علي سويدان / التوت الشامي!

تصغير
تكبير
لستُ بصدد التوغل في أمور أقرب للسياسة ولكني بالطبع أتنفس مثل كل المخلوقات؛ ولأن السياسة امتزجت بكل شيء! فلم أعد أجد هواء نقياً بعيداً عن السياسة سوى في أماكن قليلة مثل بيتي لأنني أتحكم في متابعة الفضائيات، أو في مشية هادئة فيما تبقى من البساتين في (غوطة) دمشق، أو في جلسة أستنشق فيها الهواء النقي على جبل (قاسيون) وأمامي بعد الإفطار طبق من التوت الشامي، لقد دخلت السياسةُ عندنا نحن العرب في أدق تفاصيل حياتنا اليومية فكل صغيرة وكبيرة في شؤون السياسة أُقْحِمَ فيها المواطن العربي لتختلط بحياته اليومية! بينما المواطن في أوروبا مثلاً ربما لا يعرف شيئاً عما يدور في الحياة السياسية إلا بما يشارك فيه بمحض إرادته، ومن باب الترف الفكري من دون تسلُّط إعلامي كما تقوم به عندنا الفضائيات العربية بشكل أو بآخر، أنا لا أدعو إلى الفصل بين المواطن العربي والهم الوطني، ولستُ من الداعين لابتعاد المواطن عن الاهتمام أو متابعة دوره في حماية الوطن ووحدته الوطنية، ولكني أدعو إلى حالة من الارتقاء بالوعي الإعلامي عندنا في الشرق مع ضمان الحق الشخصي في التعبير عن الرأي، هناك في أوروبا وفي أميركا لا يشعر المواطن بأي خوف على نفسه من المساءلة حين يعبِّر عن رأي يخالف رأي من هو أقوى منه. نحن العرب لا نجيد العوم في الماء، فإما نفضِّلُ البقاء على الشاطئ حتى تضربنا الشمس أو ندخل البحر من دون تعلم السباحة! لماذا لا نفكر بشكل متوازن ودون مكابرة حتى نضمن لأنفسنا ولغيرنا مساحة مريحة من الحركة والتعبير، وفي الوقت نفسه إيجاد خطوط حمراء يُحظَرُ الاقتراب منها مثل الوطن والوحدة الوطنية، أعني إفساح المجال لحرية التعبير تمنح الوطن قوة ومناعة تصبح فيما بعد أشبه بالمتلازمة السلوكية والثقافية والسياسية، فلْيقل كل إنسان ما يشاء ولكن هذا لا يعني أن تُجيَّرَ حرية التعبير لتصبَّ تبعاتها في دوّامة أشبه بالمهزلة في معمعة من التجاذب ليصبح الوطن أُلعوبة باسم الديموقراطية، الديموقراطيةُ هبة ونعمة يجدر بنا أن نحافظ عليها لا أن نُحوِّلَ ساحاتها إلى ميدان للتراشق، وكل ذلك على حساب الوطن وتقدُّم الوطن.
ماذا لو استضاف التلفزيون احدى الشخصيات العامة وأخفت هذه الشخصية هُويَّتها هل سنقبل من صاحب هذه الشخصية كلامه، أو خرج علينا شخص في أي وسيلة من وسائل الإعلام لِيُقنعنا بقضية ما وهو يلبس قناعاً أو يحمل اسماً مستعاراً فهل سيكون كلامه مقنعاً لنا؟ ربما يكون هذا المجهول كلامه مشوِّقاً جداً إذا عرفنا أنه سيكشف القناع عن شخصيته في آخر المطاف، والعكس صحيح، سيكون الكلام مجرد احتمالات ذهنية لا ترتبط بالواقع مادام صاحب الكلام مجهول الهوية، أعني أن كل صاحب رأي يريد إيصاله لابد أن يكشف عن هويته الإعلامية معلناً عن وسيلة ما للاتصال به بعيداً عن شبهة الأسماء المستعارة، وإلا سيكون السكوت من ذهب لأنه ينفخ في (قِرْبَةٍ) قَطَعَها بيديه! أنا لا أعارض مَنْ يقول (ان نسبةً من الكُتّاب الذين يكتبون بأسماء مستعارة هم يخافون من بطش المتسلطين) ولكني أقول لهؤلاء الكُتّاب المجهولين إن كنتم أصحاب حِسٍ وطني أو منتمين لحركات تقولون أنها تحرُّرية: تخيَّلوا معي على سبيل المثال أن شخصية قديمة مثل الظاهر بيبرس، أو شخصية حديثة مناضلة مثل عمر الختار، كانت شخصية وهمية أو مجهولة وتحمل اسماً مستعاراً فهل تتوقعون أن تستجيب شعوبها لدعواتها التحرُّرية؟
إن الوصول إلى الحرية لا يكون بالمساس بقدسية الوطن الذي لا قيمة للإنسان من دون الانتماء الصادق له والحفاظ على حريته وسيادته، وليس صحيحاً أن يخدع أحدٌ نفسه تحت أي ذرائع للمساس بأمنه أو ممتلكاته، وفي الوقت نفسه يلْزم التعامل مع مَنْ يمس أمن الوطن بحزم لا تردد فيه. لذلك وجب على كل مواطن عربي أن يضع وطنه نصب عينه فلا وجود للإنسان دون وطن يتمتع بالديموقراطية والأمن والاستقرار، والديموقراطية وممارساتها على الأرض لا تعني لجوء الإنسان لتصرفات تضر بالآخرين وتهدد مسيرة البناء والتقدم، إن عملية البناء والتخطيط لحياة متمدنة مستقرة تستوجب توافر جو هادئ ومنتج على فترات من الاستقرار دون إحداث قلاقل باسم الديموقراطية تارة، وباسم الرقابة تارة! ولذلك كان واجباً علينا نحن العرب أن نحافظ على مساحات الحرية التي بين أيدينا لنحصل على غيرها من غير تهور وتعنت في الحوار، ولْنذهبْ نحو إبداء الآراء لكسب أصحاب الرأي الآخر أفضل بكثير من كسب المعارك الكلامية بيننا وحين يهددنا العدو للأسف إما أن نتجاهله خوفاً منه وإما نرد عليه بتعنت ودون حكمة سياسية فنجر المصائبَ للوطن!

إن كل حركات التحرر الوطنية في العالم يجب أن يكون لها وجود سلمي صادق ووفيٌّ من داخل الوطن وليس من خارجه، والتجارب من حولنا كثيرة فكل الحركات المعارضة التي عاشت في الخارج ودخلت أوطانها فوق دبّابات الغُزاة لم تكن قادرة على التأقلم مع الوطن وتراب الوطن ولن يشعر الشعب بالولاء لهؤلاء القادمين باسم التحرير! إذا نحن في أمس الحاجة لطبقة من المثقفين والإعلاميين والمؤثرين في المجتمع بحكمة، والمحافظين على قدسية الوطن وتصحيح مساره، والوفاء له كوفاء الطفل لأمه من غير استخدام أساليب منحرفة، أو العمل من خلف الكواليس، أو اللجوء إلى أسماء مستعارة، فالوطن يحتاج لأبنائه الشجعان ليكونوا على أرضه؛ والشجاعة لا تكون من خلف الستار! رمضان كريم.
علي سويدان
كاتب وأكاديمي سوري
Swaidan8@hotmail.com
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي