، لكن الكثيرين صُدموا بالواقع الذي تَظهّر أمامهم، فالأسعار لمَن لا يزال يتقاضى راتبه بالليرة اللبنانية - وهي حال الغالبية العظمى من أبناء «بلاد الأرز» - بدت مرتفعة جداً تفوق قدرته على الدفع لاسيما في الصالات التي تستقبل فنانين أو تعرض برامج فنية. وقد تراوح السعر للشخص الواحد بين 400000 ليرة وصولاً الى مليونين وما فوق. كذلك شهدت بعض الملاهي حالة من الفوضى في تطبيق إجراءات السلامة في الأيام الأخيرة فاكتظت بالساهرين غير الآبِهين بارتداء الكمامة او اعتماد التباعد والامتناع عن الرقص ما حدا بالسلطات المختصة الى إقفال بعضها وبمرابع أخرى الى إلغاء حفلاتها وسهراتها تَلافياً لحصول هذا النوع من الفوضى.
وإزاء هذا الواقع بدأ الكثير من اللبنانيين يهجرون الأماكن العامة ويديرون ظهورَهم للبرامج الفنية ويبحثون عن حلٍّ للسهر في مكان آخَر، فكانت البيوت هي الحل الأكثر عملية وأماناً وتوفيراً (للمال) أمامهم، ولكن ليس المنازل التي ملّوا البقاء بين جدرانها في أيام الحجْر الطويلة بل بيوت القرى الجبلية البعيدة التي تؤمّن لهم إطاراً طبيعياً في منتهى الجمال وهدوءاً مطلوباً بعيداً عن التدخلات الأمنية وتمنحهم ذلك الشعور المُريح بالتغرب عن واقعهم اليومي المريع والاستفادة من محيط طبيعي رائع.
ومعروف أن غالبية العائلات اللبنانية تملك بيتاً في قريتها أو مسقط رأسها في الجبال أو الأرياف، وغالباً ما تهجره أيام الشتاء لتستقرّ في المدن والساحل لكنه يكون على أتم الاستعداد لاستقبالها متى شاءت الابتعاد عن المدينة. وهكذا وَجد مُحِبّو السهر البيت الجبلي مفتوحاً أمامهم لتنظيم سهراتهم مع المقرّبين والأصدقاء بأفضل الشروط الصحية والمادية الممكنة.
المنزل جاهز والتكلفة مشتركة
سألنا عماد، وهو يملك منزلاً فسيحاً في منطقة المتين الجبلية، كيف سينظم سهرة رأس السنة وسواها من سهرات؟ فأخبرنا أنه خصّص قبو البيت القديم لاستقبال الأصدقاء وجهّزه ببعض الكنبات القديمة والطاولات وبجهاز تدفئة كما أعدّ إمدادات للصوت والموسيقى والإضاءة يعتبرها العامل الأهمّ في إنجاح السهرة. أما الطعام فمؤمّن عن طريق «الديليفري» وبعض المتمّمات من إعداد الأصدقاء. وقد فرض على جميع مَن سيتوافدون الى منزله إجراء فحص الـ PCR قبل السهرة ليتأكد من سلامة الجميع.
ويقول عماد إن البيت سيضم أكثر من ثلاثين شاباً وشابة وكل منهم سيشارك في تحمل التكاليف على ألا تزيد حصة الشخص عن 40000 ليرة (نحو 5 دولارات فق سعر الصرف في السوق السوداء)، وهو مبلغ معقول جداً نسبة الى تكلفة السهر في الحانات والملاهي.
وكانت وزارة الصحة اللبنانية قد أصدرت تعميماً طلبت فيه من كل الأشخاص الذين يودون تنظيم حفلات أو مناسبات أو تجمعات احتفالية في منازلهم تعبئة استمارة «الموافقة على إجراء نشاط اجتماعي» على أن يتلقى الشخص رسالة تتضمن التدابير الوقائية التي يجب اتخاذها وتكون الرسالة بمثابة مستند يبرزه صاحب العلاقة للسلطات المعنية عند الحاجة.
وسألْنا عماد إذا كان أبلغ وزارة الصحة بالحفل الذي سيقيمه فضحك وأخبرنا أن قريته بعيدة الى درجة لن تكلف الوزارة نفسها ناء الوصول إليها والتحقق مما يجري فيها، إضافة إلى أنه شخصياً وضيوفه سيلتزمون بكل القواعد الصحية من دون حاجة إلى تدخل أي جهة خارجية.
المناطق الجبلية تستعيد ألقها
بعض المناطق الجبيلة اللبنانية تلقى إقبالاً أكثر من سواها على إقامة الحفلات المنزلية وهي المناطق المعروفة بطابعها السياحي والتي تضم شاليهات ومنازل ضيافة مثل فاريا، اللقلوق، تنورين، الأرز، الزعرور، عين دارة، دير القمر وغيرها... وهنا يمكن لأي مُحِبّ للسهر أن يستأجر منزلاً أو شاليه لليلة أو ليلتين في حال لم يكن يملك منزلاً جبلياً، إما في مجمع سياحي أو عن طريق موقع AirBnb أو يحلّ ضيفاً على أحد بيوت الضيافة التي صارت منتشرة في غالبية المناطق الجبلية والتي تؤمّن تجربةَ ضيافةٍ تقليدية عريقة.
تَوَجّهْنا الى «لقلوق فيلاج» لنسأل القيّمين عليه عن موسم الأعياد والسهرات فأخبرتنا مسؤولة الحجوز فيه السيدة ماري- روز ان الشاليهات كلها «مفوّلة» (مكتملة الحجز) لليلة رأس السنة وغالبيتها من العائلات التي أرادت الابتعاد عن روتينها اليومي وتمضية الأعياد في أجواء هادئة وممتعة. ويمكن للعائلة استئجار شاليه لليلة واحدة أو ليلتين بأسعار مدروسة حيث يصل إيجار الشاليه المتوسطة التي تتسع لـ 10 أشخاص الى خمسة ملايين ليرة لليلتين ويمكنهم أن يحملوا مأكولاتهم الخاصة معهم كما يمكنهم ان يقيموا حفلاً صغيراً في الشاليه إذا أرادوا أو ينضمّوا الى سهرة الفندق العامة. وقد فرضت الإدارة على كل مَن يودّ القدوم أن يكون مزوّداً باختبار الـ PCRحرصاً على السلامة. وعمد الكثير من العائلات الى حجز شاليهاتهم في وقت مبكر حين كانت العروض قائمة والأسعار أقلّ بكثير مما هي عليه في ذروة الموسم.
وتقول المسؤولة إن الحركة فاقت التوقّعات بعدما وجد الناس في هذا الخيار بديلاً اقتصادياً وترفيهياً عن السهر في الأماكن التقليدية، حيث يمكنهم ليلاً الاستمتاع بسهرة على ذوقهم فيما يمكنهم نهاراً التجول في المنطقة والاستمتاع بطبيعتها ونشاطاتها.
كما أن الشبان المتآلفين مع الانترنت والبحث أونلاين وجدوا في موقع AirBnb وسيلة عملية للاستفادة من المناطق الجبلية بأقلّ تكلفة ممكنة. وقد بات العديد من اللبنانيين يعرضون منازلهم الجبلية أو شاليهاتهم للإيجار على الموقع المذكور ويستفيدون من موسم الأعياد والتزلج لتأجيرها لفترات محددة. ووجد الشبان والشابات سهولةً في استئجار هذه البيوت والدفع اونلاين للحصول على مكان مريح ومجهّز لتمضية سهرة يتقاسمون تكلفتها وينظّمونها على طريقتهم الخاصة وبالـ BUDGET الذي يناسبهم. فلا يكون الاكتظاظ فيها شديداً كما في المطاعم والنوادي الليلة ولا يتقاسمونها مع أشخاص غرباء ليسوا متأكدين من وضعهم الصحي، وبهذه الطريقة يضمنون أقلّ قدر من الاختلاط وحصْره فيما بينهم، كما يستفيدون من عدم وجود مراقبة ليقوموا بالرقص على هواهم وإطالة السهرة حتى الفجر. من جهتهم، يَطْمَئن الأهل الى وجود أولادهم في مكان آمِن يستطيعون أن يمضوا ليلتهم فيه دون الحاجة الى تكبّد خطورة القيادة ليلاَ.
وهنا يتبادر الى الذهن سؤال حول دور البلديات في ضبْط هذه التجمعات، فيفاجئنا رئيس بلدية فاريا السيد ميشال سلامة بالقول إن ليس للبلدية أي سلطة او إمكانيات بشرية لدخول البيوت والشاليهات والتأكد من شروط السلامة فيها أثناء الحفلات والسهرات. فالبلدية تكتفي بإصدار التوصيات العامة المعروفة ومراقبة المطاعم والأماكن العامة أما عدا ذلك فهي غير قادرة على مراقبة ما يناهز 2000 شاليه بل تركتْ الأمر لأصحاب العلاقة.
... بالموسيقى الصاخبة والرقص والسهر يحاول اللبنانيون الابتعاد عن واقعهم المظلم ويجترحون حلولاً تظهر قدراتهم الغريبة على التأقلم مع كل الأوضاع واستخراج أفضل ما فيها.