4 لبنانيات من المتاريس وكوابيسها إلى.. السلام
لم يَسْتَرِحْ طويلاً لبنان.. الوطنُ الذي استوطنَتْه حربُ المتاريس يعيش الآن ما يشبه الحربَ الباردة وكوابيسها، كأنه في صراعٍ دائم من أجل البقاء.
أيام المَدافع والكرّ والفرّ والمعارك الجوّالة بين الجَماعات اللبنانية، لم يكن العنف فيها حكراً على الرجل بعدما انخرطت النسوة في القتال دفاعاً عن قضيةٍ ما.
وشكّلت المصالحةُ الوطنية التي عُرفت باتفاق الطائف فرصة لـ «مراجعاتٍ» عميقة لم تَخْلُ من الندم فوق أطلال الحرب العبثية قبل الشروع بتجارب جديدة عنوانها السلام.
أربع لبنانيات من «سيدات الحرب» أصبحن مُحارِبات من أجل السلام قررن البوح بتجاربهنّ المُرّة والحُلْوة في وثائقيّ يكاد أن يكون عِبْرَةً لمَن يريد أن يعتبر.
الإعلامية اللبنانية، ومُعِدّة البرامج الوثائقية زلفا جورج عساف تصدّت لهذه المهمة من خلال عمل مميّز روت فيه قصص النساء الأربع اللواتي خضن الحرب وخشونتها بـ «المرقّط» ثم انكفأن الى ذواتهن مُنْكَسِرات ليخرجن بعدها من ظلمة الندم إلى أنوار السلام.
نتعرف على مسيرة هؤلاء النساء عبر الكاميرا في وثائقي مؤثّر لا يشبه سواه.
كسرت زلفا عساف قاعدة الوثائقي الإخباري الجامد وذهبت باتجاه نمط عصري من الوثائقيات، جعلتْ من فيلمها هذا شريطاً إبداعياً يوثّق الواقع بطريقة مُبْدِعة وبمشهدية جمالية مؤثّرة تضيف الى الأحداث ولا تهمّشها، تُمْتِعُ المُشاهِدَ وتُدْخِلُه إلى روح الشخصيات.
على مدى أكثر من 9 أشهر عملتْ عساف على هذا الوثائقي الذي عُرض على محطة «الجزيرة» الوثائقية. الفكرة لفتتْها منذ البداية وأثارت فضولها: إذ كيف تتحوّل امرأة خاضت معارك الحرب بشراسة سواء على الخطوط الأمامية مع المُحارِبين أو في الخطوط الخلفية دَعْماً لهم الى مُحارِبة من أجل السلام؟ ما الذي تكسّر في داخلها وأي مسار أدى الى نقطة التحول هذه؟... فتّشتْ عن شخصياتٍ نسائية قيادية كان لها دور في الحرب وتحرّت في الوقائع والأرشيف عن تلك المرحلة وقرّرتْ أن تعرف أكثر.
أرادت من «المحاربات القدامى» أن يروين تجربتهنّ، لكن الأمر لم يكن سهلاً، بل أكثر من ذلك كان مؤلماً وحاداً كالسكين. إذ لم تشأ أي منهن العودة إلى الماضي ولو عبر الذكريات لتوقظ جروحاً ما زالت تنزف في مكان ما، ولذلك أدركتْ زلفا أنه لا بد من المرور على هذه المرحلة من دون الاستفاضة فيها للعبور إلى مرحلةٍ أخرى أكثر راحة وإشراقاً بالنسبة للنساء الأربع هي مرحلة الشفاء والانطلاقة إلى العمل من أجل السلام.
هن أربع نساء من طوائف وخلفيات مختلفة: جوسلين خويري من النظاميات في حزب الكتائب اللبنانية ورحلتْ أخيراً، برناديت شديد من «الكتائب» أيضاً، سلوى سعد من الحزب الشيوعي اللبناني، وسلمى صفير من الحزب التقدمي الاشتراكي.
كلهنّ كنّ في مواقع قيادية وتولّين مهمات على الجبهات أو في الخطوط الخلْفية. وأراد الوثائقي أن يجمعهنّ معاً في مَشهدية جديدة، لقاءٌ بين أخصام الأمس ومُحارِبات اليوم من أجل السلام، عبر 3 مَحاور تَظْهَر في سياق الفيلم: الأول يروي ماضي هؤلاء السيدات: نضالهن، معاركهن، إصرارهن الشرس على قضيتهن واستبسالهن في الدفاع عنها حتى الموت الذي تآخين مع فكرته. وتُرافِقُ هذا المحور الذي يروينه بأصواتهن مشهدياتٌ من الحرب وصورٌ من الأرشيف تعود إلى تلك الحقبة الداكنة من تاريخ لبنان المُعاصِر.
المحور الثاني يدور حول عنوان المصالحة مع الذات أو صحوة الضمير التي دفعت بهؤلاء المقاتلات الى الإنكماش نحو الداخل للعيش مع الندم ومراجعة الذات لفترة وصولاً الى الغفران وشبه مُسامَحةٍ للذات والآخَرين على كل ما حدث وارتُكب. وتروي السيدات الأربع بأصواتهن وبأسلوب ديناميكي سريع تُرافِقُهُ مَشهدياتٌ مؤثّرة نقطةَ التحول التي أدّت إلى هذا الإنقلاب وهي نقطة كانت قاسية ومؤلمة جداً عند البعض ممن فقدن عزيزاً أو أعزاء في الحرب أو عشن مآسٍ شخصية.
أما المحور الثالث وهو الأبرز في الوثائقي فيَتَمَحْوَرُ حول نشاطاتِ السلام التي حوّلت كل مُحارِبَة إلى رسولةِ خيرٍ ومَحبة في مجتمعها، تنشر ثقافةَ السلام وسط الجيل الجديد حتى لا تتكرّر أخطاء الماضي.
جوسلين خويري اتجهت نحو التنشئة الدينية المسيحية لتركّز على أهمية القِيَم المسيحية الحقيقية ودور العائلة في المجتمع وأهميتها في تربية جيلٍ مُحِبٍّ للسلام. برناديت ابي شديد أنشأت جمعيةً للاهتمام بالأولاد المتروكين مِن جنسياتٍ مختلفة ومِن خلفياتٍ دينية وعرقية متنوّعة وصارتْ لهم أماً تربّيهم على السلام وقبول أنفسهم والآخَرين.
سلمى صفير عملت جاهدةً لتوعية السيدات والشباب من حولها على ثقافة السلام وأهميتها في بناء وطن. أما سلوى سعد فاتجهت نحو المسرح وشاركت في أعمال مسرحية لجعله منصة للمُحارِبين السابقين ليجسّدوا من خلال خشبته معاركهم ويرووا ماضيهم بخيباته وأحزانه ليشرحوا للشباب أن الحرب ليست لعبة.
ديناميكية المعالجة والإخراج
ورغم رصانة الموضوع المطروح وجدّيته، لا يمكن للمُشاهد أن يشعر بثقل الأحداث نظراً الى الديناميكية في المعالجة والإخراج. فالمحاور الثلاثة يربط بينها خطٌّ بَصَري آسِر تتولّاه الفنانة زينة الخليل التي تقوم بردائها الأبيض المشوب بالأسود بطقوسٍ احتفالية للسلام أو ما يعرف بالاحتفالية الشفائية أو Healing ceremony عبر الموسيقى والرقص والرسوم والمنحوتات لطرد الطاقة السلبية من الأمكنة واستدعاء الطاقة السلمية الإيجابية في مَشْهَدِيّةٍ رمزية تُمْتِعُ المُشاهِدَ وخلفيةٍ موسيقية مُرافِقَة وُضعتْ خصيصاً للفيلم.
وتقول زلفا عساف إن الهدف من الوثائقي لم يكن فقط إرساء ثقافة السلام عبر مواعظ جافة بل عبر رؤيةٍ روائيةٍ وإخراجية تأْسر المُشاهِد وتجعله يعيش على مدى 47 دقيقة مسيرةَ هؤلاء الشخصيات ويرافق تَطَوُّرَها ويشهد على خروجها من العتمة الى الضوء في أجواء ممتعة مشحونة بالعاطفة.
وتسأل «الراي» زلفا كيف أثّرتْ بها شخصياً رحلة هؤلاء السيدات هي التي عرفتهنّ عن كثب وغاصت في داخلهن؟ فتقول: «استخراجُ الماضي منهن لم يكن بالأمر السهل. بدايةً كان ثمة رفض من قبلهن للعودة الى جراح الماضي، ثم كان تعب ووجع عند الحديث عنه، حتى أن إحداهن أَوْقَفَتْني لأنها وجدتْ الأسئلة قاسية، لكنني أردتُ أن أُخْرِجَ منهن ما يجب أن يراه ويعرفه المُشاهِد ولو كان مؤلماً. كلهن خضن تجارب قاسية لكن أن تفقد إحداهن حبيياً كان كل حياتها، فتلك قصةٌ أثّرت بي جداً، وكذلك إدراكهن جميعاً لعبثية الحرب فيما نحن لا نزال في كل لحظة على مَشارفها. لقد آلمني أن سعيهم الى السلام لم يرمّم بسهولة ما دُمِّرَ داخلهن، ولذا كان إصراري كبيراً على تقديم هذه النماذج ليدرك شباب اليوم كيف أن الحرب تولد ندماً لاذعاً عند مَن عاشها واختبر أهوالها.نساء الفيلم تَصالَحْنَ مع ماضيهن، لكنه ترك في أعماقهن جرحاً بليغاً لا تزال ندوبه قابعةً في مكان ما. ومن هنا نحن بحاجة اليوم لأن يشاهد شباب الجيل الجديد هذا الوثائقي ويستخلصوا منه العِبر».
«محاربات من أجل السلام» فكرة وإعداد و معالجة إخراجية لزلفا جورج عساف والمُنْتِج المنفذ شركة Presse Partout والمُنْتِج ملحم هاشم، أما الإنتاج فلمحطة الجزيرة الوثائقية. وهنا لا بد أن نذكر أن لبنان هو ثالث بلد عربي في إنتاج الأفلام الوثائقية لمحطة الجزيرة، إذ بين عامي 2007 و2016 تم إنتاج نحو 218 فيلماً وثائقياً من لبنان نالتْ إقبالاً ملحوظاً.