«الراي» تقصت حكاية مستشفى هملين المختص بالأمراض الصدرية منذ العام 1904 والذي تحول إلى دار للمسنين

ثلاثة أضرحة لكويتيين في الشبانية... أحدها للشيخ علي بن خليفة

تصغير
تكبير
|بيروت - من ريتا عقيقي|
لم يعد الوجود الكثيف للكويتيين في بعض بلدات جبل لبنان وقراه مشهداً مفاجئاً او غير عادي وخصوصاً في موسم الاصطياف. فهم باتوا بمثابة «اهل الدار» في بحمدون واخواتها كالشبانية وقبيع والقرية وحمانا وفالوغا وقرنايل وسواها، فالعلاقة التاريخية القائمة «أب عن جد» بين المصطافين الكويتيين واهلهم اللبنانيين في هذه المناطق تجاوزت علاقة «الضيف بالمضيف» وتطورت في مستوياتها الانسانية والاجتماعية على نحو يفاخر به كلاهما.
من يتجول في تلك المناطق في موسم الصيف، وحتى في أيام العطل والاعياد، يخال انه في «جمهورية» مختلطة من لبنانيين وكويتيين، فالمظاهر الكويتية، كما هو الحال في الشبانية على سبيل المثال، صارت جزءاً من البلدة وحياتها... بيوت وفيلات وديوانيات وسيارات ذات لوحات كويتية، وكتب وسلع وما شابه، فمن اصل 1010 بيوت في الشبانية، بحسب رئيس بلديتها غانم رعد، يملك الكويتيون 460 بيتاً.

غير ان المفاجئ وغير المتوقع في الشبانية ليس «المشهد الكويتي العامر» فوق الأرض بل هو وجود كويتيين في باطن الأرض هناك، والشاهد على ذلك «شاهد» في احدى المقابر، كأنه طرف الخيط في حكاية مثيرة تعود فصولها إلى عصور خلت، نائمة تحت التراب في ظلال الصنوبر وعلى تخوم أحد المستشفيات المطلة على وادي لامرتين الشهير.
ثلاثة أضرحة على الأقل لكويتيين في مقبرة «عتيقة» في الشبانية لجهة حمانا، واحد لـ علي بن خليفة الصباح وآخر لحصة الصباح وثالث «مجهول الهوية» إلى جانب المرحومة حصة، ربما يعود لسيدة اسمها بدرية... واللافت ان الثلاثة يجاورن اضرحة لموتى من جنسيات عربية عدة سعودية، قطرية بحرينية وسواها، اضافة إلى لبنانيين.
المقبرة المصابة بأضرار الحروب التي مرت على المنطقة خضعت اخيراً لـ «تحسينات»، والبارز بين نحو 60 قبراً تقريباً ضريح علي بن خليفة الصباح «المحروس» بسياج حديدي، وعلى مرمى العين منه سياج آخر يضم ضريح حصة وآخر كان من الصعب التأكد من هوية صاحبه.
على الشاهد العائد لضريح علي بن خليفة كتب «الفاتحة... هنا يرقد الفقير إلى الله المرحوم الامير الشيخ علي بن خليفة الصباح، المتوفي يوم الاثنين 27 ربيع الاول 1361، الموافق 13 نوفمبر سنة 1942». ولم ينجَ الشاهد من اضرار «مرور الزمن» والتخريب الذي تسببت به أعمال العنف في بعض المراحل.
حارس المقبرة نقل عن «زميله» السابق ان أحد الاضرحة الثلاثة يعود لكويتية تدعى حصة الصباح، من دون قدرته على تأكيد الامر او افادتنا بأي تفاصيل اخرى كتاريخ الوفاة وغيره.
مَنْ هو علي بن خليفة الصباح؟ ولماذا دفن في الشبانية؟ ما ظروف وفاته؟ ولماذا لم ينقل جثمانه إلى مسقطه في الكويت؟... اسئلة بديهية ساورتنا، ومعها بدأت رحلة البحث عن الاجابات.
قصدنا في بادئ الأمر رئيس البلدية غانم رعد الذي اخبرنا ان المقبرة تعود إلى مستشفى هملين، الذي كان قديماً يعنى بالامراض الصدرية قبل ان يتحول داراً للمسنين، مؤكداً وجود قبور لكويتيين، لافتاً إلى انه في امكان ادارة المستشفى تزويدنا بما نبحث عنه من معلومات.
في الطريق إلى المستشفى تستقبلك ثلة من الاشجار الوارفة على الجانبين قبل الوصول إلى المبنى المسترخي وسط غابة من الأخضر... في الباحة الخارجية منحوتة للدكتور نعمة نخو، اما لغز الكويتيين الثلاثة ففي «أدراج» الداخل وسجلاته.
فمستشفى هملين تعود قصته للعام 1904 حين تأثرت الطبيبة في الارسالية الانجيلية الاميركية ماري ادي بحال اللبنانيين المصابين بمرض السل، الذين عزلهم ذووهم من دون أن يأخذ احد على عاتقه الاهتمام بهم، فقررت انشاء مصح للعناية بهم في منطقة المعاملتين في جونية رغم انها طبيبة عيون.
لم يكن الجو في المعاملتين ملائماً لمرضى السل نظراً للرطوبة والحر في فصل الصيف، مما دفع ادي للبحث عن مقر صيفي فوقع اختيارها على مدرسة للارسالية في الشبانية التي ترتفع حوالي الف متر عن سطح البحر وتتميز بمناخ صحي.
وانضم الدكتور نعمة نخو إلى المصح عام 1906 كاختصاصي في الامراض الصدرية واستمر إلى حين اغتياله في العام 1955 على يد أحد المرضى بعدما اخبره نخو بانه مصاب بالسل فلم يكن من المريض الا ان اطلق النار على «الحكيم» فارداه واصاب الدكتور غريغور حداد بجروح، ثم انتحر، فتسلم من بعده ابنه الدكتور شارل «شعلة» مداواة المرضى بالسل الرئوي. وهي الحال عينها حين تسلمت السيدة هكنن ادارة المصح بعد رحيل شقيقتها ادي عام 1914.
في العام 1960 بدأ العمل في بناء جديد لاستعماله كمستشفى عام، لكن قلة المال والأحداث الامنية التي شهدها لبنان حالت دون اكماله، فاقتصر الامر على استحداث دار للمسنين.
دخلنا إلى المستشفى فاستقبلتنا مديرتها الحالية سناء القرح التي زودتنا بـ «نبذة» عن تاريخ المصح ورسائل من «أرشيفها التاريخي» لشخصيات مرموقة كانت ابدت اهتماماً بنشاط المصح والدور الذي لعبه في مكافحة الأمراض الصدرية ومعالجة السل.
اما زوجة الدكتور الراحل شارل نخو، السيدة ويني (83 عاماً) التي التقيناها في المستشفى فتحدثت عن علاقة الكويتيين بالمستشفى وروت لنا حكاية اول كويتي عولج في هملين، فقالت: «اول كويتي خضع للمعاينة هنا كان محمد سليمان العتيبي، مستشار الأمير حينها (عبدالله السالم الصباح)، وقد امضى عاماً كاملاً في الشبانية حيث شفي وعاد إلى وطنه سالماً».
اضافت السيدة ويني: «بعد عودة العتيبي إلى الكويت بدأ من هناك بارسال المرضى الكويتيين المصابين بالسل، ومن بينهم الشيخ علي بن خليفة الصباح والشيخة حصة الصباح، وذلك في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي».
ولفتت إلى «ان اعداد الكويتيين الذين ترددوا إلى المستشفى كانت كثيرة، الا ان السجلات فقدت حين اقفل المستشفى موقتاً في العام 1956 ونقل المرضى في حينه إلى طرابلس في شمال لبنان».
تعرف السيدة ويني ان علي بن خليفة الصباح توفي في المستشفى ودفن في المقبرة العائدة لها بعدما استقوى عليه السل ولم تنجح محاولات انقاذ حياته، لكن ما لا تعرفه هو متى توفي بالضبط، غير ان اللوحة الرخام على ضريحه تشير إلى انه توفي في العام 1942.
وأوضحت انه «كان يتم نقل المريض من الكويت إلى هملين على الجمال في رحلة شاقة تستغرق 18 يوماً مما كان يزيد حال المريض سوءاً، لكن لم يكن امام المرضى من خيار آخر كون هملين المستشفى الوحيد في الشرق الاوسط المتخصص بمعالجة امراض السل»، مشيرة إلى «ان الكويتيين كانوا حريصين على مرضاهم ويتابعون اوضاعهم الصحية والغذائية عن قرب رغم بعد المسافة»، ولافتة إلى ان «كبار اعيان الكويت زاروا المستشفى اكثر من مرة للاطمئنان على اوضاع مرضاهم وعناية المستشفى بهم».
وفي ما تبقى من سجلات المستشفى رسالة من الشيخ عبدالله المبارك، رئيس دوائر الامن العام انذاك يقول فيها: «لساني يعجز عن الشكر على ما لاقيته من سرور كافة المرضى لما يلقونه من حسن معاملة». كما ان محمد سليمان العتيبي كان ارسل كتاب شكر للمستشفى في اليوبيل الخمسين لانشائه في العام 1955، اضافة إلى رسالة دونها الحاج مهران البهبهاني (اسمه الاول غير واضح) في 10 اغسطس 1932 قال فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، زرت هذا المصح فرأيت فيه من النظافة والنزاهة وحسن مراقبة الاعضاء والممرضات للمرضى ما تقرب به البين ويجلب الفرح والسرور. ادام الله بقاء (...)».
ولم يُعرف ما اذا كان سبب دفن الكويتيين الذين توفوا في المستشفى بمرض السل نجم عن صعوبة نقل جثامينهم إلى الكويت او خشية انتقال العدوى إلى الأصحاء.
وقالت ويني نخو: «عندما اتيت إلى المستشفى في العام 1949 كان هناك ما يزيد على 230 مريضاً غالبيتهم من البلدان العربية وقلة منهم من اللبنانيين. وأذكر ان افراداً من عائلة الصباح في الكويت كانوا يأتون لزيارة عمي (نعمة نخو) فهم كانوا على علاقة وطيدة، وذهبت في العام 1955 إلى الكويت حيث عرفني محمد سليمان العتيبي، الذي ربطتني صداقة بوالدته، على رئيس الوزراء وشخصيات مهمة أخرى آنذاك».
هذه هي حكاية ثلاثة كويتيين على الأقل دفنوا في الشبانية وما زالت رفاتهم هناك...
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي