أشقاء... من الطفولة إلى الشهرة
الأخوان رحباني... ظاهرة فنية لا تتكرر كثيرا / 7

الأخوان رحباني مع فيروز

منصور الرحباني

فيروز

عاصي الرحباني








|القاهرةـ - من مختار محمود|
أي أسرة في أي مكان... تجتاحها السعادة، عندما يحقق أحد أفرادها نجاحا، يجلب عليه الشهرة، ويضعه تحت الأضواء، نجما متوهجا، يشار إليه بالبنان في مجاله أو مجتمعه وحتى خارجه، وتتهافت على نشر أخباره الصحف والمجلات، ومن ثمَّ يكون مثار فخر لها واعتزازا ليس لأسرته أو مجتمعه الصغير وفقط، ولكن قد يكون لدولته وأمته.
ولكن تلك السعادة سوف تتضاعف... عندما ينجح شقيقان، ويتألقان في مجال عملهما، ويغدوان نجمين في سماء الشهرة والذيوع، وهناك نماذج عربية وغربية من هنا أو من هناك. حققت تلك المعادلة الصعبة، تغلبت على العقبات، وحفرت في الصخر، ووصلت إلى قمة النجومية، وذروة التوهج، حتى انها ظلت باقية في الذاكرة، بالرغم من مرور عقود عدة على رحيلها.
النماذج التي نرصدها لأشقاء أو إخوة مشاهير، تتوزع بين العلم والسياسة والرياضة، والفن، ويجسد كل نموذج منها نبراسا للتحدي والإصرار على النجاح والتميز، ولاسيما أن معظم تلك النماذج، ولدت في أجواء صعبة لا تعرف رفاهية العيش، ولا لذة الحياة، وهو ما دفعها في البداية إلى تحقيق المستحيل، ثم ضاعف سعادتها، عندما وصلت إلى ما وصلت إليه.
ونعرض في تلك الحلقات لأشهر الأشقاء والإخوة... الذين حققوا الشهرة سواء في مجال واحد، أو مجالين مختلفين، فهناك من تألق فنيا «الأخوان رحباني» و«الشقيقان الأطرش»، وهناك من توهج رياضيا مثل «التوأم حسن».
كما أن هناك أشقاء... شقَّ كل منهم طريقه في الحياة في مجال مختلف، ووصل إلى قمة النجاح والتألق «الشقيقان الباز مثال حي»، كما نرصد بدايات كل منهما، وكيف كانت دافعا لهما للإبحار ضد الصعاب والعقبات وتجاوزها، وتحقيق النجاح والشهرة والخلود في ذاكرة البشر، باعتبارهما دليلا حيا على الإصرار والتحدي.
وفي السطور حكايات... تعرفنا عليها... ومواقف توقفنا عندها... وصور نادرة تحكي مسيرة الأشقاء.
في منطقة «أنطلياس»... الرائعة الجمال بلبنان وفي العام 1923... ولد عاصي الرحباني، وبعد عامين من ولادته جاء شقيقه الأصغر «منصور» إلى الدنيا في العام 1925 ليجسدا معا ظاهرة فنية نادرة، تستعصي على التكرار كثيرا.
والدهما... هو « حنا إلياس الرحباني» كان معروفا بالصرامة الشديدة في كل ما يتعلق بالآداب العامة لا يخلط الجد بالهزل أبدا، رغم ذلك كان محبا للموسيقى عاشقا للأغاني الرائعة التي كان يشدو بها كبار المطربين آنذاك.
ونظرا لتدهور الأحوال المادية للعائلة... اضطُر عاصي ومنصور، لمساعدة والدهما، بالعمل في قطاف الليمون أو في مطعم الفوّار الذي استبدله والدهما بمقهى صغير في منطقة «المنيبيع».
في هذه الأجواء نشأ الاخوان رحباني... تشدد وحرص على الآداب والتقاليد وحب للموسيقى وبيئة رائعة الجمال، بالإضافة إلى جدتهما لأمهما التي كانت تحكي لهما قصصا خيالية عن الجن والحب وسير الأبطال والشعر من الموروثات الشعبية وكانت تشجعهما على حفظ هذا الشعر. هذه العوامل شكلت موهبة الصبيين وأصقلتهما.
مجلة المكشوف
وعندما بلغ منصور الثامنة من عمره بدأ أولى محاولاته في كتابة الشعر ثم اشترك في مجلة «المكشوف» وغيرها من المجلات الأدبية، وكان شقيقه عاصي يشاركه قراءتها بشغف شديد. وفي سن الرابعة عشرة أسس عاصي مجلة اسمها «الحرشاية» وكان يكتب فيها الشعر والقصص الخيالية بخط يده، هذه المجلة أثارت غيرة منصور فأنشأ مجلة مشابهة اسمها «الأغاني» وبدات بينهما منافسة ضارية كانت نتيجتها صقل موهبتهما وتطورها مع الوقت. بعد ذلك اهتما بالموسيقى وتعلما العزف على الآلات المختلفة، ودرسا علم «الهارموني» وتاريخ الموسيقى الشرقية من كتب نادرة وسرعان ما بدآ في التأليف الموسيقي.
وقبل أن يبلغا سن الرشد أسسا «نادي أنطلياس الثقافي» وقدما من خلاله الأنشطة الثقافية والاجتماعية والحفلات الغنائية، وكانت باكورة أعمالهما مسرحية «وفاء العرب» التي ألفاها ولحناها ومثلا فيها. وفي العام 1944 بدأت مرحلة جديدة من حياتهما الفنية فقدما مسرحيات طويلة ذات قصة.
وقدما أغنيات لاتزيد مددها على دقيقتين أو 3 دقائق، وكانت تذاع في إذاعتي «دمشق والشرق الأدنى» باعتبارها نمطا جديدا من الأغنيات يختلف عن الأغاني الطويلة التي كانت سائدة آنذاك. من هنا بدا الأخوان رحباني رحلتهما مع الفن والغناء والمسرحيات الغنائية وفي فترة وجيزة حققا شهرة واسعة من خلال عرض أعمالهما في المحطات الإذاعية المتنوعة.
فيروز والأخوان
التقى عاصي الرحباني بالمطربة الكبيرة فيروز للمرة الأولى في إذاعة الشرق الأدنى... كان هو موظفا في الإذاعة أما هي فكانت مغنية في الكورس في نفس الإذاعة، وكان «حليم الرومي» هو الذي دبر هذا اللقاء... ولم يقتنع عاصي بصوت فيروز وشاركه الرأي شقيقه منصور، إلا أنهما غيرا رأيهما بعد ذلك، وهيأ الرحبانيان انطلاقة كبيرة لفيروز بعد أن خضعت للكثير من التجارب، فقد غنت الألوان الأوروبية الصعبة، ثم الألوان الشرقية الصعبة مع مختلف الاوركسترات، وكانت دائما تثبت جدارتها وتكونت لديها خبرة لم تحصل عليها أي مطربة أخرى.
وفي منتصف الخمسينات من القرن الماضي تزوج عاصي الرحباني فيروز وسافروا جميعا إلى مصر للاطلاع على شؤون الفن هناك فالتقوا مدير إذاعة صوت العرب أحمد سعيد آنذاك وعرضوا عليه تقديم عمل عن القضية الفلسطينية فاقترح عليهم أن يسافروا إلى «غزة» للاطلاع على ما يحدث فيها وتقديم العمل الذي يلائم معاناة الناس هناك، ولكنهم اعتذروا له لأنهم يخافون من ركوب الطائرة. وعندما استمعوا إلى بعض الأغنيات المسجلة عن فلسطين وجدوا أنها مليئة بالبكاء والنواح، فعرض الاخوان رحباني على أحمد سعيد أن يقدما شيئا بطريقتهما الخاصة، وقدما وقتها أغنية «راجعون». وفيما بعد وضعا مجموعة من الأغاني لفلسطين مثل «سنرجع يوما»، «زهرة المدائن».
عندما بدأت مهرجانات «بعلبك» في لبنان كان منظموه يستعينون بفرق اجنبية من مختلف انحاء العالم، لكن في بداية العام 1957 ظهرت الحاجة إلى تقديم فن لبناني في تلك المهرجانات وكان الرحبانية اول من استدعوا وتم إسناد مهمة التلحين فقط إليهم، غير أن عاصي أصر على القيام بالمهرجان كاملا، وكانت اللجنة المنظمة ترفض أن تكون فيروز هي المطربة وأصر عاصي على موقفه، وقال للجنة: إنهم لا يعرفون فيروز، وانها ستقدم شيئا مختلفا عن المتوقع.
كما عرض أن تتقاضى ليرة لبنانية واحدة فقط، وهكذا غنت فيروز في ليلة الافتتاح وأبهرت الجماهير عندما صدحت بأغنية «لبنان يا أخضر» وراح الناس يصفقون بحرارة وسط موجة من البكاء والغبطة.
لكن المهرجانات ألغيت في العام التالي بسبب الأحداث التي شهدتها لبنان في هذا العام. وفي العام 1979 عاد المهرجان وقدم الرحبانيان «المحاكمة» بطولة فيروز ووديع الصافي، وبعد ذلك واصل الأخوان رحباني انطلاقهما وتوسع إنتاجهما الفني وتنوع واقتحما مجالات جديدة مثل السينما.
في العام 1979، أفضت المشاكل بين عاصي وفيروز إلى انفصالهما، ممّا ترك أثره على المسيرة الرحبانية، وانفرط بذلك عقد «الثالوث الرحباني». وكلا الطرفان أكمل عمله منفردا. قدم الأخوان رحباني «المؤامرة مستمرة» سنة 1980، و«الربيع السابع» العام 1984. بينما غنّت فيروز من ألحان ملحّنين آخرين.
الرحبانيان والتغيير
كتب غازي قهوجي عن الرحبانية قائلا: «في أحد الأيام سألت عاصي الرحباني عن دور الفن في الحياة، ولم يكن منصور حاضرا آنذاك وأجابني ببساطة: الفن هو محاولة راقية للتخفيف من مرارة الحياة!
وبعد رحيل عاصي بسنوات، سألت منصور السؤال نفسه.
فقال: الفن هو محاولة لجعل الحياة أجمل!
وهكذا، فما بين افتراض يقول بدور الفن في تخفيف مرارة الحياة، وما بين دوره في جعلها أجمل، انساب ذاك الدفق العظيم من الموسيقى والشعر والمسرح والصوت المعجزة فيروز وتشكل لدى الرحبانيين شغف جارف وساطع بالتغيير والتمرد على مجمل السائد والرائج مما ورثته وأدمنته الأسماع، لا سيما أنهما عرفا أسرار قطف العادي البسيط وجعله مدهشا ومؤهلا لسكنى القلب والعين والذاكرة.
والكلام عن الأخوين بشكل عام أو أحدهما بشكل خاص، أو عن الرحابنة مجتمعين يطول ويتعدد ويتنوع، وتصعب مقاربته بالتلخيص والإيجاز والاختصار خصوصا أمام رائدين اجتهدا في تغيير عادات السماع، فأعادا تشكيل الكلام وتأليف الأشكال على هدي ايقاع فرض حركته وتسيد على الوقت والزمن وأمسك ببراعة نادرة جوهر المرتجى والمراد كحبة الرمل التي تختزن الصحراء.
صياغة الأفراح
كتب الأخوان للأيام الآتية كما قال غازي وكانا خلال ما يزيد على نصف القرن في مقدمة المستشرقين، وما خبا لهما ضوء ولا كبا لهما جواد، وهما يصوغان فرح الناس وتمردهم في آن معا، ويرفعان رايات فخر الانتماء إلى هذه الأرض وهذا الوطن الصغير الذي وصل معهما إلى غالبية أرجاء القارات الخمس، ولم يكن استحضار التراث أو الواقعة التاريخية في بعض أعمالهما - وبعد ذلك لدى منصور منفردا - سوى مجداف دفة وشراع لسفر مفتوح على الحلم المغاير وعبر مسار جريء وشجاع على عكس ما تشتهي الرياح، وقد أخذا من التراث جذوته وليس رماده في زمن كان فيه من لا يزال يسرّج خيل قوافله متوجها نحو ماض مطفأ وخامد.
رؤى خاصة
وما كان لثنائية الأخوين المتفردة أن تكون بتلك الروعة وذاك الدفق في العطاء المتنوع في الموسيقى والشعر والمسرح وسائر الفنون المرئية والمسموعة، لو لم يكن كل من الأخوين بحد ذاته يمتلك الموهبة والمزايا الفنية العالية التي قل وجودها لدى آخرين.
ولو لم يكن لدى كل منهما رؤاه الخاصة بكل عمق تساؤلاتها وهواجسها وثراء جماليتها. وبرز ذلك عندما بات منصور وحيدا على الساحة موسيقى ونصا ورؤى وشعرا. ولقد كان أن ولد الكبيران في بيت واحد، ونشآ معا، ودرجا معا، فنمت وارتقت - وفي آن معا - عبقريتان تقاطعتا على الدوام بأحلام ورؤى كل منهما بأحلام ورؤى الآخر، وكاد هذا «الاتحاد» وليس «الوحدة» - إذا استقام التعبير - يندرج وفق مقولة: إن الكبار هم دائما على موعد لقاء في الرؤى.... ودائما ما يلتقون.
ولو لم يكن عاصي اخا لمنصور، لطلب منه أن يؤاخيه في الفن! وكذلك ايضا كان قد تمنى منصور! ولكن الذي حدث هو أنه من العطايا الكبيرة التي وهب بها لبنان وسائر دنيا العرب أن عاصي ومنصور كانا أخوين حقيقيين في المقام والحل والترحال والإداع.
لقد كانت أربعينات ومطالع خمسينات القرن العشرين - كما كتب غازي هي السنوات التي بدأ فيها لبنان يتلمس الخطى لإنجاز استقلاله وصياغة طبيعة كيانه الاجتماعي. وذهبت جميع الجهود آنذاك أو غالبيتها إلى بناء مفاصل الدولة اداريا واقتصاديا وسياسيا.
وتزامنا مع هذا الحراك، ظهرت الحاجة المركزية والضرورة الحتمية إلى إيجاد الهوية الخاصة بالكيان، وإلى تأليف الشخصية التي تسعى إلى التفرد والتميز في محيطها الواسع، لا سيما أنها تستند إلى تاريخ حضاري عريق حفل على مر الزمن بالعطاء الإنساني الكبير.
هكذا بدأت تتوالد الأحلام الأولى، والرؤى الجديدة للبناء الفوقي للبلد، وتتبرعم وتزهر وتثمر بالموسيقى والأغنية والمسرح وسائر الفنون التي تشكل عالم الثقافة بجميع ما تحمله من طموحات وآمال كانت على الدوام هي الهدف لمضامين وجدوى الوجود الإنساني. وبدأ الخروج على النمطية والرتابة والجمود الذي ورثته الأمة فتراخت وانزوت دهرا تقلد وتتبَّع وسارت أسيرة في ركب الغير.
في ذلك الوقت كانت مجموعة صغيرة من الشباب الفنانين المبدعين تتوق وتجتهد لبناء تلك الشخصية الثقافية للبلد القديم - الجديد.
وكان في طليعة هؤلاء كل من عاصي ومنصور الرحباني.
لقد وضع الأخوان مقولة التمرد مقابل صيغة الثورة - بالمعنى الانقلابي - ذلك أن التمرد يعني التوالد الدائم للأفكار المبدعة، وهو الحافز الأمثل والأهم للتغيير نحو الأفضل والأجمل والأشمل، وطرحا من دون تنظير أو استعراض معرفي، فعل «رأى» بعد فعل «نظر»، وذلك انطلاقا مما يقال بالمحكية: «كل الناس بتتطلع، بس مش كل الناس بتشوف!»،
لقد قصدا وهدفا أن تتدخل البصيرة - البصر كمشارك أساسي في استيعاب والتقاط إشارات الوجود وأحداثه، واستكشاف ماهية الأمور والدلالات المحيطة بنا، وملاحظة وفهم تعدديتها وتراكماتها، ومحاولة إدراكها وذلك بهدف تغييرها وتطويرها وإعادة تأليفها، والانطلاق بها إلى رؤى معاصرة هدفها الإنسان كفرد وجماعة ومجتمع.
أفلام ومسرحيات وأغان ومسلسلات
توزّعت الأعمال المسرحية للأخوين رحباني كالآتي: «أيام الحصاد» (1957)، «عرس في القرية» (1959)، «موسم العز» (1960)، «البعلبكية» (1961)، «جسر القمر» و«دمشق، «1962»، «عودة العسكر» (1962)، «الليل والقنديل» (1963)، بياع الخواتم، الأرز، دمشق، 1964)، «دواليب الهوا» (1965)، «أيام فخر الدين» (1966)، «هالة والملك» 1967)، «جبال الصوان» (1969)، «يعيش يعيش» 1970، «صح النوم» (1971).
وقدما: «ناطورة المفاتيح» (1972)، «ناس من ورق» (1972)، «المحطة» (1973)، «قصيدة حب» (1973)، «لولو» (1974)، «ميس الريم» (1975)، «منوعات» (1976)، «بترا» (1977)، «بترا» (1978)، «المؤامرة مستمرة» (1980)، «الربيع السابع» (1984). بالإضافة إلى ذلك، قدّم الرحبانيان وفيروز لوحات مسرحية ومنوّعات كثيرة خلال رحلات عديدة خارج لبنان على مسارح العالم.
إلى جانب الأفلام الثلاثة التي قدّموها: «بيّاع الخواتم» (1965)، «سفر برلك» (1966)، «بنت الحارس» (1967)، قدّم الرحابنة مئات الحلقات التليفزيونية والإذاعية من برامج ومسلسلات ومنوّعات وإسكتشات موزّعة في لبنان والدول العربية بأصوات عشرات المطربين والمطربات، منها الغنائي ومنها الترتيل الديني.
النهاية
تدهورت صحّة عاصي، وتوفي في العام 1986، عن 63 عاما. وأكمل منصور عطاءه، فقدّم «صيف 84» و«الوصية» و«ملوك الطوائف» و«المتنبي» و«حكم الرعيان» و«سقراط» و«زنوبيا» حتى توفي مطلع هذا العام عن عمر يناهز 83 عاما بعد صراع مع المرض، ووصفه الشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي بقوله: «كان منصور رجلا حمل بلده على كتفيه ودار به لنشر الثقافة والفن الجميل».
ورثته عميدة معهد الفنون المسرحية بدمشق حنان قصاب: «تسألوني من أعظم فناني هذا العصر والعصر الماضي؟ أجمل فن يمكن أن أحكي عنه هو فن منصور وعاصي وفيروز»، وقالت وزيرة الثقافة المغربية ثريا جبران: «منصور وأخوه عاصي كانا يعمران لبنان من وهم».
ورثاه طلال حيدر بقوله: «وداعا أيها العملاق وشكرا فقد طرزت حياتنا بالفن الراقي والذوق الرفيع».
تميّز عطاء الرحبانية وفنّهم بالعمل الفنّي المتكامل... الكلمة، اللحن والأداء. ومن الطبيعي، أن الأخوين رحباني لم يصلا إلى ما وصلا إليه، لولا صوت فيروز وحضورها، ولولا الأخوان رحباني لما وصلت فيروز إلى ما وصلت إليه. وشكّل عملهم الفني ظاهرة، تخطّت حدود لبنان والعالم العربي، إلى العالمية. وممّا لا شكّ فيه أنّ مسرحهم الغنائي ساهم في تطوير الأغنية اللبنانية والعربية. ومن النادر أن يتوافق موسيقيان - ولو أخوان -على العمل الثنائي كما فعل الرحبانيان، ومن النادر أن يُعرف من كتب ومن لحّن ومن وزّع أي عمل لهما، خاصّة وأنهما كانا يوقّعان جميع الأعمال، حتّى ولو كانت لواحد منهما، باسمهما الذي صار مدرسة ومثالا: الأخوين رحباني.
أي أسرة في أي مكان... تجتاحها السعادة، عندما يحقق أحد أفرادها نجاحا، يجلب عليه الشهرة، ويضعه تحت الأضواء، نجما متوهجا، يشار إليه بالبنان في مجاله أو مجتمعه وحتى خارجه، وتتهافت على نشر أخباره الصحف والمجلات، ومن ثمَّ يكون مثار فخر لها واعتزازا ليس لأسرته أو مجتمعه الصغير وفقط، ولكن قد يكون لدولته وأمته.
ولكن تلك السعادة سوف تتضاعف... عندما ينجح شقيقان، ويتألقان في مجال عملهما، ويغدوان نجمين في سماء الشهرة والذيوع، وهناك نماذج عربية وغربية من هنا أو من هناك. حققت تلك المعادلة الصعبة، تغلبت على العقبات، وحفرت في الصخر، ووصلت إلى قمة النجومية، وذروة التوهج، حتى انها ظلت باقية في الذاكرة، بالرغم من مرور عقود عدة على رحيلها.
النماذج التي نرصدها لأشقاء أو إخوة مشاهير، تتوزع بين العلم والسياسة والرياضة، والفن، ويجسد كل نموذج منها نبراسا للتحدي والإصرار على النجاح والتميز، ولاسيما أن معظم تلك النماذج، ولدت في أجواء صعبة لا تعرف رفاهية العيش، ولا لذة الحياة، وهو ما دفعها في البداية إلى تحقيق المستحيل، ثم ضاعف سعادتها، عندما وصلت إلى ما وصلت إليه.
ونعرض في تلك الحلقات لأشهر الأشقاء والإخوة... الذين حققوا الشهرة سواء في مجال واحد، أو مجالين مختلفين، فهناك من تألق فنيا «الأخوان رحباني» و«الشقيقان الأطرش»، وهناك من توهج رياضيا مثل «التوأم حسن».
كما أن هناك أشقاء... شقَّ كل منهم طريقه في الحياة في مجال مختلف، ووصل إلى قمة النجاح والتألق «الشقيقان الباز مثال حي»، كما نرصد بدايات كل منهما، وكيف كانت دافعا لهما للإبحار ضد الصعاب والعقبات وتجاوزها، وتحقيق النجاح والشهرة والخلود في ذاكرة البشر، باعتبارهما دليلا حيا على الإصرار والتحدي.
وفي السطور حكايات... تعرفنا عليها... ومواقف توقفنا عندها... وصور نادرة تحكي مسيرة الأشقاء.
في منطقة «أنطلياس»... الرائعة الجمال بلبنان وفي العام 1923... ولد عاصي الرحباني، وبعد عامين من ولادته جاء شقيقه الأصغر «منصور» إلى الدنيا في العام 1925 ليجسدا معا ظاهرة فنية نادرة، تستعصي على التكرار كثيرا.
والدهما... هو « حنا إلياس الرحباني» كان معروفا بالصرامة الشديدة في كل ما يتعلق بالآداب العامة لا يخلط الجد بالهزل أبدا، رغم ذلك كان محبا للموسيقى عاشقا للأغاني الرائعة التي كان يشدو بها كبار المطربين آنذاك.
ونظرا لتدهور الأحوال المادية للعائلة... اضطُر عاصي ومنصور، لمساعدة والدهما، بالعمل في قطاف الليمون أو في مطعم الفوّار الذي استبدله والدهما بمقهى صغير في منطقة «المنيبيع».
في هذه الأجواء نشأ الاخوان رحباني... تشدد وحرص على الآداب والتقاليد وحب للموسيقى وبيئة رائعة الجمال، بالإضافة إلى جدتهما لأمهما التي كانت تحكي لهما قصصا خيالية عن الجن والحب وسير الأبطال والشعر من الموروثات الشعبية وكانت تشجعهما على حفظ هذا الشعر. هذه العوامل شكلت موهبة الصبيين وأصقلتهما.
مجلة المكشوف
وعندما بلغ منصور الثامنة من عمره بدأ أولى محاولاته في كتابة الشعر ثم اشترك في مجلة «المكشوف» وغيرها من المجلات الأدبية، وكان شقيقه عاصي يشاركه قراءتها بشغف شديد. وفي سن الرابعة عشرة أسس عاصي مجلة اسمها «الحرشاية» وكان يكتب فيها الشعر والقصص الخيالية بخط يده، هذه المجلة أثارت غيرة منصور فأنشأ مجلة مشابهة اسمها «الأغاني» وبدات بينهما منافسة ضارية كانت نتيجتها صقل موهبتهما وتطورها مع الوقت. بعد ذلك اهتما بالموسيقى وتعلما العزف على الآلات المختلفة، ودرسا علم «الهارموني» وتاريخ الموسيقى الشرقية من كتب نادرة وسرعان ما بدآ في التأليف الموسيقي.
وقبل أن يبلغا سن الرشد أسسا «نادي أنطلياس الثقافي» وقدما من خلاله الأنشطة الثقافية والاجتماعية والحفلات الغنائية، وكانت باكورة أعمالهما مسرحية «وفاء العرب» التي ألفاها ولحناها ومثلا فيها. وفي العام 1944 بدأت مرحلة جديدة من حياتهما الفنية فقدما مسرحيات طويلة ذات قصة.
وقدما أغنيات لاتزيد مددها على دقيقتين أو 3 دقائق، وكانت تذاع في إذاعتي «دمشق والشرق الأدنى» باعتبارها نمطا جديدا من الأغنيات يختلف عن الأغاني الطويلة التي كانت سائدة آنذاك. من هنا بدا الأخوان رحباني رحلتهما مع الفن والغناء والمسرحيات الغنائية وفي فترة وجيزة حققا شهرة واسعة من خلال عرض أعمالهما في المحطات الإذاعية المتنوعة.
فيروز والأخوان
التقى عاصي الرحباني بالمطربة الكبيرة فيروز للمرة الأولى في إذاعة الشرق الأدنى... كان هو موظفا في الإذاعة أما هي فكانت مغنية في الكورس في نفس الإذاعة، وكان «حليم الرومي» هو الذي دبر هذا اللقاء... ولم يقتنع عاصي بصوت فيروز وشاركه الرأي شقيقه منصور، إلا أنهما غيرا رأيهما بعد ذلك، وهيأ الرحبانيان انطلاقة كبيرة لفيروز بعد أن خضعت للكثير من التجارب، فقد غنت الألوان الأوروبية الصعبة، ثم الألوان الشرقية الصعبة مع مختلف الاوركسترات، وكانت دائما تثبت جدارتها وتكونت لديها خبرة لم تحصل عليها أي مطربة أخرى.
وفي منتصف الخمسينات من القرن الماضي تزوج عاصي الرحباني فيروز وسافروا جميعا إلى مصر للاطلاع على شؤون الفن هناك فالتقوا مدير إذاعة صوت العرب أحمد سعيد آنذاك وعرضوا عليه تقديم عمل عن القضية الفلسطينية فاقترح عليهم أن يسافروا إلى «غزة» للاطلاع على ما يحدث فيها وتقديم العمل الذي يلائم معاناة الناس هناك، ولكنهم اعتذروا له لأنهم يخافون من ركوب الطائرة. وعندما استمعوا إلى بعض الأغنيات المسجلة عن فلسطين وجدوا أنها مليئة بالبكاء والنواح، فعرض الاخوان رحباني على أحمد سعيد أن يقدما شيئا بطريقتهما الخاصة، وقدما وقتها أغنية «راجعون». وفيما بعد وضعا مجموعة من الأغاني لفلسطين مثل «سنرجع يوما»، «زهرة المدائن».
عندما بدأت مهرجانات «بعلبك» في لبنان كان منظموه يستعينون بفرق اجنبية من مختلف انحاء العالم، لكن في بداية العام 1957 ظهرت الحاجة إلى تقديم فن لبناني في تلك المهرجانات وكان الرحبانية اول من استدعوا وتم إسناد مهمة التلحين فقط إليهم، غير أن عاصي أصر على القيام بالمهرجان كاملا، وكانت اللجنة المنظمة ترفض أن تكون فيروز هي المطربة وأصر عاصي على موقفه، وقال للجنة: إنهم لا يعرفون فيروز، وانها ستقدم شيئا مختلفا عن المتوقع.
كما عرض أن تتقاضى ليرة لبنانية واحدة فقط، وهكذا غنت فيروز في ليلة الافتتاح وأبهرت الجماهير عندما صدحت بأغنية «لبنان يا أخضر» وراح الناس يصفقون بحرارة وسط موجة من البكاء والغبطة.
لكن المهرجانات ألغيت في العام التالي بسبب الأحداث التي شهدتها لبنان في هذا العام. وفي العام 1979 عاد المهرجان وقدم الرحبانيان «المحاكمة» بطولة فيروز ووديع الصافي، وبعد ذلك واصل الأخوان رحباني انطلاقهما وتوسع إنتاجهما الفني وتنوع واقتحما مجالات جديدة مثل السينما.
في العام 1979، أفضت المشاكل بين عاصي وفيروز إلى انفصالهما، ممّا ترك أثره على المسيرة الرحبانية، وانفرط بذلك عقد «الثالوث الرحباني». وكلا الطرفان أكمل عمله منفردا. قدم الأخوان رحباني «المؤامرة مستمرة» سنة 1980، و«الربيع السابع» العام 1984. بينما غنّت فيروز من ألحان ملحّنين آخرين.
الرحبانيان والتغيير
كتب غازي قهوجي عن الرحبانية قائلا: «في أحد الأيام سألت عاصي الرحباني عن دور الفن في الحياة، ولم يكن منصور حاضرا آنذاك وأجابني ببساطة: الفن هو محاولة راقية للتخفيف من مرارة الحياة!
وبعد رحيل عاصي بسنوات، سألت منصور السؤال نفسه.
