أضاءت شعلتَها في الذكرى الأولى واحتضانٌ دولي متجدد لها
الانتفاضة اللبنانية تستعيد ديناميّتها فهل تكون «مفاجأة» ملف تشكيل الحكومة؟
... «الثورةُ مستمرّة». معطى جديد دَهَم المشهدَ اللبناني أمس، في ذكرى انتفاضة 17 أكتوبر 2019 التي بدتْ وهي تُطفئ شمعتَها الأولى أمام تحدّي استعادة زخْمها وإضاءة شعلة جديدةٍ في الطريق الشائك نحو «لبنان الغد» الذي يصطدم بتركيبةٍ «تتخادم» فيها لعبةُ السلطة مع مصالح الطوائف والأحزاب، وبمشاريع فئوية حُشرت معها البلاد بمحور معاداة العرب والعالم وتحوّلت أشبه بـ «حطب» في صراع إقليمي يَعْصف بالمنطقة.
ولم يكن سهلاً على الثورةِ التي شكّل شرارةَ انفجارِها قرارُ فرضِ رسْمٍ على الـ «واتساب كول» جاء بمثابة Wake- up call لغالبية اللبنانيين الذي هبّوا من فوق الترسيمات المناطقية والسياسية والطائفية مطالبين بقلْب منظومة الفساد والمحاصصة، أن تلملمَ قواعدَها بعد عامٍ «مروّع» أُنْهِكَ فيه الشارع على وقع تَدَحْرُج مَظاهر انهيار الدولة - الخردة مع فتْح صندوق «باندورا» المالي - الاقتصادي بتداعياته المُدمّرة اجتماعياً ومعيشياً التي قذفتْ بأكثرَ من 55 في المئة من اللبنانيين تحت خطّ الفقر، وحوّلت المواطنين «حقل تجارب» لإجراءات مالية مصرفية ونقدية متخبّطة، وليس انتهاءً بـ «انفجار القرن»، أي «بيروتشيما» الذي جثتْ معه العاصمة على ركبتيْها تحت وطأة «زلزال» من نيترات الأمونيوم والإهمال وربما ما هو أدهى ضرَب مرفأها و«محا» ما يُقارِب نصف المدينة.
ولم يأتِ عابراً أن تنجح الثورة من قلْب كل الفواجع، التي اكتملتْ دراماتيكيّتها مع «كورونا» المفترس، في استيعاب الصدمات المتداخلة والقفز فوق كل المحاولات الممنهجة للإيقاع بها وتدجينها وقتْل «الروح الجديدة» فيها عبر تخويفها بعصا الأمن واعتقالاته وسلاحه الذي ضُبط «بالعين المجرّدة» يصوّب على عيونٍ (للثوار) قاومت رصاص السلطة، وعاندتْ غزْوَها بـ «الشغب الطائفي والمذهبي»، لتقف مع بداية عامها الثاني أمام تحدي الانتقال من «الثورة الجنينية» والتحوّل قوة تغييرٍ ما زالت ديناميته الميدانية ضروريةً لفرْض مسارٍ لا مفرّ منه لإنقاذ لبنان ليس فقط من «الارتطام الكبير» في قعر الهاوية بل لبنائه وفق معايير الدولة الحديثة، وحكم القانون والمحاسبة والمواطَنة.
وفيما كانت الساحاتُ تستعيد حِراكَها وشعاراتها، من الجنوب والشمال مروراً بجبل لبنان وصولاً إلى بيروت (ساحة الشهداء) تحت شعار «أنا القرار» و«الثورة مكمّلة لتقضي على منظومة العار»، قبل التجمع المركزي أمام مرفأ بيروت الذي أصبح بمثابة الرمز الجديد للانتفاضة حيث أضيئت قبالة موقع الانفجار الهيروشيمي شعلةٌ في مجسم حديدي عملاق حمل شعار «ثورة 17 تشرين» وذلك بعد رفْع نصب «عروس الثورة» (مصنوع من الزجاج المحطم جراء انفجار المرفأ)، جاءت معبّرةً الإحاطة الخارجية بمعاني الانتفاضة وما تشكّله من قوة ضغط «معترَف بها دولياً» في موازاة «الثقة المنزوعة» من الطبقة السياسية، وهو ما ظهّره موقفان بارزان:
* الأول لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الذي غرّد: «قبل عام مثل اليوم، بدأ اللبنانيون بالنزول إلى الشوارع للمطالبة بالإصلاحات، وبتحسين الحكم، ووضع حد للفساد المستشري الذي خنق إمكانات لبنان الهائلة». وأضاف: «تبقى رسالتهم واضحة ولا يمكن إنكارها: العمل كالمعتاد غير مقبول».
* والثاني للمنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيش الذي خصص بياناً طويلاً «لمناسبة الذكرى السنوية الأولى للتظاهرات التي جمعتْ في ذروتها ملايين اللبنانيين في جميع أنحاء البلاد، تعبيراً عن خيبة أمل عميقة من النخب السياسية الحاكمة والنظام السياسي والإداري الطائفي الذي رسّخ الفساد والمحسوبية»، مؤكداً «أن الإصلاحات التي يحتاجها لبنان معروفة ولا يمكن للبلد أن يبدأ بمعالجة التحديات المصيرية دون وجود حكومة فعالة وداعمة للإصلاح، كما أن أصدقاء لبنان الدوليين هم بحاجة ماسة إلى مثل هذا الشريك الملتزم والموثوق».
