منازل العرفان... / الأدب عند المحب

أبو القاسم الديباجي





| أبو القاسم الديباجي |
الأدب اصطلاح عملي ومعناه الحفاظ عـلـى حـد الشيء، وقيل أيضاً انه الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليها الفعل المشروع، وهو الجامع لمحاسن الأقوال والأفعال، والأدب من السلوكيات الإنسانية والإسلامية الرفيعة يتزين بها الإنسان فتضفي على شخصيته المعنوية كمالاً وجمالاً، وليست الآداب هـي الأخلاق فالأخلاق ملكات روحية راسخة تتلبس بها النفوس بينما الآداب هيئة حسنة تتلبس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان عن صفات نفسية مختلفة، ولنعم ما قيل في هذا المقام:
أدبوا النفس أيها الأصحاب طرق العشق كلها آداب.
و ينقسم الأدب في اصطلاح العارفين إلى ثلاثة مقامات:-
- المقام الأول: أدب الشريعة.
- المقام الثاني: أدب الخدمة.
- المقام الثالث: أدب الحق.
المقام الأول: أدب الشريعة:
هو تعلم أحكام الشريعة واتباع الأوامر الإلهية كما قال الله تعالى في كتابه الكريم:
«وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ» وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم) «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا».
و قد وصـف أحـد العرفاء مقام أدب الشريعة بأنه الأدب الإلهي الـذي يتولى الله تعليمه بالوحي والإلهام به أدب نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وذكر بعض القدماء في أدب الشريعة أنه عدم التعدي بالحكم موضعه في جوهر كان أو في عرض أو في زمان أو مكان أو في وضع أو في إضافة، أو في حال أو في مقدار.
و الأدب فـي الذوات القائمة بأنفسها فبحسب ما عليه مـن مـعـدن ونبات وحيوان وإنسان وعـروض وما يقبل التغيير وما يقبل الفساد وما لا يقبل فيعلم حكم الشرع في ذلك كله فيجريه فيه بحسبه. وأما الآداب في الأعراض فـهـي ما يتعلق بأفـعـال المكلفين من وجـوب وحـظـر ونـدب وكراهـة وإباحة، وأما الآداب الزمانية فما يتعلق بأوقات العبادات فمنه ما يضيق وقته ومنه ما يتسع، وأما الآداب المكانية كمواضع العبادات مـثـل بـيـوت الله الذي أذن الله فيها أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وأما الآداب الوضعية فهي ألا يسمى الشيء بغير أسمه ليتغير عليـه حـكـم الـشـرع بتغير الاسـم، فيحلل ما كـان محرمـاً أو يـحـرم ما كـان محللاً، أما أدب الإضـافـة فمثل قـول الخضر (عليه السلام) فأردت أن أعيبها وقوله فأردنا أن يبدلهما للاشتراك بين ما يحمد ويذم، وقوله فأراد ربك لتخليص المحمدة فيه فيكتسب الشيء الواحد بالنسبة ذماً وبالإضافة إلى جهة أخرى حمداً، وهو عينه وتغير الحكم بالنسبة، وأما أدب الأحوال كحال السفر في الطاعة وحاله في المعصية، وأما الآداب في الأعداد فهو ما يتعلق بعدد أفعال الطهارة ومقاديرها والزكاة وعدد الصلوات وكذلك توقيت ما يغتسل به وما يتوضأ.
و من أجل مصاديق الأدب وأكمله النبي الأمي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي عظم الله عز وجل شأنه فقال:
«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»، فتأدب كمال أدب الله وتخلق بكرائم أخلاق الله ولم يتعلم على يد أحد غير الله تبارك وتعالى الـذي علمه عـلـم الـشـرع والتوحيد، فكان كما قال (صلى الله عليه وسلم): «أدبني ربي فأحسن تأديبي».
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «إن الله تبارك وتعال أدب نبيه على محبته».
وذكر علماء علم الأخلاق والعرفان في مقامات الإمام علي (عليه السلام) أنه مما تميز به مع سعة علمه هو أدبه مع أستاذه العظيم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فما كان يتكلم بكلمة في محضره إلا بإذنه.
وقال (عليه السلام) لكميل بن زياد النخعي: «يا كميل إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أدبه الله عز وجل وهو أدبني وأنا أؤدب المؤمنين وأورث الأدب المكرمين «وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في شأن التعلم «من لم يصبر على ذُل التعلم ساعة بقي في ذلك الجهل أبداً» وسئل الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أي الأدب أحسن قال «أدب الدين».
و آفة مقام أدب الشريعة الحرص في جمع العلوم وتعليمها بترك العمل، فقد قال الله سبحانه وتعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ »، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «العلم وديعة الله في أرضه والعلماء أمناؤه عليه فمن عمل بعلمه أدى أمانته ومن لم يعمل كتب في ديوان الخائنين» وقال (صلى الله عليه وسلم): «العلماء رجلان، رجل عالم أخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه »، وقال علي بن الحسين (عليه السلام) «العلم إذا لم يعمل به لم يزدد منه إلا بعداً» وأما الامام الصادق (عليه السلام) فقد قال «العلم مقرون إلى العمل فمن علم عمل ومن عمل علم».
و لقد تعلمنا من أساتذتنا في مكاتبهم الأخلاقية والعرفانية أن العالم يكون عالماً بقدر ما يعمل بعلمه لا بقدر ما يحفظ في ذهنه.
و أقسام علوم الشريعة أربعة: علم الكلام، علم الكتاب العزيز، علم الأحاديث النبوية، علم الأحكام الشرعية.
وعلم الكلام يعبر عنه بأصول الدين، وعلم الكتاب ينقسم إلى علم التجويد وعلم القراءة وعلم التفسير، وعلم الأحاديث النبوية فيه ضربان: الرواية (العلم بما ذكر) والدراية (معرفة معاني ما ذكر ومتنه وطرقه وصحيحه وسقيمه)، أما علم الأحكام الشرعية فيعبر عنه بالفقه.
المقام الثاني: أدب الخدمة:
هو حسن المعاملة في خدمة الحق تبارك وتعالى ومعاشرة الخلق، مع معرفة السالك إلى الله حقيقة المعية الإلهية «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ «لا يجد في نفسه لحظة تخلو من أدب خدمة الحق تبارك وتعالى، وقد قال الإمام علي (عليه السلام): «يا مؤمن إن هذا العلم والأدب ثمن نفسك فاجتهد في تعلمهما فما يزيد من علمك وأدبك خدمة ربك وبأدب الخدمة يستوجب العبد وولايته وقربه».
و الأنبياء (عليهم السلام) مصاديق مُثلى في الأدب البارع وحسن المعاملة الحق، والناظر في سيرتهم يعثر على لطائف وكمالات أدبية في جميع حركاتهم وسكناتهم المبنية على أساس أدب العبودية وتوحيد الربوبية للفرد الأحد عز وجل، كما كانوا يتبرأون من كل عمل حسن وكل وصف مذموم يضيفونه إلى أنفسهم منها، على سبيل المثال تعبير سيدنا آدم (عليه السلام) في قوله: «رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا »، في مقابل سوء أدب إبليس الذي قال: « فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ »، وخطاب سيدنا أيوب (عليه السلام) لربه: «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »، ولم يقل ارحمني وقول سيدنا عيسى: «إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ »، ولم يقل «لم أقل» أو كما قال الخضر (عليه السلام) في العيب: «فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا» ولكن في الخير قال: «فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا »، كل ذلك أدباً للحظرة القدسية وخضوعاً لساحة الجلالة الربوبية».
ومن أعاظم مراتب خدمة السالك إلى الله في معاشرة الخلق خدمته لمعلمه وأستاذه الذي هيأ مقدمات السير والسلوك إلى الله وما يحتاجه من زاد في ذلك السبيل ثم يرقى به المدارج الواحد تلو الآخر حتى يصل به إلى المقصد والمبتغى.