فقال: الفن هو محاولة لجعل الحياة أجمل!
وهكذا، فما بين افتراض يقول بدور الفن في تخفيف مرارة الحياة، وما بين دوره في جعلها أجمل، انساب ذاك الدفق العظيم من الموسيقى والشعر والمسرح والصوت المعجزة فيروز وتشكل لدى الرحبانيين شغف جارف وساطع بالتغيير والتمرد على مجمل السائد والرائج مما ورثته وأدمنته الأسماع، لا سيما أنهما عرفا أسرار قطف العادي البسيط وجعله مدهشا ومؤهلا لسكنى القلب والعين والذاكرة.
والكلام عن الأخوين بشكل عام أو أحدهما بشكل خاص، أو عن الرحابنة مجتمعين يطول ويتعدد ويتنوع، وتصعب مقاربته بالتلخيص والإيجاز والاختصار خصوصا أمام رائدين اجتهدا في تغيير عادات السماع، فأعادا تشكيل الكلام وتأليف الأشكال على هدي ايقاع فرض حركته وتسيد على الوقت والزمن وأمسك ببراعة نادرة جوهر المرتجى والمراد كحبة الرمل التي تختزن الصحراء.
صياغة الأفراح
كتب الأخوان للأيام الآتية كما قال غازي وكانا خلال ما يزيد على نصف القرن في مقدمة المستشرقين، وما خبا لهما ضوء ولا كبا لهما جواد، وهما يصوغان فرح الناس وتمردهم في آن معا، ويرفعان رايات فخر الانتماء إلى هذه الأرض وهذا الوطن الصغير الذي وصل معهما إلى غالبية أرجاء القارات الخمس، ولم يكن استحضار التراث أو الواقعة التاريخية في بعض أعمالهما - وبعد ذلك لدى منصور منفردا - سوى مجداف دفة وشراع لسفر مفتوح على الحلم المغاير وعبر مسار جريء وشجاع على عكس ما تشتهي الرياح، وقد أخذا من التراث جذوته وليس رماده في زمن كان فيه من لا يزال يسرّج خيل قوافله متوجها نحو ماض مطفأ وخامد.
رؤى خاصة
وما كان لثنائية الأخوين المتفردة أن تكون بتلك الروعة وذاك الدفق في العطاء المتنوع في الموسيقى والشعر والمسرح وسائر الفنون المرئية والمسموعة، لو لم يكن كل من الأخوين بحد ذاته يمتلك الموهبة والمزايا الفنية العالية التي قل وجودها لدى آخرين.
ولو لم يكن لدى كل منهما رؤاه الخاصة بكل عمق تساؤلاتها وهواجسها وثراء جماليتها. وبرز ذلك عندما بات منصور وحيدا على الساحة موسيقى ونصا ورؤى وشعرا. ولقد كان أن ولد الكبيران في بيت واحد، ونشآ معا، ودرجا معا، فنمت وارتقت - وفي آن معا - عبقريتان تقاطعتا على الدوام بأحلام ورؤى كل منهما بأحلام ورؤى الآخر، وكاد هذا «الاتحاد» وليس «الوحدة» - إذا استقام التعبير - يندرج وفق مقولة: إن الكبار هم دائما على موعد لقاء في الرؤى.... ودائما ما يلتقون.
ولو لم يكن عاصي اخا لمنصور، لطلب منه أن يؤاخيه في الفن! وكذلك ايضا كان قد تمنى منصور! ولكن الذي حدث هو أنه من العطايا الكبيرة التي وهب بها لبنان وسائر دنيا العرب أن عاصي ومنصور كانا أخوين حقيقيين في المقام والحل والترحال والإداع.
لقد كانت أربعينات ومطالع خمسينات القرن العشرين - كما كتب غازي هي السنوات التي بدأ فيها لبنان يتلمس الخطى لإنجاز استقلاله وصياغة طبيعة كيانه الاجتماعي. وذهبت جميع الجهود آنذاك أو غالبيتها إلى بناء مفاصل الدولة اداريا واقتصاديا وسياسيا.
وتزامنا مع هذا الحراك، ظهرت الحاجة المركزية والضرورة الحتمية إلى إيجاد الهوية الخاصة بالكيان، وإلى تأليف الشخصية التي تسعى إلى التفرد والتميز في محيطها الواسع، لا سيما أنها تستند إلى تاريخ حضاري عريق حفل على مر الزمن بالعطاء الإنساني الكبير.
هكذا بدأت تتوالد الأحلام الأولى، والرؤى الجديدة للبناء الفوقي للبلد، وتتبرعم وتزهر وتثمر بالموسيقى والأغنية والمسرح وسائر الفنون التي تشكل عالم الثقافة بجميع ما تحمله من طموحات وآمال كانت على الدوام هي الهدف لمضامين وجدوى الوجود الإنساني. وبدأ الخروج على النمطية والرتابة والجمود الذي ورثته الأمة فتراخت وانزوت دهرا تقلد وتتبَّع وسارت أسيرة في ركب الغير.
في ذلك الوقت كانت مجموعة صغيرة من الشباب الفنانين المبدعين تتوق وتجتهد لبناء تلك الشخصية الثقافية للبلد القديم - الجديد.
وكان في طليعة هؤلاء كل من عاصي ومنصور الرحباني.
لقد وضع الأخوان مقولة التمرد مقابل صيغة الثورة - بالمعنى الانقلابي - ذلك أن التمرد يعني التوالد الدائم للأفكار المبدعة، وهو الحافز الأمثل والأهم للتغيير نحو الأفضل والأجمل والأشمل، وطرحا من دون تنظير أو استعراض معرفي، فعل «رأى» بعد فعل «نظر»، وذلك انطلاقا مما يقال بالمحكية: «كل الناس بتتطلع، بس مش كل الناس بتشوف!»،
لقد قصدا وهدفا أن تتدخل البصيرة - البصر كمشارك أساسي في استيعاب والتقاط إشارات الوجود وأحداثه، واستكشاف ماهية الأمور والدلالات المحيطة بنا، وملاحظة وفهم تعدديتها وتراكماتها، ومحاولة إدراكها وذلك بهدف تغييرها وتطويرها وإعادة تأليفها، والانطلاق بها إلى رؤى معاصرة هدفها الإنسان كفرد وجماعة ومجتمع.
أفلام ومسرحيات وأغان ومسلسلات
توزّعت الأعمال المسرحية للأخوين رحباني كالآتي: «أيام الحصاد» (1957)، «عرس في القرية» (1959)، «موسم العز» (1960)، «البعلبكية» (1961)، «جسر القمر» و«دمشق، «1962»، «عودة العسكر» (1962)، «الليل والقنديل» (1963)، بياع الخواتم، الأرز، دمشق، 1964)، «دواليب الهوا» (1965)، «أيام فخر الدين» (1966)، «هالة والملك» 1967)، «جبال الصوان» (1969)، «يعيش يعيش» 1970، «صح النوم» (1971).
وقدما: «ناطورة المفاتيح» (1972)، «ناس من ورق» (1972)، «المحطة» (1973)، «قصيدة حب» (1973)، «لولو» (1974)، «ميس الريم» (1975)، «منوعات» (1976)، «بترا» (1977)، «بترا» (1978)، «المؤامرة مستمرة» (1980)، «الربيع السابع» (1984). بالإضافة إلى ذلك، قدّم الرحبانيان وفيروز لوحات مسرحية ومنوّعات كثيرة خلال رحلات عديدة خارج لبنان على مسارح العالم.
إلى جانب الأفلام الثلاثة التي قدّموها: «بيّاع الخواتم» (1965)، «سفر برلك» (1966)، «بنت الحارس» (1967)، قدّم الرحابنة مئات الحلقات التليفزيونية والإذاعية من برامج ومسلسلات ومنوّعات وإسكتشات موزّعة في لبنان والدول العربية بأصوات عشرات المطربين والمطربات، منها الغنائي ومنها الترتيل الديني.
النهاية
تدهورت صحّة عاصي، وتوفي في العام 1986، عن 63 عاما. وأكمل منصور عطاءه، فقدّم «صيف 84» و«الوصية» و«ملوك الطوائف» و«المتنبي» و«حكم الرعيان» و«سقراط» و«زنوبيا» حتى توفي مطلع هذا العام عن عمر يناهز 83 عاما بعد صراع مع المرض، ووصفه الشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي بقوله: «كان منصور رجلا حمل بلده على كتفيه ودار به لنشر الثقافة والفن الجميل».
ورثته عميدة معهد الفنون المسرحية بدمشق حنان قصاب: «تسألوني من أعظم فناني هذا العصر والعصر الماضي؟ أجمل فن يمكن أن أحكي عنه هو فن منصور وعاصي وفيروز»، وقالت وزيرة الثقافة المغربية ثريا جبران: «منصور وأخوه عاصي كانا يعمران لبنان من وهم».
ورثاه طلال حيدر بقوله: «وداعا أيها العملاق وشكرا فقد طرزت حياتنا بالفن الراقي والذوق الرفيع».
تميّز عطاء الرحبانية وفنّهم بالعمل الفنّي المتكامل... الكلمة، اللحن والأداء. ومن الطبيعي، أن الأخوين رحباني لم يصلا إلى ما وصلا إليه، لولا صوت فيروز وحضورها، ولولا الأخوان رحباني لما وصلت فيروز إلى ما وصلت إليه. وشكّل عملهم الفني ظاهرة، تخطّت حدود لبنان والعالم العربي، إلى العالمية. وممّا لا شكّ فيه أنّ مسرحهم الغنائي ساهم في تطوير الأغنية اللبنانية والعربية. ومن النادر أن يتوافق موسيقيان - ولو أخوان -على العمل الثنائي كما فعل الرحبانيان، ومن النادر أن يُعرف من كتب ومن لحّن ومن وزّع أي عمل لهما، خاصّة وأنهما كانا يوقّعان جميع الأعمال، حتّى ولو كانت لواحد منهما، باسمهما الذي صار مدرسة ومثالا: الأخوين رحباني.