وفي حين كان لبنان المغترب يواكب «الثورة - 2» بتجمعات كان أبرزها في باريس، بدا الحِراك الشعبي تحت معاينة لصيقة لِما إذا كانت حيويتُه المستعادَة ستتسم بديمومةٍ أو بإيقاعٍ تصاعُدي يشكّل «العامل - المفاجأة» الذي تم تغييبه بالكامل من حسابات غالبية القوى السياسية المنخرطة في «حياكة» تركيبة حكومية جديدة تعيد إنتاج صيغة مُمَوَّهة للحكومة التي كانت انتفاضة 17 أكتوبر أسقطتْها قبل عام مع استقالة الرئيس سعد الحريري الذي يستعدّ للعودة تحت ظلال مبادرةٍ فرنسية هُشّمت مبادئها (حكومة اختصاصيين مستقلين لا تسميهم القوى السياسية) ويُخشى أن يكون لم يبقَ منها عملياً إلا برنامجها الإصلاحي.
وحجب صوتُ الشارع أمس «الهديرَ الصامت» في كواليس عملية تأليف الحكومة التي علِقتْ في عنق زجاجةِ تكليفٍ صار في «جيْب» الحريري ولكن مع وقف التنفيذ ريثما يُفْرج رئيس الجمهورية ميشال عون عن الاستشارات النيابية المُلْزمة التي كانت مقرّرة الخميس المنصرم وأرجأها أسبوعاً كاملاً، وهو ما بات متداخلاً مع لعبة «عضّ أصابع» بين فريق عون والحريري الذي رَفَع الأول بوجهه «بطاقة الميثاقية» (عدم تسميته من كتلتين مسيحيتين وازنتين هما التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية) وشرْطَ التفاهم ولو بالأحرف الأولى على التأليف قبل التكليف.
ولم يكن ممكناً تَلَمُّس خطّ النهاية في هذا التقابل الذي يشي بأن الخروج منه يحتاج إلى «عملية قيصرية»، وسط تَمَسُّك الحريري بأنه لن يرفع السماعة ولن يتواصل مع رئيس «التيار الحر» جبران باسيل قبل استشارات التكليف، في موازاة تجديد الأخير «الفيتو» على الحريري وهو ما عبّر عنه بشكل لا لبس فيه أمس بعد اجتماع المجلس السياسي للتيار الحر، إذ أكد «تمسُّكه بالمبادرة الفرنسية وتشكيل حكومة مهمة يكون رئيسها ووزراؤها من أهل الاختصاص على أن تدعمها الكتل النيابية، واستناداً إلى ذلك أجمع المجلس السياسي على عدم تسمية دولة الرئيس الحريري لرئاسة الحكومة باعتباره ليس صاحب اختصاص مع تأكيد الاحترام لشخصه ولموقعه التمثيلي والسياسي».
وفي حين لم يُعرف إذا كان عون في وارد معاودة إرجاء الاستشارات والتداعيات المحتملة لذلك على الصعيد الداخلي كما لجهة وضْعه وجهاً لوجه أمام باريس التي انتقدتْ عبر وزارة الخارجية «التأخّر المستمر في تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات رغم الالتزامات التي قدمتها القوى السياسية بمجملها»، حملتْ مروحة اللقاء الواسعة التي أجراها مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر في بيروت (واستثنى منها باسيل) إشاراتٍ متجددة إلى تحفّظ واشنطن عن التعامل مع حكومةٍ تضم ممثلين لـ «حزب الله» حتى لو كانوا لا يحملون الصفة الحزبية، وأن وساطتها في ملف الترسيم البحري الذي انطلق بين لبنان وإسرائيل لا يغيّر في مسار العقوبات على الحزب أو حلفاء له.
على أن الأكثر إثارة للانتباه في بيروت كانت اللقاءات رفيعة المستوى التي عقدها المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم في واشنطن وأبرزها مع روبرت أوبراين مستشار الأمن القومي ومساعد وزير الخارجية لشؤن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ديفيد هيل.
ورغم أن العنوان المعلن للزيارة، هو تسلُّم جائزة جايمس فولي للدفاع عن الرهائن، تكريماً للجهود التي بذلها في الإفراج عن رهينتين أميركيتين (نزار زكا من إيران وسام غودوين من سورية) إضافة إلى استكمال البحث في موضوع الأميركييْن المخطوفيْن في سورية Austin Tice وMajd Kamalmaz، فإن أبعادها السياسية لم تغب في ضوء موقع اللواء إبراهيم غير البعيد عن الثنائي الشيعي (حزب الله - الرئيس نبيه بري) والذي غالباً ما اضطلع بمهمات كموفد رئاسي (لعون)، ما جعل التحريات السياسية تنشط للوقوف على خلاصات هذه الزيارة.
واكتفى إبراهيم في أحاديث إعلامية بتأكيد أنه جرى التطرق بطبيعة الحال إلى الواقع السياسي «لكنني لا أحمل أي رسائل (أميركية) وقد لمستُ كل حرص على استقرار لبنان والإسراع بتشكيل الحكومة بعيداً عمن سيتولى رئاستها».