أحمد زكي ... «جاك نيكلسون» العرب
الشرقاوي... الهارب من اليتم والوحدة إلى التمثيل / 1
في دور «حليم»
سناء يونس
والدة الفنان أحمد زكي
أحمد زكي في أحد أدواره
| القاهرة - من أحمد نصير |
ساحر في أدائه لشخصياته... مرعب في تقمصه لأدواره... إطلالته على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة وحتى على خشبة المسرح مختلفة إلى حد التميز ومتميزة إلى حد التفرد، استحق عن جدارة أن يستحوذ على نصف دستة ألقاب - أو أكثر- لا ينازعه فيها أحد.
فهو «العبقري»... رئيس جمهورية التمثيل... الامبراطور، المريض بالفن... زعيم مدرسة فن التقمص... وجاك نيكلسون العرب.
هكذا قالوا عن النجم الأسمر الراحل أحمد زكي الذي رحل عن عالمنا قبل 4 سنوات وعدة أشهر لكنه بقي خالدا في ذاكرة «الفن السابع» بأفلامه المتفردة.
هذا «الفتى الأسمر»... الذي عانى اليتم والحرمان والانكسار منذ ولادته في مدينة الزقازيق «عاصمة محافظة الشرقية»ـ على بعد نحو 85 كيلو مترا شمال شرق العاصمة المصرية - جاء إلى القاهرة «هوليوود الشرق» ليقلب الموازين في عالم السينما، ويصبح بالرغم من سمرة وجهه التي تشبه طمي النيل فتى الشاشة الذي تفوق على نجومها السابقين والمعاصرين له حتى ان نجم هوليوود روبرت دي نيرو والفنان عمر الشريف... أكدا أنه لولا حاجز اللغة لأصبح «ابن الزقازيق» نجما عالميا لا نظير له.
عندما تشاهد أعمال «أحمد زكي» على الشاشة فأنت ترى نجما فوق العادة... ملامحه منحوتة من أرض مصر... يتكلم ويعبّر فتشعر أنك أمام بطل شعبي وليس ممثلا يعشق الفن إلى حد الجنون، حتى انهم قالوا عنه «صاحب مدرسة الفن المنحوت»، وقالوا: إنها مدرسة من إبداعه... وربما لهذا أحبه الجمهور واعتبره بطله الأول الذي يحرص على مشاهدة أفلامه.
أسرار ومواقف وحكايات مثيرة كثيرة في حياة أحمد زكي... سنتعرف عليها في 30 حلقة، عبر «الراي»... نقترب من شهادات عدد من الذين اقتربوا منه وآراء النقاد وزملاء المشوار لنعرف النجم الأسمر عن قرب، ونعرف ما كان بداخله وكيف استطاع الوصول إلى هذه المكانة، وكيف استحوذ على قلوب عشاق السينما والمسرح والتلفزيون، وكيف أحبه كل من عمل معه، وكل من تعامل معه... فابقوا معنا... حلقة بعد أخرى.
ولد أحمد زكي متولي عبدالرحمن بدوي في 18 نوفمبر العام 1949 بقرية الحسينية التابعة لمدينة الزقازيق في محافظة الشرقية «82 كيلو مترا شرق العاصمة المصرية» مات والده وهو في عامه الأول، وتزوجت والدته بعد رحيله مباشرة فربته جدته حتى توفيت.
عاش الطفل الصغير حياة اليتم وكان لديه شعور دائم بالوحدة حتى وهو وسط أهله وأصدقائه وقد كانت المعاملة الحيادية معه تصيبه بالجنون إذا نجح كانوا يقولون له «مبروك»، وإذا رسب «معلهش تتعوض» لا يوجد فرح حقيقي أو حزن حقيقي، ولم يشعر بمعنى الأمومة فعلا. سوى مع بنت عمته الحاجة «وطنية» المشهورة بالحاجة «فلّة» والتي تعتبر أمه الروحية.
كل هذا جعله منطويا... يتفرج على ما يدور حوله من دون أن يشارك فيه. ولهذا أصبح التأمل مغروسا في وجدانه بعمق، حتى أصبح خاصية تلازمه في كل مراحل حياته.
الهروب إلى الشارع
وعندما أراد أحمد زكي أن يهرب من وحدته وحزنه، كان يهرب إلى بيوت أصدقائه يبحث عن ضحكة. أو كلمة حلوة أو أي شيء يؤنس وحشته وكانت قدماه تتآكلان من المشي في الشوارع، حتى كبر قبل الأوان خصوصا أنه كان بينه والعالم الخارجي صدام متواصل، فلم يضحك ولم يبك بما فيه الكفاية. ولكنه صمت بما فيه الكفاية.
تعلم الطفل الأسمر الصغير الصمت من وحدته، ودفعه التأمل إلى البحث عن هوية يواجه بها العالم، وحمل تناقضاته معه منذ ميلاده، فعاش يبحث في الوجوه عن مرآة... رفض سيناريو حياته، وقاوم سيناريو البداية التي جاءت قاسية أكثر من أن يحتمل فقد الصدر الحنون مبكرا.
لم يستطع الحياة بين بيوت الأقارب، ولم يستطع حتى عندما كبر وتقدم به العمر أن ينطق بكلمات الأطفال «بابا... ماما» فقد حرم منها.
كان أكثر ما يؤلمه أن كبار العائلة ينسون اسمه، ويلقبوه باليتيم، فامتد اللقب إلى أعماق نفسه، وظهر في عينيه فكان عنوانه الدائم.
ولأنه لم يكن ينتظر والده في نهاية اليوم، ولم يجد أمه ليسألها عن نوع الطعام لأنه جائع ويحتج عليه ويطلب آخر فيجاب طلبه، فقد ماتت بذور الفرحة التي يمكن أن تنبت في نفس الطفل، لم يجد من يشاركه همه، فاستقل بركن مظلم في ساحة بيت جده يتأمل من خلاله تفاصيل الحياة المحيطة به، مجرد مشاهد لايشارك ولايفرح ولايحزن، فصار التأمل جزءا من شخصيته وأصبح أهم صفاته حتى لحظاته الأخيرة، لكنها الوحدة - ذلك الغول الذي لايحتمله إنسان - حاول أن يهرب منها ومن حزنه، ومن يتمه فخرج إلى الشوارع وإلى بيوت الأصدقاء، كانت قدماه تتآكلان وتأكلان من أرصفة الشوارع، حتى ظن الطفل أنه كبر قبل أوانه، خاصة بعد ما اكتشف مساحات الاختلاف الكبيرة بينه وبين العالم من حوله.
الناظر... والحلم
كان الوقت الذي يقضيه أحمد زكي مع نفسه كافيا لأن يتعرف عليها جيدا في الصبا، واكتشف الفن، فأراد أن يتكلم، فصعد إلى خشبة المسرح الذي منحه فرصة البكاء والصراخ... والجنون من دون أن يردعه أحد.
وفي مدرسة الزقازيق الثانوية الصناعية تحول الناظر إلى أب، فقد كان يهوى التمثيل، وتلميذه أحمد يعشقه، والتقيا... وخلال فترة زمنية بسيطة أصبح أحمد أشهر هواة التمثيل والإخراج المسرحي على مستوى طلاب المدارس.
نجح في العامين الأول والثاني بالمدرسة، لكنه قرر أن ينجح في المسرح ويؤجل النجاح الدراسي، فأصبح مخرجا مسرحيا لمدارس المحافظة، وبقي أكثر من عامين حتى حصل على دبلوم المدارس الصناعية بعد ما سمع أحدهم يقول «الولد ده لو سافر مصر وراح معهد الفنون المسرحية ح يبقى له مستقبل كبير».
ما لا يعرفه الكثيرون... أن حلم أحمد زكي، كان أن يلتحق بكلية الشرطة، ولكن مجموعه لم يؤهله للالتحاق بالثانوية العامة... فالتحق بمدرسة الزقازيق الثانوية الصناعية بقسم البرادة والخراطة.
وقد بدأ التمثيل يستهويه والذي لاحظ ذلك أستاذ الكهرباء يوسف الحسيني فقدمه لناظر المدرسة كامل إسماعيل نجم الذي كان بالمصادفة يهوى المسرح وتصميمات ديكوراته فرشح أحمد للعمل معه بالمسرحية التي حصل من خلالها على جائزة أحسن ممثل والتي تعد الجائزة الأولى التي يحصل عليها ثم بعد ذلك بدأ بالتمثيل في قصر ثقافة الزقازيق.
وقد زاد نشاطه بشكل ملحوظ حتى التقى بالفنانة سناء يونس. التي كانت تعتبر فنانة مشهورة في ذلك الوقت فقد كانت تعمل وقتها مع فنان الكوميديا الكبير فؤاد المهندس. والتي تروي أن أحمد زكي انتظرها على محطة القطار ساعتين كاملتين ليعملا معا بمسرحية «الوطن».
كلمة... مؤلمة
أحمد زكي قال عن هذه المرحلة من حياته في أحد حواراته الصحافية: لم أشاهد أبي فقد رحل وهو في سن الشباب قبل أن أولد، وكانت أمي صغيرة جدا، ومن هنا لم يسمح لها أخوالي الفلاحين بالشرقية أن تظل بلا رجل فزوجوها من أحد الأقارب، ولم تستطع أن تبقيني معها لأن زوجها لا يريد هذا، ولم يكن عمري قد تجاوز العام حينما حرمت من حنان الأم إلى جانب عطف الأب المتوفى فنشأت يتيما، وراحت الحياة تلقي بي كيفما تشاء. فعشت في بيت جدتي لأمي. وحينما ماتت تنقلت في بيوت كثيرة. عند خالي هذا تارة. وعند خالتي هذه تارة أخرى.
وعند عمتي تلك فترة أخرى فكنت حريصا على ألا أقيم في أي بيت لفترة طويلة حتى لا يمل مني أحد وكان أكثر ما يؤلمني هو كلمة «يتيم» التي كنت مشهورا بها في القرية، بل إن علاقتي بأقاربي لم تكن علاقة سوية. كنت من داخلي أتمزق. ولهذا كنت أشعر بغربة شديدة بينهم فكل واحد كان مشغولا بأولاده، نعم أمي كانت تزورني وتربت عليّ. ولكنها كانت زيارات عابرة وخاطفة لم أكن أستطيع أن أملأ عيني منها أو أضع رأسي على صدرها وأبكي مثل كل الأطفال فكانت دائما مشغولة ببيتها وزوجها وأنا بلا بيت... حتى الآن.
حياة ميلودرامية
وعن هذه الفترة يقول في حوار آخر: في العشرين شعرت بأنني في الأربعين... عشت دائما أكبر من سني... وفجأة، يوم عيد ميلادي الثلاثين. أدركت أن طفولتي وشبابي نُشلا... حياتي ميلودراما. كأنها من أفلام حسن الإمام. والدي توفي وأنا في السنة الأولى. أتى بي ولم يكن في الدنيا سوى هو وأنا، وها هو يتركني ويموت.
أمي كانت فلاحة صبية، لا يجوز أن تظل عزباء، فزوجوها وعاشت مع زوجها، وكبرت أنا في بيوت العائلة، بلا إخوة. ورأيت أمي للمرة الأولى وأنا في السابعة... ذات يوم جاءت إلى البيت امرأة حزينة جدا، ورأيتها تنظر إليّ بعينين حزينتين، ثم قبلتني من دون أن تتكلم ورحلت.
شعرت باحتواء غريب... هذه النظرة إلى الآن تصحبني، حتى اليوم عندما كانت تنظر إليّ أمي فالنظرة الحزينة ذاتها تنظر إليّ وفي السابعة من عمري أدركت أنني لا أعرف كلمة أب وأم، وإلى اليوم عندما تمر. في حوار مسلسل أو فيلم كلمة بابا أو ماما أشعر بحرج ويستعصي عليّ نطق الكلمة.
عندما كنت طالبا في مدرسة الزقازيق الثانوية الصناعية... كنت منطويا جدا لكن الأشياء تنطبع في ذهني بطريقة عجيبة: تصرفات الناس، ابتساماتهم، سكوتهم.
من ركني المنزوي، كنت أراقب العالم وتراكمت في داخلي الأحاسيس وشعرت بحاجة لكي أصرخ، لكي أخرج ما في داخلي وكان التمثيل هو المنفذ، ففي داخلي دوامات من القلق لاتزال تلاحقني، فأصبح المسرح بيتي، رأيت الناس تهتم بي وتحيطني بالحب فقررت أن هذا هو مجالي الطبيعي.
بعد ذلك بفترة اشتركت في مهرجان المدارس الثانوية ونلت جائزة أفضل ممثل على مستوى مدارس الجمهورية.
أنا... وعبدالناصر
ويحكي أحمد زكي في أحد حواراته. عن واقعة يراها مهمة في حياته وهي مرور الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر مستقلا قطارا إلى الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية وعندما عرف أحمد بمجيئه وقف على أحد الأعمدة كي يرى الزعيم وعندما اقترب القطار. قفز على العمود... ولم يهتم بالسقوط من مسافة ستة أمتار وظل يجري وراء الزعيم حتى لمس يديه بالفعل.
ساحر في أدائه لشخصياته... مرعب في تقمصه لأدواره... إطلالته على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة وحتى على خشبة المسرح مختلفة إلى حد التميز ومتميزة إلى حد التفرد، استحق عن جدارة أن يستحوذ على نصف دستة ألقاب - أو أكثر- لا ينازعه فيها أحد.
فهو «العبقري»... رئيس جمهورية التمثيل... الامبراطور، المريض بالفن... زعيم مدرسة فن التقمص... وجاك نيكلسون العرب.
هكذا قالوا عن النجم الأسمر الراحل أحمد زكي الذي رحل عن عالمنا قبل 4 سنوات وعدة أشهر لكنه بقي خالدا في ذاكرة «الفن السابع» بأفلامه المتفردة.
هذا «الفتى الأسمر»... الذي عانى اليتم والحرمان والانكسار منذ ولادته في مدينة الزقازيق «عاصمة محافظة الشرقية»ـ على بعد نحو 85 كيلو مترا شمال شرق العاصمة المصرية - جاء إلى القاهرة «هوليوود الشرق» ليقلب الموازين في عالم السينما، ويصبح بالرغم من سمرة وجهه التي تشبه طمي النيل فتى الشاشة الذي تفوق على نجومها السابقين والمعاصرين له حتى ان نجم هوليوود روبرت دي نيرو والفنان عمر الشريف... أكدا أنه لولا حاجز اللغة لأصبح «ابن الزقازيق» نجما عالميا لا نظير له.
عندما تشاهد أعمال «أحمد زكي» على الشاشة فأنت ترى نجما فوق العادة... ملامحه منحوتة من أرض مصر... يتكلم ويعبّر فتشعر أنك أمام بطل شعبي وليس ممثلا يعشق الفن إلى حد الجنون، حتى انهم قالوا عنه «صاحب مدرسة الفن المنحوت»، وقالوا: إنها مدرسة من إبداعه... وربما لهذا أحبه الجمهور واعتبره بطله الأول الذي يحرص على مشاهدة أفلامه.
أسرار ومواقف وحكايات مثيرة كثيرة في حياة أحمد زكي... سنتعرف عليها في 30 حلقة، عبر «الراي»... نقترب من شهادات عدد من الذين اقتربوا منه وآراء النقاد وزملاء المشوار لنعرف النجم الأسمر عن قرب، ونعرف ما كان بداخله وكيف استطاع الوصول إلى هذه المكانة، وكيف استحوذ على قلوب عشاق السينما والمسرح والتلفزيون، وكيف أحبه كل من عمل معه، وكل من تعامل معه... فابقوا معنا... حلقة بعد أخرى.
ولد أحمد زكي متولي عبدالرحمن بدوي في 18 نوفمبر العام 1949 بقرية الحسينية التابعة لمدينة الزقازيق في محافظة الشرقية «82 كيلو مترا شرق العاصمة المصرية» مات والده وهو في عامه الأول، وتزوجت والدته بعد رحيله مباشرة فربته جدته حتى توفيت.
عاش الطفل الصغير حياة اليتم وكان لديه شعور دائم بالوحدة حتى وهو وسط أهله وأصدقائه وقد كانت المعاملة الحيادية معه تصيبه بالجنون إذا نجح كانوا يقولون له «مبروك»، وإذا رسب «معلهش تتعوض» لا يوجد فرح حقيقي أو حزن حقيقي، ولم يشعر بمعنى الأمومة فعلا. سوى مع بنت عمته الحاجة «وطنية» المشهورة بالحاجة «فلّة» والتي تعتبر أمه الروحية.
كل هذا جعله منطويا... يتفرج على ما يدور حوله من دون أن يشارك فيه. ولهذا أصبح التأمل مغروسا في وجدانه بعمق، حتى أصبح خاصية تلازمه في كل مراحل حياته.
الهروب إلى الشارع
وعندما أراد أحمد زكي أن يهرب من وحدته وحزنه، كان يهرب إلى بيوت أصدقائه يبحث عن ضحكة. أو كلمة حلوة أو أي شيء يؤنس وحشته وكانت قدماه تتآكلان من المشي في الشوارع، حتى كبر قبل الأوان خصوصا أنه كان بينه والعالم الخارجي صدام متواصل، فلم يضحك ولم يبك بما فيه الكفاية. ولكنه صمت بما فيه الكفاية.
تعلم الطفل الأسمر الصغير الصمت من وحدته، ودفعه التأمل إلى البحث عن هوية يواجه بها العالم، وحمل تناقضاته معه منذ ميلاده، فعاش يبحث في الوجوه عن مرآة... رفض سيناريو حياته، وقاوم سيناريو البداية التي جاءت قاسية أكثر من أن يحتمل فقد الصدر الحنون مبكرا.
لم يستطع الحياة بين بيوت الأقارب، ولم يستطع حتى عندما كبر وتقدم به العمر أن ينطق بكلمات الأطفال «بابا... ماما» فقد حرم منها.
كان أكثر ما يؤلمه أن كبار العائلة ينسون اسمه، ويلقبوه باليتيم، فامتد اللقب إلى أعماق نفسه، وظهر في عينيه فكان عنوانه الدائم.
ولأنه لم يكن ينتظر والده في نهاية اليوم، ولم يجد أمه ليسألها عن نوع الطعام لأنه جائع ويحتج عليه ويطلب آخر فيجاب طلبه، فقد ماتت بذور الفرحة التي يمكن أن تنبت في نفس الطفل، لم يجد من يشاركه همه، فاستقل بركن مظلم في ساحة بيت جده يتأمل من خلاله تفاصيل الحياة المحيطة به، مجرد مشاهد لايشارك ولايفرح ولايحزن، فصار التأمل جزءا من شخصيته وأصبح أهم صفاته حتى لحظاته الأخيرة، لكنها الوحدة - ذلك الغول الذي لايحتمله إنسان - حاول أن يهرب منها ومن حزنه، ومن يتمه فخرج إلى الشوارع وإلى بيوت الأصدقاء، كانت قدماه تتآكلان وتأكلان من أرصفة الشوارع، حتى ظن الطفل أنه كبر قبل أوانه، خاصة بعد ما اكتشف مساحات الاختلاف الكبيرة بينه وبين العالم من حوله.
الناظر... والحلم
كان الوقت الذي يقضيه أحمد زكي مع نفسه كافيا لأن يتعرف عليها جيدا في الصبا، واكتشف الفن، فأراد أن يتكلم، فصعد إلى خشبة المسرح الذي منحه فرصة البكاء والصراخ... والجنون من دون أن يردعه أحد.
وفي مدرسة الزقازيق الثانوية الصناعية تحول الناظر إلى أب، فقد كان يهوى التمثيل، وتلميذه أحمد يعشقه، والتقيا... وخلال فترة زمنية بسيطة أصبح أحمد أشهر هواة التمثيل والإخراج المسرحي على مستوى طلاب المدارس.
نجح في العامين الأول والثاني بالمدرسة، لكنه قرر أن ينجح في المسرح ويؤجل النجاح الدراسي، فأصبح مخرجا مسرحيا لمدارس المحافظة، وبقي أكثر من عامين حتى حصل على دبلوم المدارس الصناعية بعد ما سمع أحدهم يقول «الولد ده لو سافر مصر وراح معهد الفنون المسرحية ح يبقى له مستقبل كبير».
ما لا يعرفه الكثيرون... أن حلم أحمد زكي، كان أن يلتحق بكلية الشرطة، ولكن مجموعه لم يؤهله للالتحاق بالثانوية العامة... فالتحق بمدرسة الزقازيق الثانوية الصناعية بقسم البرادة والخراطة.
وقد بدأ التمثيل يستهويه والذي لاحظ ذلك أستاذ الكهرباء يوسف الحسيني فقدمه لناظر المدرسة كامل إسماعيل نجم الذي كان بالمصادفة يهوى المسرح وتصميمات ديكوراته فرشح أحمد للعمل معه بالمسرحية التي حصل من خلالها على جائزة أحسن ممثل والتي تعد الجائزة الأولى التي يحصل عليها ثم بعد ذلك بدأ بالتمثيل في قصر ثقافة الزقازيق.
وقد زاد نشاطه بشكل ملحوظ حتى التقى بالفنانة سناء يونس. التي كانت تعتبر فنانة مشهورة في ذلك الوقت فقد كانت تعمل وقتها مع فنان الكوميديا الكبير فؤاد المهندس. والتي تروي أن أحمد زكي انتظرها على محطة القطار ساعتين كاملتين ليعملا معا بمسرحية «الوطن».
كلمة... مؤلمة
أحمد زكي قال عن هذه المرحلة من حياته في أحد حواراته الصحافية: لم أشاهد أبي فقد رحل وهو في سن الشباب قبل أن أولد، وكانت أمي صغيرة جدا، ومن هنا لم يسمح لها أخوالي الفلاحين بالشرقية أن تظل بلا رجل فزوجوها من أحد الأقارب، ولم تستطع أن تبقيني معها لأن زوجها لا يريد هذا، ولم يكن عمري قد تجاوز العام حينما حرمت من حنان الأم إلى جانب عطف الأب المتوفى فنشأت يتيما، وراحت الحياة تلقي بي كيفما تشاء. فعشت في بيت جدتي لأمي. وحينما ماتت تنقلت في بيوت كثيرة. عند خالي هذا تارة. وعند خالتي هذه تارة أخرى.
وعند عمتي تلك فترة أخرى فكنت حريصا على ألا أقيم في أي بيت لفترة طويلة حتى لا يمل مني أحد وكان أكثر ما يؤلمني هو كلمة «يتيم» التي كنت مشهورا بها في القرية، بل إن علاقتي بأقاربي لم تكن علاقة سوية. كنت من داخلي أتمزق. ولهذا كنت أشعر بغربة شديدة بينهم فكل واحد كان مشغولا بأولاده، نعم أمي كانت تزورني وتربت عليّ. ولكنها كانت زيارات عابرة وخاطفة لم أكن أستطيع أن أملأ عيني منها أو أضع رأسي على صدرها وأبكي مثل كل الأطفال فكانت دائما مشغولة ببيتها وزوجها وأنا بلا بيت... حتى الآن.
حياة ميلودرامية
وعن هذه الفترة يقول في حوار آخر: في العشرين شعرت بأنني في الأربعين... عشت دائما أكبر من سني... وفجأة، يوم عيد ميلادي الثلاثين. أدركت أن طفولتي وشبابي نُشلا... حياتي ميلودراما. كأنها من أفلام حسن الإمام. والدي توفي وأنا في السنة الأولى. أتى بي ولم يكن في الدنيا سوى هو وأنا، وها هو يتركني ويموت.
أمي كانت فلاحة صبية، لا يجوز أن تظل عزباء، فزوجوها وعاشت مع زوجها، وكبرت أنا في بيوت العائلة، بلا إخوة. ورأيت أمي للمرة الأولى وأنا في السابعة... ذات يوم جاءت إلى البيت امرأة حزينة جدا، ورأيتها تنظر إليّ بعينين حزينتين، ثم قبلتني من دون أن تتكلم ورحلت.
شعرت باحتواء غريب... هذه النظرة إلى الآن تصحبني، حتى اليوم عندما كانت تنظر إليّ أمي فالنظرة الحزينة ذاتها تنظر إليّ وفي السابعة من عمري أدركت أنني لا أعرف كلمة أب وأم، وإلى اليوم عندما تمر. في حوار مسلسل أو فيلم كلمة بابا أو ماما أشعر بحرج ويستعصي عليّ نطق الكلمة.
عندما كنت طالبا في مدرسة الزقازيق الثانوية الصناعية... كنت منطويا جدا لكن الأشياء تنطبع في ذهني بطريقة عجيبة: تصرفات الناس، ابتساماتهم، سكوتهم.
من ركني المنزوي، كنت أراقب العالم وتراكمت في داخلي الأحاسيس وشعرت بحاجة لكي أصرخ، لكي أخرج ما في داخلي وكان التمثيل هو المنفذ، ففي داخلي دوامات من القلق لاتزال تلاحقني، فأصبح المسرح بيتي، رأيت الناس تهتم بي وتحيطني بالحب فقررت أن هذا هو مجالي الطبيعي.
بعد ذلك بفترة اشتركت في مهرجان المدارس الثانوية ونلت جائزة أفضل ممثل على مستوى مدارس الجمهورية.
أنا... وعبدالناصر
ويحكي أحمد زكي في أحد حواراته. عن واقعة يراها مهمة في حياته وهي مرور الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر مستقلا قطارا إلى الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية وعندما عرف أحمد بمجيئه وقف على أحد الأعمدة كي يرى الزعيم وعندما اقترب القطار. قفز على العمود... ولم يهتم بالسقوط من مسافة ستة أمتار وظل يجري وراء الزعيم حتى لمس يديه بالفعل.