التراجع الخطير في عدد الرخص يُهدّد عشرات القطاعات بالإغلاق والإفلاس
أرقام البناء تكشف عمق الأزمة الاقتصادية
- ضعف النشاط العمراني يزيد خطورة الانعكاسات السلبية على القطاعات المغذّية
- 60 في المئة تراجعاً بأعداد التراخيص الجديدة قياساً بالصادرة بـ 2019
- تجارة الجملة والتجزئة والقطاع المالي والتأمين والمبادرون من أكبر المتضررين
- تباطؤ البناء يؤدي إلى خسائر فادحة للقطاعين الخاص والحكومي
- هبوط التراخيص يقود لاضطرابات وظيفية للعمالة الوطنية بأنشطة عديدة
دقت إحصائية رسمية حصلت عليها «الراي» عن عدد رخص البناء الصادرة خلال 2020 ناقوس الخطر لمؤشر الأزمة الاقتصادية التي تعصف بمختلف القطاعات، والتي تنبئ بمخاطر جديدة لترتيب الكويت في المؤشرات الدولية.
ففي فبراير الماضي، كانت الحكومة تحتفل بتقدم ترتيب الكويت في تقرير البنك الدولي لسهولة ممارسة أنشطة الأعمال، وخصوصاً مؤشر تراخيص البناء التي باتت تصدر خلال يومين، لكن الأرقام الرسمية تكشف أن عدد رخص البناء التي صدرت خلال هذه السنة هي أقل بأكثر من 50 في المئة عن 2019 في مختلف القطاعات.
وتظهر الإحصائية أن عدد رخص البناء في السكن الخاص تراجع بواقع 46 في المئة، وللسكن الاستثماري بنحو 65 في المئة، والقطاع التجاري 61 في المئة، ووصل التراجع إلى 57 في المئة لرخص البناء للاستعمال الصناعي.
وحذر اقتصاديون من أن استمرار ضعف النشاط العمراني المسجل في 2020 سيزيد من عمق الضغوط المالية التي تتعرض لها الشركات في مختلف القطاعات، مشددين على أن ذلك يمثل مرآة حقيقية للنشاط الاقتصادي، وأن الهبوط الحاصل في التراخيص الجديدة يكشف حجم التدهور في الأنشطة الاقتصادية على اختلافها.
وأوضحوا أن البناء يعتبر رأس السلسلة التشغيلية التي تحرّك عشرات القطاعات الاقتصادية الأخرى التي باتت ترزح تحت وطأة ضغوط خانقة دفعتها إلى تقليص أعمالها وتهددها بالإفلاس بسبب ركود قطاع البناء.
وشددوا على أن استمرار الالتفات الحكومي عن حقيقة الأزمة سيعمق آثارها، ويزيد من كلفة امتصاص الصدمات المترتبة على هذا التراجع.
ويُظهِر تحليل جداول المدخلات والمخرجات المالية، قوة الروابط الخلفية لقطاع التشييد والبناء مع العديد من القطاعات التشغيلية الرئيسية، والتي تتصدرها أنشطة تجارة الجملة والتجزئة صاحبة أكبر مساهمة في تفسير التغيرات في أنشطة التشييد وبناء المصانع، وقطاع الأنشطة المالية والتأمين، كما يتعلق بها شريحة واسعة من المبادرين الذين يتعاقدون عبر مشروعاتهم الصغيرة والمتوسطة في القطاع، وأخيراً قطاع الصناعة التحويلية.
ورقمياً، بلغ عدد تراخيص البناء الصادرة للسكن الخاص منذ بداية العام 4821 ، مقابل 8863 في 2019، فيما سجلت تراخيص السكن الاستثماري صدور 222 ترخيصاً في الأشهر الماضية من العام الحالي، مقابل 652 ترخيصاً صدرت في الفترة المقابلة من 2019، أما القطاع التجاري فصدر له 170 ترخيصاً مقابل 440، وأخيراً شهد قطاع الاستعمال الصناعي إصدار 96 رخصة فقط، مقابل 224 رخصة صدرت في العام الماضي، ما يظهر التدهور الواسع الحاصل في نشاط البناء المحلي.
