ليس مبالغة القول ان القرار الذي اتخذه الرئيس باراك أوباما والقاضي بالغاء ما يسمى الدرع الصاروخية التي كانت الولايات المتحدة تنوي إقامتها في بولندا وتشيكيا قرار تاريخي، انه يشير إلى تحول في السياسة الأميركية بهدف واضح كل الوضوح يتمثل في احتواء إيران بدل الدخول في صدام عسكري معها. أكثر من ذلك، يبدو أوباما في وضع من اقتنع بأن الولايات المتحدة ليست قادرة على خوض مواجهات جديدة من أي نوع كان من دون تنسيق وتعاون مع المجتمع الدولي كله بما في ذلك روسيا.
بات في الإمكان القول انه بعد عشرين عاماً على سقوط جدار برلين، وما يقارب ثمانية عشر عاماً على انهيار الاتحاد السوفياتي، أدخل باراك أوباما العالم في مرحلة جديدة تقوم على الإقرار بأن الحرب الباردة لم تنته بانتصار أميركي ساحق يسمح للولايات المتحدة بأن تتخذ القرار الذي تريده من دون عودة إلى الآخرين، خصوصاً روسيا. لا تزال روسيا قادرة على لعب أدوار معرقلة في أنحاء مختلفة من العالم، بما في ذلك في القارة الأميركية نفسها حيث، في فنزويلا نظام شرس يسعى إلى المعاكسة والحصول على أسلحة متطورة وإقامة تحالفات مع ما تسميه واشنطن «الدول المارقة»، على رأسها إيران.
يبدو من خلال القرار القاضي بالغاء الدرع الصاروخية أن أوباما يعيد النظر جذرياً في سياسات سلفه جورج بوش الابن. لم يعد صحيحاً أن العالم يدار من واشنطن، ولم يعد صحيحاً أن أميركا قادرة على القيام بما تشاء، وليس صحيحاً أن في استطاعتها جرّ الآخرين خلفها في مغامرات غير محسوبة مثل الحرب على العراق. الأهم من ذلك كله، أن أوباما بات يدرك أن ليس في استطاعة الولايات المتحدة التعاطي بمفردها مع البرنامج النووي الإيراني، وأن لا تطويق حقيقياً لإيران وسياستها الهادفة إلى تكريس نفسها قوة إقليمية يحسب لها ألف حساب في المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى موريتانيا، مروراً بالعراق ولبنان وفلسطين واليمن والبحرين، من دون تعاون روسيا والصين إلى حد ما.
الوقت وحده كفيل بمعرفة ما إذا كان الرئيس الأميركي على حق أم لا، وما إذا كانت نظرته إلى العالم صائبة. الشيء الوحيد الأكيد أن روسيا، التي كانت مستاءة من الدرع الصاروخية في تشيكيا وبولندا، ومن المحاولا ت الأميركية الساعية إلى توسيع حلف شمال الأطلسي عن طريق جعله يضم بلداناً تقع على حدودها مثل أوكرانيا وجورجيا، لم تخف ارتياحها إلى السياسة الأميركية الجديدة. وذهب رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين إلى القول ان القرار الأميركي «صائب وشجاع». في الواقع، لم يكن هناك ما يدعو في أي وقت من الأوقات إلى التعامل مع روسيا بطريقة تشعرها بأنها مجرد دولة ضعيفة غير قادرة حتى على أن يكون لديها نفوذ في جورجيا، إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي قبل انهياره، ومسقط رأس ستالين!
هل رهان أوباما على روسيا في محله؟ الجواب أنه لم يكن قادراً سوى على المجازفة والاقدام على هذا الخيار. من دون روسيا لا يمكن تطويق إيران. وإلى إشعار آخر، ليس في نية الولايات المتحدة الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع «الجمهورية الإسلامية» بسبب برنامجها النووي. بكلام أوضح، أن أميركا- أوباما ليست في وارد أي مغامرة عسكرية تدفع إسرائيل في اتجاهها من دون استنفاد الخيارات الأخرى في مقدمها التنسيق مع الأوروبيين والروس من أجل تطويق إيران، واقناعها بأنها ليست قوة عظمى، وأنه يجب التفاوض معها في شأن كل صغيرة وكبيرة في الشرق الأوسط، بدءا بأمن الخليج وطرق النفط وصولاً إلى تشكيل الحكومة اللبنانية... وتحقيق المصالحة الفلسطينية!
ليست إيران المكان الوحيد الذي يمكن لروسيا أن تساعد فيه الأميركيين. هناك بالطبع الهاجس الأفغاني الذي تحول إلى كابوس يؤرق الإدارة الأميركية ودول حلف شمال الأطلسي، خصوصاً بريطانيا. هناك حاجة واضحة إلى زيادة كبيرة في عدد القوات الأميركية والأطلسية في أفغانستان في حال كان مطلوباً التعاطي بشكل جدي مع «طالبان». في غياب القدرة على إرسال مزيد من القوات إلى أفغانستان، تعتبر روسيا الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك خبرة واسعة في الشؤون الأفغانية نظراً إلى أنه سبق لها التورط في حرب طويلة خاسرة في هذا البلد عندما كانت لا تزال جزءا من الاتحاد السوفياتي. العالم كله، على رأسه أميركا، في حاجة إلى التعاون الروسي في أفغانستان. مثل هذا التعاون قد لا يكون عسكرياً بالضرورة. لكن موسكو قادرة على توفير تسهيلات لوجستية للجيوش الأطلسية وعلى مدها بمعلومات ثمينة هي في أمسّ الحاجة إليها.
مرة أخرى، لا مفر من التساؤل هل الرهان الروسي لأوباما في محله؟ الثابت أنه سبق الاقدام على الخطوة المتمثلة في وضع الدرع الصاروخية على الرف، محادثات طويلة على أعلى المستويات بين موسكو وواشنطن شارك فيها الرئيس الأميركي نفسه ونائب الرئيس جو بايدن. ما لم يقله الأميركيون عن النظرة إلى مستقبل العلاقات مع موسكو، يقوله الأمين العام لحلف شمال الأطلسي أندرس فوغ راسموسن. قال راسموسن في بروكسيل بعيد الإعلان عن الغاء مشروع الدرع الصاروخية: «علينا، في وقت مناسب، استطلاع إمكان الربط بين الأنظمة الصاروخية لكل من روسيا والأطلسي والولايات المتحدة».
ما كان لمثل هذا الكلام المهم أن يصدر عن الأمين العام لحلف الأطلسي من دون ضوء أخضر أميركي وأوروبي. مثل هذا الكلام يؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الدولية تقوم على وجود تحديات مشتركة تجمع بين روسيا وحلف الأطلسي. إيران ببرنامجها النووي وأفغانستان في طليعة هذه التحديات الكبيرة التي تشعر بها روسيا وتعمل من أجل التصدي لها متى توافرت شروط معيّنة من نوع وقف تمدد حلف شمال الأطلسي في اتجاهها.
خيرالله خيرالله
كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن