إشراقات النقد / قصص الدكتور خالد الشايجي ... بحث مضنٍ عن الفضيلة والجمال

خالد الشايجي


|سعاد العنزي|
تتراكم أطياف الإبداع... القصص... القصائد والملاحم والصور الجميلة، والحكم والقيم الأصيلة... واللغة هي الفضاء، وعناصر القص هي الأشياء، عالم الموجودات التي تتحرك باللغة... وتختلف بمكونات أسلوب عن أسلوب.
الكل ينشد الفضيلة والخير والحب وعالم يتشكل من فضاء رحب... يتحرك بالحب... ويغرد أناشيد البقاء والخصب... ويقف محاربا شياطين الظلام... الذين يؤججون فتيل الرذيلة في دواخل النفس البشرية... إنه الأدب وجمالياته التي تتماس مع عالم موجوداتنا، ويغايره عبر عالم التخييل والتصوير، الذي لا يختلف بالضرورة عن عالمنا الحقيقي... بل هو تقاطع مع ملامحنا وأخلاطنا، بمتعلقات تبعد اللبس قليلا عن هذه الشخصية وتلك.
للدكتور خالد الشايجي، في قصصه نفحة معلم فاضل ينشد الفضيلة، في أركان اللغة وبناء القصة، فلا قصة عنده من دون فضيلة، ولا جمالية للحياة، مادامت الرذيلة طليقة في أرجاء الكون، يبلغ الصراع بينهما حدته في عالم قصته، حتى ينتصر الخير، وتتألق جمالية الحياة بالفضيلة باقية، راسخة في الحياة.
تقرأ القصة، وكأنك تقرأ ملحمة أسطورية بروح ونفحة كويتية أصيلة، وهذه جمالية من جماليات قصصه، هو كاتب قصة تقتات على روحانيات معلم الفضيلة وناشد الجمال في خبايا الأفكار، وفي ثنايا أمواج البحر، ليكون البحر فضاء إنسانيا كويتيا أصيلا، يؤرخ ملحمة صبر وكفاح الكويتي، وتبقى الحكايات رموزا وعبرا في طريق العابرين في سفينة الحياة الكبيرة.
هذه القراءة رحلة استكشافية في عالم القصة عند الدكتور خالد الشايجي، بعد قراءة سابقة في الفضاء الشعري لديه.
صراع العوالم الداخلية في الشخصية
تتشاطر ذوات الشخصية المحورية في كل من قصة «دعاء الشيطان»، و«الحلم الصغير»، و«لص البحر»، صراعات عدة، متشظية بين الخير والشر، بين الرذيلة والفضيلة، بين الفقر، والسرقة:
«هذا هو شيطان الشر والإغراء، وتندلع الحرب الشعواء بين الخير والشر داخل نفسه... وتتوالى رحلاته قبل أن يقرر، وينفرد به الشيطان في ذلك الطريق الكئيب جيئة وذهابا حتى استطاع أن يخنق في نفسه كل صوت معارض «ولو لمرة واحدة على الأقل». من قصة «دعاء الشيطان»
إنه دعاء الشيطان عندما يعتري النفس البشرية عوز وفاقة، فيلون الشيطان طرقه وذرائعه ليصبح الدعاء نداء ملحا، يقرع الأنا الداخلية، والوعي واللاوعي، فتغدو عوالم الشخصية الداخلية، وصراعاتها، مسرحا لأحداث القصة، ولجريمة السقوط الإنساني والتداعي الاضطراري في عالم من القبح والجشع والطمع، التي تقرع تماديها لحظة التنوير في القصة ، بانقلاب الشر على الشخصية، ويكون النهاية والضياع هو عقابها الدنيوي ورادع البشر لاجتناب الرذائل، بتدخل رؤية المؤلف الضمني للقصة، الذي يوضح مدى احتفائه بترسيخ أدب العبر والحكم التي يستخلصها قارئ النص من العمل الأدبي، ودوما ما كانت تتضح لحظة التنوير مفاجئة ومباغتة للقارئ، كما اتضح في قصة «دعاء الشيطان»، التي اختتمت آمال أبي أحمد سائق الشاحنة الذي حمل معه المخدرات لتكون حمولة تحقيق الآمال والطموحات، فتنفجر به هذه الرحلة المأمولة بعاقبة فجائعية عند عودته للمنزل:
« وإذا هي أم أحمد تملأ عينيها الدموع مسرعة إليه وهي تردد بذهول اسم أحمد.
ماذا به... أجيبي؟!
- في السجن.
- لماذا ماذا فعل؟
- مخدرات يا أبا أحمد مخدرات وانهارت على الأرض، وانحنى عليها بينما صور موكب أحلامه تتساقط أمام عينيه سوداء باكية». من قصة «دعاء الشيطان»
بنفس غرائبية نهاية «دعاء الشيطان»، تنتهي قصة « لص البحر»، بدر الصياد الذي وجد من سرقة مصائد البحر حلا ناجزه لعوز صياد صغير لم يجد رزقه من صيد يومه ، لتنتهي قصة جشعه، بنهاية حياته عندما دخل مصيدة السمك/ مصيدة القدر:
«ولكنه قبل أن يسحبها ويخرج بها جاءت موجة متهادية وصفعت جانب القارب فمال إلى الجهة الأخرى فاندفع من جراء ذلك، جسم بدر تحت تأثير ثقله إلى داخل المصيدة وسقطت بما فيها إلى البحر تتهادى إلى الأعماق حاملة أعظم نقيضين في الدنيا ، الموت والحياة، وبينما كانت السمكة الكبيرة تستعيد أنفاسها في الماء وتعود إلى الحياة من جديد، كان بدر يعب الموت عبا مع كل جرعة ماء يبتلعها في تلك المصيدة الرهيبة». من قصة « لص البحر»
فتكون هذه النهايات القصصية مؤكدة لمقولة «الجزاء من جنس العمل»، التي اعتنى بها الدكتور خالد الشايجي، وحولها إلى سياج قصصي، يؤكدها و يوضح فحواها.
عندما يكون البحر فضاء
لم يكن البحر في قصتي «الحلم الصغير»، و «لص البحر»، مجرد فضاء تدور فيه الأحداث، ولا مجرد خلفية تتحرك فيها الشخصيات، بل كان مكونا خاصا ومميزا، كما هو بالنسبة للكويت قديما، فهو عنصر مهيمن في النص، مصدرا للمنح والمنع، بجوده تزهو حياة المواطن الكويتي، وبشحه تتقلب النفس البشرية على مضاجع الفقد والعوز، كما في حالة الصياد بدر في قصة «لص البحر»، ولا عبدالله بطل «الحلم الصغير» الذي لم يهبه البحر المحار واللؤلؤ، فعاد بخيبة مسافر لم يجد ضالته:
«كان يشعر بأسى في قلبه لم يشعر به من قبل لأنه في هذه المرة أيضا لم يوفق هو ولا كل من في السفينة بشيء من اللؤلؤ». من قصة «الحلم الصغير»
من هنا تتضح مكانة البحر في نفسية المواطن الكويتي، فيه ملحمة العطاء والكفاح، والصبر على قسوة الطبيعة والاستجداء لمنائح القدر.
صورة المرأة الكويتية
في القصص موضع المقاربة تتضح صورة المرأة الكويتية شامخة وجميلة، ليس جمالا شكليا، بل جمال أخلاقي، تتبلور منه فكرة القاص، المؤلف الضمني، لمفهوم الجمال، الذي يتحقق بجمال الروح والأخلاقيات في التعامل، المرأة الصابرة المتحملة لمشاق الحياة مع الرجل من دون شكوى وتبرم، وضجر من الظروف المحيطة لتكون هذه المرأة أنموذجا جماليا وأخلاقيا، يعيد الهالة الأخلاقية والجمالية للمرأة المعاصرة التي تمكن عصر الآلة من جعل البعض منهن يغردن لعالم الماديات والنزعة الفردية، كما هم بعض الرجال.
تتضح هذه الصورة في قصتي «دعاء الشيطان»، و«الحلم الصغير»، فتنطلق رؤيته في الأولى : «ويطل عليه وجه أم أحمد، ذلك الوجه الحبيب إلى نفسه ، وجه تلك المرأة الصبورة الصامتة التي لم تسأله يوما لنفسها شيئا، كل ما تطلبه للبيت و للأولاد فقط وربما زادت قليلا وقالت له: أبا أحمد إنك بحاجة إلى قميص جديد». (دعاء الشيطان).
في ما مضى إطلالة على نفحة أخلاقية إنسانية مشرقة من اشراقات الشاعر المبدع والأصيل الدكتور خالد الشايجي، الذي مخر عباب بحر الفكر والإبداع ليصطاد لنا ثمائن درر الأفكار.
* كاتبة وناقدة كويتية
[email protected]
تتراكم أطياف الإبداع... القصص... القصائد والملاحم والصور الجميلة، والحكم والقيم الأصيلة... واللغة هي الفضاء، وعناصر القص هي الأشياء، عالم الموجودات التي تتحرك باللغة... وتختلف بمكونات أسلوب عن أسلوب.
الكل ينشد الفضيلة والخير والحب وعالم يتشكل من فضاء رحب... يتحرك بالحب... ويغرد أناشيد البقاء والخصب... ويقف محاربا شياطين الظلام... الذين يؤججون فتيل الرذيلة في دواخل النفس البشرية... إنه الأدب وجمالياته التي تتماس مع عالم موجوداتنا، ويغايره عبر عالم التخييل والتصوير، الذي لا يختلف بالضرورة عن عالمنا الحقيقي... بل هو تقاطع مع ملامحنا وأخلاطنا، بمتعلقات تبعد اللبس قليلا عن هذه الشخصية وتلك.
للدكتور خالد الشايجي، في قصصه نفحة معلم فاضل ينشد الفضيلة، في أركان اللغة وبناء القصة، فلا قصة عنده من دون فضيلة، ولا جمالية للحياة، مادامت الرذيلة طليقة في أرجاء الكون، يبلغ الصراع بينهما حدته في عالم قصته، حتى ينتصر الخير، وتتألق جمالية الحياة بالفضيلة باقية، راسخة في الحياة.
تقرأ القصة، وكأنك تقرأ ملحمة أسطورية بروح ونفحة كويتية أصيلة، وهذه جمالية من جماليات قصصه، هو كاتب قصة تقتات على روحانيات معلم الفضيلة وناشد الجمال في خبايا الأفكار، وفي ثنايا أمواج البحر، ليكون البحر فضاء إنسانيا كويتيا أصيلا، يؤرخ ملحمة صبر وكفاح الكويتي، وتبقى الحكايات رموزا وعبرا في طريق العابرين في سفينة الحياة الكبيرة.
هذه القراءة رحلة استكشافية في عالم القصة عند الدكتور خالد الشايجي، بعد قراءة سابقة في الفضاء الشعري لديه.
صراع العوالم الداخلية في الشخصية
تتشاطر ذوات الشخصية المحورية في كل من قصة «دعاء الشيطان»، و«الحلم الصغير»، و«لص البحر»، صراعات عدة، متشظية بين الخير والشر، بين الرذيلة والفضيلة، بين الفقر، والسرقة:
«هذا هو شيطان الشر والإغراء، وتندلع الحرب الشعواء بين الخير والشر داخل نفسه... وتتوالى رحلاته قبل أن يقرر، وينفرد به الشيطان في ذلك الطريق الكئيب جيئة وذهابا حتى استطاع أن يخنق في نفسه كل صوت معارض «ولو لمرة واحدة على الأقل». من قصة «دعاء الشيطان»
إنه دعاء الشيطان عندما يعتري النفس البشرية عوز وفاقة، فيلون الشيطان طرقه وذرائعه ليصبح الدعاء نداء ملحا، يقرع الأنا الداخلية، والوعي واللاوعي، فتغدو عوالم الشخصية الداخلية، وصراعاتها، مسرحا لأحداث القصة، ولجريمة السقوط الإنساني والتداعي الاضطراري في عالم من القبح والجشع والطمع، التي تقرع تماديها لحظة التنوير في القصة ، بانقلاب الشر على الشخصية، ويكون النهاية والضياع هو عقابها الدنيوي ورادع البشر لاجتناب الرذائل، بتدخل رؤية المؤلف الضمني للقصة، الذي يوضح مدى احتفائه بترسيخ أدب العبر والحكم التي يستخلصها قارئ النص من العمل الأدبي، ودوما ما كانت تتضح لحظة التنوير مفاجئة ومباغتة للقارئ، كما اتضح في قصة «دعاء الشيطان»، التي اختتمت آمال أبي أحمد سائق الشاحنة الذي حمل معه المخدرات لتكون حمولة تحقيق الآمال والطموحات، فتنفجر به هذه الرحلة المأمولة بعاقبة فجائعية عند عودته للمنزل:
« وإذا هي أم أحمد تملأ عينيها الدموع مسرعة إليه وهي تردد بذهول اسم أحمد.
ماذا به... أجيبي؟!
- في السجن.
- لماذا ماذا فعل؟
- مخدرات يا أبا أحمد مخدرات وانهارت على الأرض، وانحنى عليها بينما صور موكب أحلامه تتساقط أمام عينيه سوداء باكية». من قصة «دعاء الشيطان»
بنفس غرائبية نهاية «دعاء الشيطان»، تنتهي قصة « لص البحر»، بدر الصياد الذي وجد من سرقة مصائد البحر حلا ناجزه لعوز صياد صغير لم يجد رزقه من صيد يومه ، لتنتهي قصة جشعه، بنهاية حياته عندما دخل مصيدة السمك/ مصيدة القدر:
«ولكنه قبل أن يسحبها ويخرج بها جاءت موجة متهادية وصفعت جانب القارب فمال إلى الجهة الأخرى فاندفع من جراء ذلك، جسم بدر تحت تأثير ثقله إلى داخل المصيدة وسقطت بما فيها إلى البحر تتهادى إلى الأعماق حاملة أعظم نقيضين في الدنيا ، الموت والحياة، وبينما كانت السمكة الكبيرة تستعيد أنفاسها في الماء وتعود إلى الحياة من جديد، كان بدر يعب الموت عبا مع كل جرعة ماء يبتلعها في تلك المصيدة الرهيبة». من قصة « لص البحر»
فتكون هذه النهايات القصصية مؤكدة لمقولة «الجزاء من جنس العمل»، التي اعتنى بها الدكتور خالد الشايجي، وحولها إلى سياج قصصي، يؤكدها و يوضح فحواها.
عندما يكون البحر فضاء
لم يكن البحر في قصتي «الحلم الصغير»، و «لص البحر»، مجرد فضاء تدور فيه الأحداث، ولا مجرد خلفية تتحرك فيها الشخصيات، بل كان مكونا خاصا ومميزا، كما هو بالنسبة للكويت قديما، فهو عنصر مهيمن في النص، مصدرا للمنح والمنع، بجوده تزهو حياة المواطن الكويتي، وبشحه تتقلب النفس البشرية على مضاجع الفقد والعوز، كما في حالة الصياد بدر في قصة «لص البحر»، ولا عبدالله بطل «الحلم الصغير» الذي لم يهبه البحر المحار واللؤلؤ، فعاد بخيبة مسافر لم يجد ضالته:
«كان يشعر بأسى في قلبه لم يشعر به من قبل لأنه في هذه المرة أيضا لم يوفق هو ولا كل من في السفينة بشيء من اللؤلؤ». من قصة «الحلم الصغير»
من هنا تتضح مكانة البحر في نفسية المواطن الكويتي، فيه ملحمة العطاء والكفاح، والصبر على قسوة الطبيعة والاستجداء لمنائح القدر.
صورة المرأة الكويتية
في القصص موضع المقاربة تتضح صورة المرأة الكويتية شامخة وجميلة، ليس جمالا شكليا، بل جمال أخلاقي، تتبلور منه فكرة القاص، المؤلف الضمني، لمفهوم الجمال، الذي يتحقق بجمال الروح والأخلاقيات في التعامل، المرأة الصابرة المتحملة لمشاق الحياة مع الرجل من دون شكوى وتبرم، وضجر من الظروف المحيطة لتكون هذه المرأة أنموذجا جماليا وأخلاقيا، يعيد الهالة الأخلاقية والجمالية للمرأة المعاصرة التي تمكن عصر الآلة من جعل البعض منهن يغردن لعالم الماديات والنزعة الفردية، كما هم بعض الرجال.
تتضح هذه الصورة في قصتي «دعاء الشيطان»، و«الحلم الصغير»، فتنطلق رؤيته في الأولى : «ويطل عليه وجه أم أحمد، ذلك الوجه الحبيب إلى نفسه ، وجه تلك المرأة الصبورة الصامتة التي لم تسأله يوما لنفسها شيئا، كل ما تطلبه للبيت و للأولاد فقط وربما زادت قليلا وقالت له: أبا أحمد إنك بحاجة إلى قميص جديد». (دعاء الشيطان).
في ما مضى إطلالة على نفحة أخلاقية إنسانية مشرقة من اشراقات الشاعر المبدع والأصيل الدكتور خالد الشايجي، الذي مخر عباب بحر الفكر والإبداع ليصطاد لنا ثمائن درر الأفكار.
* كاتبة وناقدة كويتية
[email protected]