ولعل ما يؤكد أهمية العمل الحكومي، وسريعاً، على إنعاش قطاع البناء والتشييد المحلي، وجود علاقة تاريخية طويلة الأجل تتسم بالاستقرار بين هذا القطاع والاقتصاد الكلي عموماً، حيث يمكن وبسهولة ملاحظة ارتفاع التأثيرات المضاعفة لقطاع التشييد والبناء، إيجاباً أو سلباً على الأداء الاقتصادي الكلي، حيث الطريق العام للبناء والتشييد والنشاط الاقتصادي عموماً واحد، لكن باتجاهين، كلاهما يؤثر بالآخر، فأي تباطؤ في حركة البناء يؤدي إلى تباطؤ الحركة التجارية والصناعية عموماً.
وأوضح المسؤولون، أن قطاع التشييد والبناء يمثل العمود الفقري للاقتصاد المحلي، حيث إنه لا يعزز الأداء الاقتصادي فقط، بل تتعاظم مضاعفات تأثيرات إنفاقه على مختلف القطاعات وحركة السوق بشكل عام، فيما يشبه حلقات المياه التي يسببها إلقاء حجر ثقيل في مياه راكدة، لكن بالمفهوم السلبي، مبينين أن أي تراجع في حركة البناء سينعكس سلباً وبوضوح في مؤشرات العديد من القطاعات المرتبطة بسلسلة البناء والتشييد، وبالتالي، من المتوقع أن يمثل هذا التباطؤ خسائر اقتصادية فادحة على القطاعين الخاص والحكومي في الوقت نفسه، لجهة تكلفة التحفيز التي عليها أن تتحملها كلما تأخرت في عودة الحياة إلى هذا القطاع.
واقتصادياً، لا تتوقف التداعيات السلبية الحادة لتباطؤ إصدار تراخيص البناء عند قطاع محدد، حيث لفت مسؤولو شركات لـ«الراي» إلى أن قطاع البناء يشكل نافذة نشاط لكل القطاعات الاقتصادية الأخرى، وأي تضييق يحدث لهذه النافذة من شأنه وضع تحديات تشغيلية تؤثر سلباً في الدورة الاقتصادية ككل، للارتباط الوثيق بين البناء والتشييد وجميع قطاعات الأعمال التشغيلية، والعديد من الصناعات التى تعتمد على هذه المشروعات.
وقالوا إن غمرة الانكماش الحادة التي يعاني منها قطاع البناء المحلي قد تهوي بالعديد من الأنشطة الاقتصادية، ما يزيد من مواطن الضعف الاقتصادي، ومن ثم سيتفاقم الأثر السلبي أمام خطط العلاج المطلوبة من الحكومة، علاوةً على ذلك، من المرجح أن يخلف هذا الانكماش اضطرابات وظيفية للعمالة الوطنية في العديد من الأنشطة.
مخاطر الانكشافات العقارية ... قائمة
أشار مسؤولون في مؤسسات اقتصادية إلى أن خطورة تباطؤ حركة البناء والتشييد لا تنعكس فقط على الاقتصاد الكلي، لكنها تشير وبقوة إلى وجود أزمة حقيقية يعاني منها القطاع العقاري عموماً، فتباطؤ إصدار التراخيص الجديدة مؤشر قوي على تباطؤ الحركة العقارية عموماً، ومن ثم تتزايد المخاوف من أن استمرار هذه الحالة يرفع مخاطر تعرض المصارف لسلسلة من الانكشافات.
وحسابياً، تبلغ قيمة القروض العقارية المحلية 23 مليار دينار، بما يشكل نحو 40 في المئة من إجمالي قيم محافظ البنوك الائتمانية، وبالتالي فإن أي ضعف ملموس في هذا القطاع يعني انخفاض إيراداته، ومن ثم تراجع قدرة مستثمريه على السداد، علاوة على أن أزمة الانكشافات لن تتوقف عند أصحاب العقارات بل ستمتد إلى القطاعات المرتبطة بسلسلة الإنشاء والبناء، ما يرجّح زيادة أعداد العملاء غير المنتظمين في السداد، وهنا ستكون الأزمة وصلت إلى مراحل عالية المخاطر.
البدر: طريقا الاستقلال والمغرب يكشفان التوقف
قال عضو المجلس الأعلى للتخطيط، علي رشيد البدر، إن نشاط شركات مختلفة النشاط، خصوصاً العاملة في قطاع المقاولات سيتأثر بتراجع معدلات إصدار تراخيص البناء الجديدة.
ولفت البدر إلى أن المرور على الطرق الرئيسية، وفي مقدمتها الاستقلال والمغرب حتى منطقة المهبولة، يُظهر الكم الكبير من المباني المتوقفة، مبيناً أن تراجع أعداد المباني المنجزة والصالحة للتشغيل، يعكس تعرّض هذا القطاع لأزمة حقيقية.
وأشار إلى أن شركات المقاولات تُعد أكثر المتضررين من ضعف حركة البناء والتشييد، خصوصاً الشركات المتوسطة والصغيرة، والتي تعتمد بشكل كبير على تدفقات المشاريع الإنشائية في دفع التزاماتها وتكوين أرباحها، موضحاً أن تراجع مستويات السيولة لدى هذه الشركات سيقلّص أعمالها، ويعرّضها لضغوط تشغيلية.
وبيّن البدر أن توسع الضعف التشغيلي يعكس حالة عدم ثقة موجودة لدى المستثمرين، موضحاً أنه في مثل هذه الأزمات يكون «الكاش» الملك، ويتم الاحتماء به من الضغوط التشغيلية.
ودعا البدر الحكومة إلى تبني حلول علاجية للأزمة العمرانية، في مقدمتها إعادة النظر في سياستها للرعاية السكنية، بتشجيع أصحاب الطلبات على السكن بالشقق.
الثويني: التداعيات السلبية تظهر بالاقتصاد الكلي
حذّر مدير عام شركة الأحمدية للتجارة العامة والمقاولات، فيصل الثويني، من التداعيات السلبية التي يشهدها قطاع الإنشاءات في الوقت الراهن، باعتبار أنها تلقي بظلالها على نشاط الاقتصاد الكلي.
وأشار الثويني إلى أن قطاع الإنشاءات يمر حالياً بمرحلة انكماش، بعدما اضطرت شركات عديدة لتجميد العمل في مشاريعها إثر إجراءات الحظر التي شهدتها الكويت خلال الأشهر الأخيرة.
وقال «قطاع الإنشاءات يُعد محركاً رئيسياً، ولاعباً محورياً في تنشيط الأنشطة الاقتصادية كافة، لارتباطه بغالبية القطاعات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ما يعني أن انكماش حجم أعمال هذا القطاع سيلحقه انكماشاً في أداء قطاعات اقتصادية أخرى حيوية بالتبعية».
ونوه الثويني إلى أن الحظر الكلي ترك أثراً سلبياً غائراً على قطاع المقاولات، إذ اضطرت الشركات إلى تجميد أعمال مشاريعها كلياً، خصوصاً مع توقف بعض الجهات المتعاقد معها عن الوفاء بالتزاماتها في ظل استمرار شركات الإنشاءات بدفع مصروفاتها التقليدية مثل الرواتب، والإيجارات، دون أن تستكمل تحصيل دفعاتها، حيث أثّر ذلك على معدلات السيولة الكافية لاستكمال أعمالها، ما وضع شركات عديدة في مأزق.
وأكد أن أثر تأخر الدفعات طال الشركات في قطاعات عديدة، بينها الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، لافتاً إلى أن دورة العمل متشابكة ولا يمكن فصلها أو التحوط منها.
الخرافي: الأزمة تُضعف مسار التوظيف
أكد رئيس اتحاد الصناعات حسين الخرافي أن قطاع الإنشاء يعد أساس التحرك لكل اقتصادات الدولة، خصوصاً المقاولات والتجزئة والقطاعات العامة والتخصصية، وفي مقدمتها الكهرباء والتكييف والصحي، منوهاً إلى أن الانشاءات تمثّل المحرك الاقتصادي وأي أعباء عليها تنتقل للشركات ذات الصلة سريعاً.
ولفت الخرافي إلى أن أضرار ركود قطاع البناء والتشييد لا تتوقف عند تراجع الإيرادات بل تمتد إلى تقليص خطط التوظيف، باعتبار أن مسار التشغيل والتوظيف واحد، موضحاً أن تقلّص ميزانية المشاريع الكبرى أضعف حركة النشاط التشغيلي، وانعكس سلباً على كل القطاعات الأخرى التي تأثرت بركود النشاط العمراني.
وتوقّع الخرافي تعرض النشاط الاقتصادي لركود كبير، وأن تنكمش الشركات التي تعمل بقطاع المقاولات أكثر، لا سيما إذا استمرت الدولة في عدم طرح مشاريع كبرى جديدة، مؤكداً أن طرح هذه المشاريع يشكل الحل الأمثل، لإنقاذ شريحة واسعة من الشركات المهددة أعمالها بعدم البقاء طويلاً لضعف البيئة التشغيلية.
