إشراقات النقد / تداخل البداوة والحضارة «على السفح إياه» للشاعر حسن المطروشي (2 من 2)
| سعاد العنزي |
رفض الحداثة تبعة معرفية
الرؤى الشعرية التي ينطلق منها النص تشي بل تفصح عن بنية معرفية وفكرية عميقة ومتأصلة في ذهنية الشاعر، تتراوح بين الأدب العربي بقديمه وجديده، كما تطل على مفرزات الحداثة والحضارة الغربية، إضافة إلى أدب الصوفية، والثورات التحررية التي حدثت في بدايات القرن المنصرم وما قبله، حيث الإنسان أصبح آلة حداثية، ورفض وجود الإله والرب، مع فكرة ماركس التي تقول: «إن الدين أفيون الشعوب»، ليأتي الديوان هنا مستفيضا بالروحانيات والتصوف، وليرد على تلك الفكرة التي قتلت الإنسان وأعلنت موته، وموت كيانه وقتل الشعور في داخله، حيث النزوع إلى روح البداوة يكون في قصيدة «نزوع»:
(كدأب الطفل والصوفي والعصفور
ألوي هاربا من أرضكم
كالعيس أتلو رأسي المصدوع
من سم الفضائيات والحاسوب)، (الديوان، ص 61)
هذا الذي حول الإنسان إلى مسخ آلي، جعله يرفض كل شيء من معطيات الحداثة فيقول:
(دعوني.. لم أثق في ربكم
هذا الحديدي، الكحولي، المرابي،
مدمن الكولا، المدنس، تاجر الشهوات) (الديوان، ص 62)
لتبنى القصيدة على التضاد بين طرفين، ويتوتر فضاء النص بين نمطين، وتيارين، حداثي، وبدائي بدوي، بالمقابلة بين حالين:
سمات الحداثة ومعطياتها
(المدينة، تهوي، كفصل من أغاني الروك، استلقى الإله المعدني الهش، مخمورا على سجادة الأفيون، الذات المسحوق في فرن الحضارة).
النزوع نحو البداوة
في النص أيضا تحاول الذات الممسوخة في فرن الحضارة، أن تتجاوز الجرح وترمم ذاتها، بالعودة إلى الفتى المنسي في دواخل ذات الشاعر، ومن قبل أهل المكان الذي نسي البداوة، ليكون الفتى (يحكي في نواحي حيه، عن بطة الجيران، وعن سلمى) ليسير مثله مثل الأرواح اللائذة
يتضح من الصورة الماضية في القصيدة، توتر، ورفض لمعطيات عصر الآلة، ونزوع، بل هروب وفرار، لأكثر الأماكن بدائية، طلبا للراحة، ولكن الرؤية هنا مبتورة، فلم تتضح لنا كقراء جماليات الحياة البدائية، التي تجعلنا نقتنع مع الشاعر مثلا بالنزوع معه إلى هذه الحياة، من مثل ان تكون حياة البادية مدعاة لروح البساطة، والروحانيات الفائضة، والترابط والحميمية، فهل تترك الحداثة وتبعاتها الأكثر رفاهية، من أجل بلاقع ومهاوٍ قد تفتك بالإنسان.
الأندلس جرح العروبة
تنطلق قصيدتي: «أندلس تخبئ شالها العربي» وقصيدة: «خباء المغني»، من زمن عربي منصرم ماض شهد احتراقا تاريخيا، لونه لون الرماد لشدة حرائقه وسقطات أبنائه، فأندلس العرب، تخبئ شالها العربي، وليلتفت القارئ إلى صراحة الفعل المضارع ( تخبئ) الذي يبني آفاقا من الآنية والاستمرارية، المستمرة والمسيطرة على أفق النص، القصيدة / الحاضر، ولدلالته في التستر والإخفاء المقصود، ليشير إلى وجه أسود من أوجه التاريخ المظلمة، وهو الإلغاء والإخفاء وتغييب الحقائق، وماذا تخبئ الأندلس تخبئ شالها، أول ما يرى من زي الإنسان، وهو زي عربي صرف، فمادام الشال قد خبئ، فأين هي عزة العربي، ولنخوض في أفق آخر لقراءة عنوان القصيدة، وهو إن الشيء عندما يخفى، ويقصد ستره، فإنه لا بد من إنه موجود، مسكوت عنه ظاهريا، على الرغم من وجوده بالقوة، الذي يحاول من يحاول طمسه، فالروح والكيان العربي في الأندلس يطل بقوة، حتى وإن كانت النتيجة التي توصل لها الشاعر في نهاية القصيدة، هي إحراق التاريخ الذي تأثث في الأندلس في أوج الحضارة العربية وقتها، ليقول:
سأمكث... وارتقبت،
وكنت مرتجفا كسوسنة الغياب
وها هي الآن الخرافة أوقدت نيران هيكلها
وناقوس يسبح للفراغ
وللمساء مرافئ رحلت بواخرها
(الديوان، 53)
تأتي قصيدة «خباء المغني»، لتكمل ما بدأه الشاعر في النص السابق، لينفتح على جروح لم تندمل من التاريخ العربي القديم، الذي يركز عليه الشاعر كثيرا، مع تناسي تسليط الضوء على الحقبة التاريخية الحالية، هل هذا كان انطلاقا من مقولة « لا تطلب من اليوم إلا ما جاء به الأمس»، أو إنها فترة مترسبة في روح الشاعر، لذلك يكون المغني هنا يصدح بالغناء للتاريخ الماضي، مع التغني بهموم العشق المفقود في زمن الفقد والفجائعية، فهو يغني وفي ذهنية مخزون كبير من القهر والخيبات تملأ فضاء أوتاره الحزينة: ( مطايا الزير، أشعار الصعاليك، مدى الحجاج، أقداح امرئ القيس، أسلاب من الغارات والسطو البلاغي). (الديوان، ص56)
واللافت للنظر في النص، إنه نص يحمل عدة ظواهر صوتية وحركية، تتآزر وجو النص الذي يشتد حرارة كما هي الرمضاء، ليشكل فضاء نصيا، يرسم لوحة طبيعية، لابن البادية، ولقسوة الظروف التي يعيشها ابن البادية، فالنص الشعري/ القصصي، يتشكل من: (المغني، الرعيان، المرأة، النساك)، تتألف الصورة الحركية والصوتية في أكثر من موضع في النص مثل قوله:
(يأخذ الأهبة في قيلولة الرعيان
ينسل على أرجوحة الرمضاء
-هل هذا خبائي
تسرح الأشباح والأسلاف في أكنافه؟
هل سمعتم خلف أضلاعي دبيب الكائنات؟). (الديوان، ص55)
لتحدث الصدمة له فالبراري لا تلبي عاشقا، والسماوي الوديع فيه قد قتل.
كتاب الفراشة كون مؤثث لقصيدة الملاك
متصفح الديوان « على السفح إياه» يجد الشاعر قد قسم الديوان إلى دفترين، دفتر الملاك، دفتر الفراشة، ما يثير فضول القارئ للتساؤل، ما علاقة الملاك بالفراشة، وما هو الرابط بينهما، لتبتدر أو ملاحظة، إن الملاك والفراشة جميعا مخلوقات لها القدرة على الطيران، ما يعكس رغبة الشاعر الحقيقية في التحليق الروحي والسماوي في عوالم حرة لا تخضع إلى قيود زمانية، وبالولوج أكثر فإننا سنرى إن دفتر الملاك بناه الشاعر على أسس معرفية تاريخية شعورية، تطل على عدة من القضايا الفكرية والإنسانية، أما دفتر الفراشة، فإن الناقدة ترى فيه بعدا جماليا أسسه الشاعر، ليعكس تفكيره، وفلسفته الجمالية في الأشياء من حوله، في: (الصوت، النجمة، فراشة، باب، القافلة، الغدير...).
كما إنها تخلق فضاء النص الذي يتحرك فيه الشاعر في قصائده، فالملاك يحلق في فضاء طبيعي مؤثث جيدا في دفتر الفراشة، فكانت الفراشة عالما يتجول به الملاك...
وبقراءة أخرى لترتيب قصائد المجموعة، سيجد القارئ نفسه أمام بناء تركيبيا لنصوص الديوان، وتراتيبيا منطقيا، عنونة، ومضمونا، فنحن أمام رحلة بدأت سيرا بالأقدام وانتهت بالتحليق والطيران، فبدأت الإطلالة بـ « أطل عليكم من هذه الكوة»، والرحيل عن الديار بـ «الديار وراءك»، وتوقف في «على السفح إياه»، والمرور على تداعيات التاريخ في «أندلس تخبئ شالها العربي» و«خباء المغني» لتنتهي القافلة بالتوقف الجزئي عند الغدير، ليكون بعدها التحليق والطيران:
«يدنو هزار وحيد
فيلمح صورتك المطمئنة
في صفحة الماء
يحملها خلسة
ويطي....». (الديوان، ص 98).
* كاتبة وناقدة كويتية
* حسن المطروشي «على السفح إياه» دار الانتشار العربي الطبعة الأولى 2008
Mobdi3on@windowslive.com
رفض الحداثة تبعة معرفية
الرؤى الشعرية التي ينطلق منها النص تشي بل تفصح عن بنية معرفية وفكرية عميقة ومتأصلة في ذهنية الشاعر، تتراوح بين الأدب العربي بقديمه وجديده، كما تطل على مفرزات الحداثة والحضارة الغربية، إضافة إلى أدب الصوفية، والثورات التحررية التي حدثت في بدايات القرن المنصرم وما قبله، حيث الإنسان أصبح آلة حداثية، ورفض وجود الإله والرب، مع فكرة ماركس التي تقول: «إن الدين أفيون الشعوب»، ليأتي الديوان هنا مستفيضا بالروحانيات والتصوف، وليرد على تلك الفكرة التي قتلت الإنسان وأعلنت موته، وموت كيانه وقتل الشعور في داخله، حيث النزوع إلى روح البداوة يكون في قصيدة «نزوع»:
(كدأب الطفل والصوفي والعصفور
ألوي هاربا من أرضكم
كالعيس أتلو رأسي المصدوع
من سم الفضائيات والحاسوب)، (الديوان، ص 61)
هذا الذي حول الإنسان إلى مسخ آلي، جعله يرفض كل شيء من معطيات الحداثة فيقول:
(دعوني.. لم أثق في ربكم
هذا الحديدي، الكحولي، المرابي،
مدمن الكولا، المدنس، تاجر الشهوات) (الديوان، ص 62)
لتبنى القصيدة على التضاد بين طرفين، ويتوتر فضاء النص بين نمطين، وتيارين، حداثي، وبدائي بدوي، بالمقابلة بين حالين:
سمات الحداثة ومعطياتها
(المدينة، تهوي، كفصل من أغاني الروك، استلقى الإله المعدني الهش، مخمورا على سجادة الأفيون، الذات المسحوق في فرن الحضارة).
النزوع نحو البداوة
في النص أيضا تحاول الذات الممسوخة في فرن الحضارة، أن تتجاوز الجرح وترمم ذاتها، بالعودة إلى الفتى المنسي في دواخل ذات الشاعر، ومن قبل أهل المكان الذي نسي البداوة، ليكون الفتى (يحكي في نواحي حيه، عن بطة الجيران، وعن سلمى) ليسير مثله مثل الأرواح اللائذة
يتضح من الصورة الماضية في القصيدة، توتر، ورفض لمعطيات عصر الآلة، ونزوع، بل هروب وفرار، لأكثر الأماكن بدائية، طلبا للراحة، ولكن الرؤية هنا مبتورة، فلم تتضح لنا كقراء جماليات الحياة البدائية، التي تجعلنا نقتنع مع الشاعر مثلا بالنزوع معه إلى هذه الحياة، من مثل ان تكون حياة البادية مدعاة لروح البساطة، والروحانيات الفائضة، والترابط والحميمية، فهل تترك الحداثة وتبعاتها الأكثر رفاهية، من أجل بلاقع ومهاوٍ قد تفتك بالإنسان.
الأندلس جرح العروبة
تنطلق قصيدتي: «أندلس تخبئ شالها العربي» وقصيدة: «خباء المغني»، من زمن عربي منصرم ماض شهد احتراقا تاريخيا، لونه لون الرماد لشدة حرائقه وسقطات أبنائه، فأندلس العرب، تخبئ شالها العربي، وليلتفت القارئ إلى صراحة الفعل المضارع ( تخبئ) الذي يبني آفاقا من الآنية والاستمرارية، المستمرة والمسيطرة على أفق النص، القصيدة / الحاضر، ولدلالته في التستر والإخفاء المقصود، ليشير إلى وجه أسود من أوجه التاريخ المظلمة، وهو الإلغاء والإخفاء وتغييب الحقائق، وماذا تخبئ الأندلس تخبئ شالها، أول ما يرى من زي الإنسان، وهو زي عربي صرف، فمادام الشال قد خبئ، فأين هي عزة العربي، ولنخوض في أفق آخر لقراءة عنوان القصيدة، وهو إن الشيء عندما يخفى، ويقصد ستره، فإنه لا بد من إنه موجود، مسكوت عنه ظاهريا، على الرغم من وجوده بالقوة، الذي يحاول من يحاول طمسه، فالروح والكيان العربي في الأندلس يطل بقوة، حتى وإن كانت النتيجة التي توصل لها الشاعر في نهاية القصيدة، هي إحراق التاريخ الذي تأثث في الأندلس في أوج الحضارة العربية وقتها، ليقول:
سأمكث... وارتقبت،
وكنت مرتجفا كسوسنة الغياب
وها هي الآن الخرافة أوقدت نيران هيكلها
وناقوس يسبح للفراغ
وللمساء مرافئ رحلت بواخرها
(الديوان، 53)
تأتي قصيدة «خباء المغني»، لتكمل ما بدأه الشاعر في النص السابق، لينفتح على جروح لم تندمل من التاريخ العربي القديم، الذي يركز عليه الشاعر كثيرا، مع تناسي تسليط الضوء على الحقبة التاريخية الحالية، هل هذا كان انطلاقا من مقولة « لا تطلب من اليوم إلا ما جاء به الأمس»، أو إنها فترة مترسبة في روح الشاعر، لذلك يكون المغني هنا يصدح بالغناء للتاريخ الماضي، مع التغني بهموم العشق المفقود في زمن الفقد والفجائعية، فهو يغني وفي ذهنية مخزون كبير من القهر والخيبات تملأ فضاء أوتاره الحزينة: ( مطايا الزير، أشعار الصعاليك، مدى الحجاج، أقداح امرئ القيس، أسلاب من الغارات والسطو البلاغي). (الديوان، ص56)
واللافت للنظر في النص، إنه نص يحمل عدة ظواهر صوتية وحركية، تتآزر وجو النص الذي يشتد حرارة كما هي الرمضاء، ليشكل فضاء نصيا، يرسم لوحة طبيعية، لابن البادية، ولقسوة الظروف التي يعيشها ابن البادية، فالنص الشعري/ القصصي، يتشكل من: (المغني، الرعيان، المرأة، النساك)، تتألف الصورة الحركية والصوتية في أكثر من موضع في النص مثل قوله:
(يأخذ الأهبة في قيلولة الرعيان
ينسل على أرجوحة الرمضاء
-هل هذا خبائي
تسرح الأشباح والأسلاف في أكنافه؟
هل سمعتم خلف أضلاعي دبيب الكائنات؟). (الديوان، ص55)
لتحدث الصدمة له فالبراري لا تلبي عاشقا، والسماوي الوديع فيه قد قتل.
كتاب الفراشة كون مؤثث لقصيدة الملاك
متصفح الديوان « على السفح إياه» يجد الشاعر قد قسم الديوان إلى دفترين، دفتر الملاك، دفتر الفراشة، ما يثير فضول القارئ للتساؤل، ما علاقة الملاك بالفراشة، وما هو الرابط بينهما، لتبتدر أو ملاحظة، إن الملاك والفراشة جميعا مخلوقات لها القدرة على الطيران، ما يعكس رغبة الشاعر الحقيقية في التحليق الروحي والسماوي في عوالم حرة لا تخضع إلى قيود زمانية، وبالولوج أكثر فإننا سنرى إن دفتر الملاك بناه الشاعر على أسس معرفية تاريخية شعورية، تطل على عدة من القضايا الفكرية والإنسانية، أما دفتر الفراشة، فإن الناقدة ترى فيه بعدا جماليا أسسه الشاعر، ليعكس تفكيره، وفلسفته الجمالية في الأشياء من حوله، في: (الصوت، النجمة، فراشة، باب، القافلة، الغدير...).
كما إنها تخلق فضاء النص الذي يتحرك فيه الشاعر في قصائده، فالملاك يحلق في فضاء طبيعي مؤثث جيدا في دفتر الفراشة، فكانت الفراشة عالما يتجول به الملاك...
وبقراءة أخرى لترتيب قصائد المجموعة، سيجد القارئ نفسه أمام بناء تركيبيا لنصوص الديوان، وتراتيبيا منطقيا، عنونة، ومضمونا، فنحن أمام رحلة بدأت سيرا بالأقدام وانتهت بالتحليق والطيران، فبدأت الإطلالة بـ « أطل عليكم من هذه الكوة»، والرحيل عن الديار بـ «الديار وراءك»، وتوقف في «على السفح إياه»، والمرور على تداعيات التاريخ في «أندلس تخبئ شالها العربي» و«خباء المغني» لتنتهي القافلة بالتوقف الجزئي عند الغدير، ليكون بعدها التحليق والطيران:
«يدنو هزار وحيد
فيلمح صورتك المطمئنة
في صفحة الماء
يحملها خلسة
ويطي....». (الديوان، ص 98).
* كاتبة وناقدة كويتية
* حسن المطروشي «على السفح إياه» دار الانتشار العربي الطبعة الأولى 2008
Mobdi3on@windowslive.com