استمر الحديث بيننا، وبيننا طبق البيتزا، سألني عن الدنيا واحوالها وقال لي: قل لي يا ولد هل عندك هموم؟
- عندي هدوم، مادمت «مومفصخ» فما عندي هم!
• يعني لا تملك هموماً!
- انا لا املك شيئا، «لست املك الا القميص الذي فوق جلدي، وقلبي وراء القميص يلوح»*!
• ولماذا كل هذا الهم في صوتك!
- والله يا نوخذانا، وربان سفينتنا، يبدو ان الليالي تسعى في احزاننا، ولاتترك بابا لاتطرقه، ولاشباكا لا تفتحه... افراحنا نشعلها نارا، وسعادتنا نبني فوقها سرادق للعزاء، والغربان تحلق فوقنا رؤوسنا كل مساء...! يبدو ان الحزن قدر ابدي لهذه الامة، اصبحنا امة مقابر، لا نلتقي أحبابنا الا عندما نودع احبابنا، اصبح اللطم والبكاء جزءا من حياتنا، فالضحك منقصة، وقلة ادب وحياء! ليس حزناً شخصياً فأنا مستمتع بأيامي، وانير ليالي عشقا... استمتع بابتسامة طفل، قراءة كتاب، وشرب ماء بارد في يوم صيفي، ودفيء تحت شمس شتائي، صحيح لا املك كل ما احب، لكن يؤنسني انه لا احد يملك كل ما يحب، في الدنيا التي قدمت منها!
رد عليّ وهو يأكل ما تبقى من البيتزا: الاهم ان تملك ذكريات جميلة، اللحظة التي تعيشها هي ماضٍ بعد لحظة، والسعيد من يمتلك ذكريات سعيدة! القادم مجهول، وقد لايأتي! والغريب ان الانسان في دنياكم يسعى ان يؤمن مستقبله، ولا يؤمن ماضيه، أتعلم ايها المتصعلك، الحب الذي يقال انه لا يباع ولايشترى، ايضا يشترى، لو كنت تملك المال، ستحبك نصف نساء الكون! الذكريات وحدها لا تشترى، ولا احد يستطيع بيعك ذكرياته، ان كنت تملك ذكريات جميلة ورائعة، فأنت تملك كل شيء!
ادرت كفة الحديث مرة اخرى، لانه صار «كلام فقارة» انا هنا في الجنة، واتحدث عن احزان الدنيا، وذكرياتها، لهذا سألته سؤالاً ضائعاً تائهاً: للتأكد فقط، اين انا الان!
• قلت لك الجنة!
- وما قوانينكم هنا، وهل هنا قوانين وتطبق؟ ام مثلنا نضع القوانين حتى لا نطبقها!
• هنا لا وجود للزمان، فلا وقت ولا مساء ولا صباح ولا نوم ولا تعب ولا جوع ولاخوف... هنا المسافات التي تقطعها في سنة مما تعدون، نقطعها برمشة عين لحسناء دون عمليات تجميل! هنا الازمان تتقدم وتتأخر، هنا ستشاهد الارض كما تريد، هنا الصحارى العربية وخيامها وابلها، هناك انهار افريقيا ووحوشها، وهناك جبال الالب بثلوجها... بقية الامور ستفهمها وتعرفها عندما نبدأ سفرنا!
- وهل سفر غير هذا السفر!
• نعم...
- عفواً أبي!
• نعم!
- ممكن تخفف عني من حكمك، لاني تعبت ممكن تكلمني «عادي»، مثل كلام الناس لا كلام المسلسلات العربية التاريخية البلهاء، الآن في بلادنا الكل «صاير» حكيم، افتح التلفزيون يوميا مئات القنوات، الكل يتكلم ويفتي وينصح في الصحة، والاكل، والشرب، والسياسة والاقتصاد، والامراض الوراثية، والصحة النفسية، وصناعة النحل... وفي رمضان يطلعون لنا شيوخ الدين من كل مكان، ينصحوننا، ويقولون لنا كلاماً جميلاً، متصورين ان الناس مجموعة من المرضى النفسيين والمنحرفين والاغبياء الذين يحتاجون الى نصائحهم، فينصحوننا بطريقة الاكل باليمين، وطرق مسك «الابريج»، وكيفية محاربة «خنزب»!
• خنزب منو؟
- جني اسمه خنزب يؤذي الناس، وهناك من ينصحنا ويقول لنا، حطوا بالكم بتموتون، الناس مو قادرة تعيش وهذا يعلمنا كيف نموت؟... وانا هارب منهم، وحضرت الى حضرتكم وانت الان «مستلمني» حكم ونصائح...
• اولا سأحاول إن استطعت، ثانيا ابعدني عن الشيوخ وموظفي الدين!
- طيب، ممكن سؤال آخر؟
• نعم تفضل، الظاهر ستتعبني كثيرا!
- اين الحور العين؟ يعني انا قاعد في المطعم لا حورية عين مرت، ولا حور رقصت، أين من يفجر الانتحاريون انفسهم ويقتلون العشرات فداء لهن؟! «لا يكون» الانتحاري يأخذ من الحور العين بقدر ما يقتل، لهذا السبب صاير نقص عندكم؟
• لا يوجد نقص عندنا لا في الحور، ولا في الميزانية، انت في مكان لا يوجد فيه عجز في المصروفات، تطمن، هنا لا يوجد لا نواب ولا وزراء كويتيون بيدهم المسؤولية، فلا نقص ولا عجز اكتواريا ولا اختلاسات!
- طيب أين الحور العين؟
• لا تستعجل انتظر!
من اول رحلتي وهو يقول انتظر، وهآنذا انتظر، وصلنا الحلقة الثالثة وهو يقول انتظر، انا سأنتظر فإنتظروا معي...!
القافلة شدت رحالها، التحقنا بها... سأمارس اخيرا صعلكتي في هذه الجنان، وسأكمل غدا!
* مقطع شعر لمظفر النواب
جعفر رجب
jjaaffar@hotmail.com