وذكر الخرافي أن بعض الشركات بدأت تسرّح موظفيها، في مسعى لخفض كلفتها التشغيلية. وحول إمكانية تعرّض البنوك لأزمة انكشافات متأتية من ضعف حركة البناء والتشييد الجديدة، أفاد الخرافي بأن تداعيات أزمة البناء ستنعكس سلباً على القطاع المصرفي، وقد تجد البنوك نفسها مضطرة إلى تمديد أقساطها.
الصانع: هبوط التشغيل خطر على قطاعات عديدة
أوضح نائب رئيس اتحاد المكاتب الهندسية، صاحب دار مازن الصانع للاستشارات الهندسية، مازن الصانع، أن 2020 شهد تراجعاً حاداً لتراخيص البناء مقارنة بالعام الماضي، ما أدى لإفلاس الكثير من المكاتب الهندسية.
ولفت إلى أن المكاتب الهندسية استشعرت الخطر مبكراً لأنها تشكّل الحلقة الأولى من عملية البناء المرتبطة بكثير من القطاعات من مورّدين وشركات مقاولات وبنوك وعمال وغيرها، مؤكداً أن تراجع معدلات البناء سيطول أثره السلبي سلسلة واسعة من القطاعات الاقتصادية. وبين الصانع أن هبوط معدلات البناء يعود للكساد الاقتصادي المتحقق جراء انتشار كورونا، وغياب التحفيز الحكومي للعديد من القطاعات الاقتصادية في الوقت نفسه.
وأكد أن اتحاد المكاتب الهندسية قدّم إلى مجلس الوزراء ورقة تشمل حزمة اقتراحات متكاملة، تتضمن دعم الرواتب، والعمالة الوطنية والمساهمة في تغطية تكاليف أزمة كورونا، علاوة على تحفيز الاقتصاد من خلال حلول تمويلية إلى جانب إيجاد حل لتأخر دفعات المشاريع الحكومية للقطاع الخاص، مبيناً أن القطاع العمراني في الكويت سيمرّ بمرحلة صعبة للغاية خلال المرحلة المقبلة.
الشخير: الإنفاق يحدّد مستقبل مئات الشركات
أفاد الرئيس التنفيذي لشركة الراية الإسلامية للمقاولات العامة للمباني، عبدالله الشخير، بأن أزمة ضعف حركة البناء بدأت تظهر بوضوح في أعمال جميع الشركات ذات العلاقة بهذا القطاع، موضحاً أن شركات عديدة تواجه أزمة سيولة حقيقية تهدد بقاءها.
وأوضح الشخير أن قطاع البناء والتشييد متداخل مع قطاعات عديدة تحتضن آلاف العمالة، كما يخدم القطاعات الاقتصادية التي تساهم في دفع عجلة الإنتاج، منوهاً إلى أن معدل الإنفاق بهذا القطاع، سواءً بالصعود أو بالهبوط، يحدد مستقبل مئات الشركات.
وبين الشخير أن تأثر قطاعات المقاولات بالأجواء الحالية، على مستويين، أحدهما تحمل تكاليف أجور العمالة ومصروفاتها الثابتة، مقابل ارتفاع التكلفة بدون إيرادات تعوّض الهبوط.
ولفت إلى أن حركة المقاولات شبه متوقفة، باستثناء بعض الأعمال البسيطة التي تقدم قيمة مالية حقيقية للشركات، مشيراً إلى أن بعض الشركات تحاول احتواء التداعيات السلبية لهذه الأزمة، لكن يصعب الاستمرار في ذلك طويلاً، خصوصاً إذا طال أمد انكماش النشاط العمراني المحلي، مشدداً على أن الوضع الحالي يسهم في تفاقم الأزمة الاقتصادية.
وذكر الشخير أن حجم التراجع بنشاط قطاع المقاولات والقطاعات سينعكس سلباً على القطاعات المرتبطة، وأن ذلك سيزداد حال استمرت معدلات البناء على مستوياتها الحالية، مع تراجع نسب الإنجاز في المشروعات، لافتاً إلى تراجع قدرة عدد كبير من الشركات على صرف رواتب عامليها، ودفع التزاماتها.