وفيما قاله الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن سيدنا موسى (عليه السلام): «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً «جملة من الأدب بين المتعلم والمعلم مع عظم شأن سيدنا موسى (عليه السلام) وكونه من أولي العزم من الرسل وكماله على معلمه في جهات أخرى.
و كذلك كان الحال مع علمائنا وأساتذتنا الماضين رضوان الله عليهم أجمعين الذين تميزوا بحسن الأدب وكماله مع أساتذتهم الافاضل.
ولما كان الله تبارك وتعالى هو المعلم الأول للإنسان، فالجلوس على المائدة العلمية والأخلاقية للأستاذ والمعلم وتغذية الروح بعلومه ومعارفه إنما هو جلوس على مائدة علم رب العالمين. وقد سافر الكثير من العلماء أسفاراً بعيدة وأعدوا لها الوسائل مع صعوبتها وندرتها لكي يزوروا عالماً من العلماء أو عارفاً من العرفاء ويجلسوا في محضره ولو نصف ساعة متحلين بكامل آداب الجلوس والإصغاء في تلك المحاضر النورانية.
و من آداب الخدمة ألا يكون الباعث عليها تأمل القبول والتقدير من المخدوم، فإذا كان كذلك فالخدمة كانت للنفس وما تشتهيه لا ما كان مطلوبا وينبغي.
و آفة مقام أدب الخدمة رؤية العلائق الشاغلة في القلب، فلابد للسالك إلى الله أن يُسخر بدنه وعمره في سبيل أدب الخدمة وأن يتجنب كل علاقة تشغل قلبه عن الوصول إلى هذا المقام كما قال الإمام علي (عليه السلام): «ذك قلبك بالأدب كما تذكى النار بالحطب».
المقام الثاني: أدب الخدمة:
هو العمل بالحق الذي خلق الله تعالم به عالم الوجود وبه يحكم «مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ» والوقوف عنده.
و إذا كان الإنسان يشعر بهيبة في محضر الأستاذ ويراعي حسن الأدب في مجلسه فكيف بالجلوس في محضر العليم الخبير وهو رب الأرباب والملك الوهاب؟ فعلى السالك إلى الله معرفة أدب الحق، حق الأدب حتى يعلو بكمال أدبه إلى الكمال المطلق لرب الأرباب عز وجل.
وقد قال أحد مشايخ العرفان في أدب الحق «أنه الأدب مع الحق في اتباعه عند من يظهر عنده ويحكم به فترجع إليه وتقبله ولا تحملك الأنفة إن كنت ذا كبر في السن أو المرتبة وظهر الحق عند من هو أصغر منك سناً أو قدراً »، كذلك يقول العرفاء أن أدب الحق هو موافقة الحق بالمعرفة.
و أما آفة الحق فهي السكوت على النفس والرضا بهواها، ففي النفس والقلب دفائن كامنة ومع آداب الحق يمكن استكشاف دفائن أحوال النفس، وآفة أدب الحق هي السكوت أمام مشتهيات النفس وملاهيها، وإذا بحثنا عن علاج هذه الآفة نجدها عند نبينا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) حينما سأله رجل اسمه مجاشع: كيف الطريق إلى موافقة الحال ؟ قال (صلى الله عليه وسلم): «مخالفة النفس».
وهناك أنواع كثيرة من الآداب نذكر بعضا منها كأدب السالك في السفر وأدب السالك مع الرفيق وأدب السالك مع الأمير (العرفاء حينما يسافرون في جمع يختارون لأنفسهم أميرا يتبعونه) وأدب السالك عند دخول بلد من البلاد (كاستحباب الغسل كما كان يفعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وما إلى غير ذلك من أصناف الأدب، إلا أنها كلها تندرج تحت الأقسام الثلاثة المذكورة.
حينما نتفكر ونتعمق في مقامات أدب السالكين نرى أنه لا يمكن للعارف والسالك إلى الله عز وجل الوصول إلى أي مقام من المقامات الربانية والإلهية إلا ببركة هذا المقام وهذا لا يتحقق إلا بالتعلم، ولكن أين نتعلم ؟ وعند من نتعلم ؟
علينا أن نتعلم عند أساتذة ومعلمي الأخلاق والعرفان الذين تعلموا بدورهم من أساتذتهم وعاشوا في هذا الطريق والسبيل ووصلوا إلى ما وصلوا إليه من المقامات الرفيعة.
فحينما بارز الإمام علي (عليه السلام) عمرو بن عبد ود وأوقعه على الأرض ثم جلس على صدره كان هو الفاتح في سبيل الله والغالب على عدو الله وهم أن يقتله ولكنه قام عن صدره وما قتله في الحال، فسئل الإمام علي (عليه السلام) عن وقفته قبل ضرب بن عبد ود فقال (عليه السلام): «قد كان شتم أمي وتفل في وجهي فخشيت أن أضربه لحظ نفسي فتركته حتى سكن ما بي ثم قتلته في الله».
أيها السالك إلى الله، إذا كنت في أي محضر من المحاضر فعليك أن تتحلى بالآداب اللائقة لذلك المحضر، فللمسجد آداب وللمنزل آداب وللمدرسة آداب وللصحبة آداب، وكيف إذا كان المحضر محضر المولى عز وجل، وعادة حينما يدخل إنسان في مكتب وزير أو مدير يراعي أن يكون في غاية الأدب والاحترام في محضر الوزير أو المدير، فهل حينما يبدأ صلاته بتكبيرة الإحرام التي هي بمثابة إذن دخول في حرم الله سبحانه وتعالى يراعي الأدب والإجلال في محضر رب العالمين كما يراعيه في محضر خلقه وهو أحق بذلك ؟
أيها السالك إلى الله انصراف القلب إلى غير الله تعالى من أسوأ الآداب معه، فعليك بمعرفة مقامات الأدب وآفات الآداب فتتجنبها وتتبع حسن الأدب الجميل في عبادتك له ودعائك ظاهرياً وباطنياً وحضور القلب حال العبادة والدعاء إجلالاً لمحضره وتعظيماً لشأنه حتى تشملك فيوضات وأنوار رب العالمين وهو الغني عن العالمين.
الأدب اصطلاح عملي ومعناه الحفاظ عـلـى حـد الشيء، وقيل أيضاً انه الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليها الفعل المشروع، وهو الجامع لمحاسن الأقوال والأفعال، والأدب من السلوكيات الإنسانية والإسلامية الرفيعة يتزين بها الإنسان فتضفي على شخصيته المعنوية كمالاً وجمالاً، وليست الآداب هـي الأخلاق فالأخلاق ملكات روحية راسخة تتلبس بها النفوس بينما الآداب هيئة حسنة تتلبس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان عن صفات نفسية مختلفة، ولنعم ما قيل في هذا المقام:
أدبوا النفس أيها الأصحاب طرق العشق كلها آداب.
و ينقسم الأدب في اصطلاح العارفين إلى ثلاثة مقامات:-
- المقام الأول: أدب الشريعة.
- المقام الثاني: أدب الخدمة.
- المقام الثالث: أدب الحق.
المقام الأول: أدب الشريعة:
هو تعلم أحكام الشريعة واتباع الأوامر الإلهية كما قال الله تعالى في كتابه الكريم:
«وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ» وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم) «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا».
و قد وصـف أحـد العرفاء مقام أدب الشريعة بأنه الأدب الإلهي الـذي يتولى الله تعليمه بالوحي والإلهام به أدب نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وذكر بعض القدماء في أدب الشريعة أنه عدم التعدي بالحكم موضعه في جوهر كان أو في عرض أو في زمان أو مكان أو في وضع أو في إضافة، أو في حال أو في مقدار.
و الأدب فـي الذوات القائمة بأنفسها فبحسب ما عليه مـن مـعـدن ونبات وحيوان وإنسان وعـروض وما يقبل التغيير وما يقبل الفساد وما لا يقبل فيعلم حكم الشرع في ذلك كله فيجريه فيه بحسبه. وأما الآداب في الأعراض فـهـي ما يتعلق بأفـعـال المكلفين من وجـوب وحـظـر ونـدب وكراهـة وإباحة، وأما الآداب الزمانية فما يتعلق بأوقات العبادات فمنه ما يضيق وقته ومنه ما يتسع، وأما الآداب المكانية كمواضع العبادات مـثـل بـيـوت الله الذي أذن الله فيها أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وأما الآداب الوضعية فهي ألا يسمى الشيء بغير أسمه ليتغير عليـه حـكـم الـشـرع بتغير الاسـم، فيحلل ما كـان محرمـاً أو يـحـرم ما كـان محللاً، أما أدب الإضـافـة فمثل قـول الخضر (عليه السلام) فأردت أن أعيبها وقوله فأردنا أن يبدلهما للاشتراك بين ما يحمد ويذم، وقوله فأراد ربك لتخليص المحمدة فيه فيكتسب الشيء الواحد بالنسبة ذماً وبالإضافة إلى جهة أخرى حمداً، وهو عينه وتغير الحكم بالنسبة، وأما أدب الأحوال كحال السفر في الطاعة وحاله في المعصية، وأما الآداب في الأعداد فهو ما يتعلق بعدد أفعال الطهارة ومقاديرها والزكاة وعدد الصلوات وكذلك توقيت ما يغتسل به وما يتوضأ.
و من أجل مصاديق الأدب وأكمله النبي الأمي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي عظم الله عز وجل شأنه فقال:
«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»، فتأدب كمال أدب الله وتخلق بكرائم أخلاق الله ولم يتعلم على يد أحد غير الله تبارك وتعالى الـذي علمه عـلـم الـشـرع والتوحيد، فكان كما قال (صلى الله عليه وسلم): «أدبني ربي فأحسن تأديبي».
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «إن الله تبارك وتعال أدب نبيه على محبته».
وذكر علماء علم الأخلاق والعرفان في مقامات الإمام علي (عليه السلام) أنه مما تميز به مع سعة علمه هو أدبه مع أستاذه العظيم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فما كان يتكلم بكلمة في محضره إلا بإذنه.
وقال (عليه السلام) لكميل بن زياد النخعي: «يا كميل إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أدبه الله عز وجل وهو أدبني وأنا أؤدب المؤمنين وأورث الأدب المكرمين «وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في شأن التعلم «من لم يصبر على ذُل التعلم ساعة بقي في ذلك الجهل أبداً» وسئل الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أي الأدب أحسن قال «أدب الدين».
و آفة مقام أدب الشريعة الحرص في جمع العلوم وتعليمها بترك العمل، فقد قال الله سبحانه وتعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ »، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «العلم وديعة الله في أرضه والعلماء أمناؤه عليه فمن عمل بعلمه أدى أمانته ومن لم يعمل كتب في ديوان الخائنين» وقال (صلى الله عليه وسلم): «العلماء رجلان، رجل عالم أخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه »، وقال علي بن الحسين (عليه السلام) «العلم إذا لم يعمل به لم يزدد منه إلا بعداً» وأما الامام الصادق (عليه السلام) فقد قال «العلم مقرون إلى العمل فمن علم عمل ومن عمل علم».
و لقد تعلمنا من أساتذتنا في مكاتبهم الأخلاقية والعرفانية أن العالم يكون عالماً بقدر ما يعمل بعلمه لا بقدر ما يحفظ في ذهنه.
و أقسام علوم الشريعة أربعة: علم الكلام، علم الكتاب العزيز، علم الأحاديث النبوية، علم الأحكام الشرعية.
وعلم الكلام يعبر عنه بأصول الدين، وعلم الكتاب ينقسم إلى علم التجويد وعلم القراءة وعلم التفسير، وعلم الأحاديث النبوية فيه ضربان: الرواية (العلم بما ذكر) والدراية (معرفة معاني ما ذكر ومتنه وطرقه وصحيحه وسقيمه)، أما علم الأحكام الشرعية فيعبر عنه بالفقه.
المقام الثاني: أدب الخدمة:
هو حسن المعاملة في خدمة الحق تبارك وتعالى ومعاشرة الخلق، مع معرفة السالك إلى الله حقيقة المعية الإلهية «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ «لا يجد في نفسه لحظة تخلو من أدب خدمة الحق تبارك وتعالى، وقد قال الإمام علي (عليه السلام): «يا مؤمن إن هذا العلم والأدب ثمن نفسك فاجتهد في تعلمهما فما يزيد من علمك وأدبك خدمة ربك وبأدب الخدمة يستوجب العبد وولايته وقربه».
و الأنبياء (عليهم السلام) مصاديق مُثلى في الأدب البارع وحسن المعاملة الحق، والناظر في سيرتهم يعثر على لطائف وكمالات أدبية في جميع حركاتهم وسكناتهم المبنية على أساس أدب العبودية وتوحيد الربوبية للفرد الأحد عز وجل، كما كانوا يتبرأون من كل عمل حسن وكل وصف مذموم يضيفونه إلى أنفسهم منها، على سبيل المثال تعبير سيدنا آدم (عليه السلام) في قوله: «رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا »، في مقابل سوء أدب إبليس الذي قال: « فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ »، وخطاب سيدنا أيوب (عليه السلام) لربه: «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »، ولم يقل ارحمني وقول سيدنا عيسى: «إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ »، ولم يقل «لم أقل» أو كما قال الخضر (عليه السلام) في العيب: «فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا» ولكن في الخير قال: «فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا »، كل ذلك أدباً للحظرة القدسية وخضوعاً لساحة الجلالة الربوبية».
ومن أعاظم مراتب خدمة السالك إلى الله في معاشرة الخلق خدمته لمعلمه وأستاذه الذي هيأ مقدمات السير والسلوك إلى الله وما يحتاجه من زاد في ذلك السبيل ثم يرقى به المدارج الواحد تلو الآخر حتى يصل به إلى المقصد والمبتغى.
وفيما قاله الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن سيدنا موسى (عليه السلام): «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً «جملة من الأدب بين المتعلم والمعلم مع عظم شأن سيدنا موسى (عليه السلام) وكونه من أولي العزم من الرسل وكماله على معلمه في جهات أخرى.
و كذلك كان الحال مع علمائنا وأساتذتنا الماضين رضوان الله عليهم أجمعين الذين تميزوا بحسن الأدب وكماله مع أساتذتهم الافاضل.
ولما كان الله تبارك وتعالى هو المعلم الأول للإنسان، فالجلوس على المائدة العلمية والأخلاقية للأستاذ والمعلم وتغذية الروح بعلومه ومعارفه إنما هو جلوس على مائدة علم رب العالمين. وقد سافر الكثير من العلماء أسفاراً بعيدة وأعدوا لها الوسائل مع صعوبتها وندرتها لكي يزوروا عالماً من العلماء أو عارفاً من العرفاء ويجلسوا في محضره ولو نصف ساعة متحلين بكامل آداب الجلوس والإصغاء في تلك المحاضر النورانية.
و من آداب الخدمة ألا يكون الباعث عليها تأمل القبول والتقدير من المخدوم، فإذا كان كذلك فالخدمة كانت للنفس وما تشتهيه لا ما كان مطلوبا وينبغي.
و آفة مقام أدب الخدمة رؤية العلائق الشاغلة في القلب، فلابد للسالك إلى الله أن يُسخر بدنه وعمره في سبيل أدب الخدمة وأن يتجنب كل علاقة تشغل قلبه عن الوصول إلى هذا المقام كما قال الإمام علي (عليه السلام): «ذك قلبك بالأدب كما تذكى النار بالحطب».
المقام الثاني: أدب الخدمة:
هو العمل بالحق الذي خلق الله تعالم به عالم الوجود وبه يحكم «مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ» والوقوف عنده.
و إذا كان الإنسان يشعر بهيبة في محضر الأستاذ ويراعي حسن الأدب في مجلسه فكيف بالجلوس في محضر العليم الخبير وهو رب الأرباب والملك الوهاب؟ فعلى السالك إلى الله معرفة أدب الحق، حق الأدب حتى يعلو بكمال أدبه إلى الكمال المطلق لرب الأرباب عز وجل.
وقد قال أحد مشايخ العرفان في أدب الحق «أنه الأدب مع الحق في اتباعه عند من يظهر عنده ويحكم به فترجع إليه وتقبله ولا تحملك الأنفة إن كنت ذا كبر في السن أو المرتبة وظهر الحق عند من هو أصغر منك سناً أو قدراً »، كذلك يقول العرفاء أن أدب الحق هو موافقة الحق بالمعرفة.
و أما آفة الحق فهي السكوت على النفس والرضا بهواها، ففي النفس والقلب دفائن كامنة ومع آداب الحق يمكن استكشاف دفائن أحوال النفس، وآفة أدب الحق هي السكوت أمام مشتهيات النفس وملاهيها، وإذا بحثنا عن علاج هذه الآفة نجدها عند نبينا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) حينما سأله رجل اسمه مجاشع: كيف الطريق إلى موافقة الحال ؟ قال (صلى الله عليه وسلم): «مخالفة النفس».
وهناك أنواع كثيرة من الآداب نذكر بعضا منها كأدب السالك في السفر وأدب السالك مع الرفيق وأدب السالك مع الأمير (العرفاء حينما يسافرون في جمع يختارون لأنفسهم أميرا يتبعونه) وأدب السالك عند دخول بلد من البلاد (كاستحباب الغسل كما كان يفعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وما إلى غير ذلك من أصناف الأدب، إلا أنها كلها تندرج تحت الأقسام الثلاثة المذكورة.
حينما نتفكر ونتعمق في مقامات أدب السالكين نرى أنه لا يمكن للعارف والسالك إلى الله عز وجل الوصول إلى أي مقام من المقامات الربانية والإلهية إلا ببركة هذا المقام وهذا لا يتحقق إلا بالتعلم، ولكن أين نتعلم ؟ وعند من نتعلم ؟
علينا أن نتعلم عند أساتذة ومعلمي الأخلاق والعرفان الذين تعلموا بدورهم من أساتذتهم وعاشوا في هذا الطريق والسبيل ووصلوا إلى ما وصلوا إليه من المقامات الرفيعة.
فحينما بارز الإمام علي (عليه السلام) عمرو بن عبد ود وأوقعه على الأرض ثم جلس على صدره كان هو الفاتح في سبيل الله والغالب على عدو الله وهم أن يقتله ولكنه قام عن صدره وما قتله في الحال، فسئل الإمام علي (عليه السلام) عن وقفته قبل ضرب بن عبد ود فقال (عليه السلام): «قد كان شتم أمي وتفل في وجهي فخشيت أن أضربه لحظ نفسي فتركته حتى سكن ما بي ثم قتلته في الله».
أيها السالك إلى الله، إذا كنت في أي محضر من المحاضر فعليك أن تتحلى بالآداب اللائقة لذلك المحضر، فللمسجد آداب وللمنزل آداب وللمدرسة آداب وللصحبة آداب، وكيف إذا كان المحضر محضر المولى عز وجل، وعادة حينما يدخل إنسان في مكتب وزير أو مدير يراعي أن يكون في غاية الأدب والاحترام في محضر الوزير أو المدير، فهل حينما يبدأ صلاته بتكبيرة الإحرام التي هي بمثابة إذن دخول في حرم الله سبحانه وتعالى يراعي الأدب والإجلال في محضر رب العالمين كما يراعيه في محضر خلقه وهو أحق بذلك ؟
أيها السالك إلى الله انصراف القلب إلى غير الله تعالى من أسوأ الآداب معه، فعليك بمعرفة مقامات الأدب وآفات الآداب فتتجنبها وتتبع حسن الأدب الجميل في عبادتك له ودعائك ظاهرياً وباطنياً وحضور القلب حال العبادة والدعاء إجلالاً لمحضره وتعظيماً لشأنه حتى تشملك فيوضات وأنوار رب العالمين وهو الغني عن العالمين.