روايته «الإرسي» محاكاة جريئة من جوف إشكالية «الثابت والمتحول»
قراءة / سلام إبراهيم... بين وحشة العزلة وتخمة الذاكرة
غلاف رواية الإرسي
سلام إبراهيم
|كتب حسن الفرطوسي|
قبل أن تدخل عوالم رواية « الإرسي» للروائي العراقي سلام إبراهيم، الصادرة عن مؤسسة «الدار للنشر والتوزيع»، عليك أن تجلب أدواتك كمتلق، من أجل التمكن من فك الرموز والاشتراك مع الكاتب في سيل التساؤلات الوجدانية والوجودية التي جاءت على لسان الشخصية التي لم يذكر اسمها سوى مرّة واحدة فقط «سلام» وربما تقصّد الكاتب ذلك للإشارة إلى أن الرواية تقترب في الكثير من تفاصيلها إلى السيرة الذاتية للكاتب، لاسيما إذا ما علمنا ان الكاتب قد أمضى وطراً من حياته محارباً في صفوف «الأنصار»، الحركة المسلحة التابعة للحزب الشيوعي العراقي، على جبال شمال العراق والمناوئة لحكم نظام صدام حسين.
وعلى غير عادة من كتبوا حول تجاربهم في هذا الإطار، جاءت رواية «الإرسي» مشحونة باللوعة والمحاكاة الباطنية وصدق المشاعر البعيدة عن التعبوية النضالية المتغنية بتفاصيل الحكايات البطولية.. ولا ندري هل هذه المشاعر هي رؤيته الحاضرة للماضي، أم هي نقل لمشاعر الماضي في الوقت الحاضر؟ وهذا التساؤل بحد ذاته سيحيلنا إلى محور آخر، قد يحمل معه حزمة من التساؤلات الخطيرة التي لا تقود إلى أجوبة، بقدر ما تقود إلى تساؤلات أكثر تعقيداً تتعلق بتطورات العقل «المتحوّل» والمشاعر التي جمدها الإيمان المطلق بالايديولوجيا «الثابت». ولكن علينا أولاً أن نعرف تفاصيل الحكاية التي اعتمدت عليها الرواية.
رواية «الإرسي» تتحدث عن عذابات جندي هارب من حرب لم يكن مؤمنا بجدواها ودوافعها، تلك الحرب هي حرب السنوات الثمان، بين العراق وإيران، مما يضطرّه للاختباء في غرفة صغيرة، على سطح بيت عمّته الأرملة، معدّة لخزن الأشياء القديمة، وهي ما يطلق عليها في مناطق الفرات الأوسط بـ«الإرسي». ليعيش بذلك عزلة مطبقة، يفقد خلالها الإحساس بالزمان والمكان، ويدخل في متاهات وعوالم باطنية تقوده إليها مخيلته وإرهاصاته المشحونة بالشوق إلى زوجته التي يرتبط معها بقصة عشق دامت لسنوات، كذلك شوقه إلى شوارع مدينته «الديوانية» وأصدقائه - وقد ذكر الكاتب أسماء حقيقية لأصدقائه في المدينة وامتدت مرحلة العزلة وتداعياتها حتى يتنقل إلى عزلة أخرى وهو بين رفاقه «أنصار الحزب الشيوعي العراقي» بين جبال وكردستان العراق، لتبدأ مرحلة جديدة من المعاناة، تتمثل بسلوكيات زوجته المؤمنة بشكل مطلق بما قرأته من كتب وأنظمة داخلية للحركات الشيوعية وما قرأته حول النظرية الماركسية... كانت معاناة بطل الرواية «سلام» تتمثل بما يراه في عيون رفاقه في النضال والسلاح والحزب من شبق يلتهم جسد زوجته الجميلة، التي تتعامل بتلقائية وتحرر وتشاركهم المهام الحزبية في المساهمة في تطبيب الجرحى الذين تخلفهم المعارك التي يخوضونها ضد النظام الحاكم، كما هو حال نساء أخريات جئن مع أزواجهن من أجل الهدف ذاته، ليجدن أنفسهن يعشن معاً في قاعة، بمعزل عن أزواجهن.. كانت معاناة البطل لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداها إلى مديات أبعد بكثير، كانت عذابات جسدية وروحية وعقلية في آن واحد، فكان شوقه لمعانقة زوجته يحرق جسده، وعيون رفاقه التي تلتهم جسدها، يحرق وجدانه وكرامته، وتساؤلاته التي قادته إلى شكوك في إمكانية تطبيق النظرية الماركسية تحرق عقله، حتى أصبح كتلة من العذابات أمام زوجة يحبها، ما زالت مؤمنة بيقين
لا يتزعزع بانتمائها الحزبي.
الرواية تتناول أحداثا حقيقية حصلت في عقد الثمانينات من القرن الماضي، كاستخدام النظام للأسلحة الكيمياوية ضد معارضيه، وتداعيات الحرب مع إيران، وظفها الكاتب بأسلوب حاذق، كما أنها تحتوي على الكثير من العقد التي تعتمد عليها الرواية من حيث إشاراتها ومدلولاتها ومساحاتها التي تلعب فيها دورها في شمولية الهدف الروائي كفعل إبداعي، وقد تمكن الكاتب في بث تلك العقد على نحو عال من الحرفية في مفاصل الرواية، لتكون لكل عقدة كينونتها وأجواؤها وقدرتها على أن تقود المتلقي إلى تساؤلات منفصلة تماماً عما تؤديه العقد الأخرى.
من جملة ما أثارته الرواية، هو الصراع الإنساني بين ما هو ثابت «الإيمان» وما هو متحوّل «العقل» فقد كانت الشخصية في الكثير من تأملاتها تشكك في متبنياتها الفكرية، وفي الكثير من التساؤلات التي كانت تعتمل في نفس «سلام» تدور حول صواب قراراته وجدواها، فهو هارب من حرب إلى حرب أخرى تختلف في الشكل والمكان، لكنه بدأ يشكك في معانيها ومضامينها الحقيقية. وبذلك انتقلت كلتا الحربين إلى قيعان سحيقة في روحه وعقله، لتحيلهما إلى ساحة حرب، ربما هي ضراوة، بيد إنها في ذات الوقت الأكثر صدقاً والأكثر مشروعية!.
وفي واحدة من أكثر مناجاة بطل الرواية إيلاماً، تلك التي راودته وهو يقف على جثة رفيق له قتلته الغازات الكيمياوية، وكان بطل الرواية قد شعر بشيء من الغبطة لمقتله، لأن الرفيق المقتول كان يعشق زوجة البطل - عشق من طرف واحد- بيد أن شعوراً بالخزي من لحظة الغبطة والتشفي بموت رفيق درب وسلاح قد انتاب بطل الرواية، مما جعله يرثي نفسه: «وأنت يا نفسي.. أي درك سافل هبطتي!.. من يقف خلف كل هذه المأساة والتشوّه .. الدولة؟؟ الأحزاب.. هاجس الموت.. الحرمان والدسائس.. فقدان الدفء.. التولّه بمستحيل الأحلام وعواقب تهدمها في النفوس.. أم كلها مجتمعة يا ربّ القسوة؟.. لا أدري.. التبست عليّ نفسي وسط هذا الركام المخيف». (ص 148)
«الإرسي» عمل روائي يستحق القراءة، لما تثيره من تأملات وتصورات إنسانية بالغة الدقة لم تعتد عليها الرواية العراقية على نطاق واسع، رغم إفراط الكاتب في الإفاضة والاسترسالات غير المبررة في بعض فصولها.
قبل أن تدخل عوالم رواية « الإرسي» للروائي العراقي سلام إبراهيم، الصادرة عن مؤسسة «الدار للنشر والتوزيع»، عليك أن تجلب أدواتك كمتلق، من أجل التمكن من فك الرموز والاشتراك مع الكاتب في سيل التساؤلات الوجدانية والوجودية التي جاءت على لسان الشخصية التي لم يذكر اسمها سوى مرّة واحدة فقط «سلام» وربما تقصّد الكاتب ذلك للإشارة إلى أن الرواية تقترب في الكثير من تفاصيلها إلى السيرة الذاتية للكاتب، لاسيما إذا ما علمنا ان الكاتب قد أمضى وطراً من حياته محارباً في صفوف «الأنصار»، الحركة المسلحة التابعة للحزب الشيوعي العراقي، على جبال شمال العراق والمناوئة لحكم نظام صدام حسين.
وعلى غير عادة من كتبوا حول تجاربهم في هذا الإطار، جاءت رواية «الإرسي» مشحونة باللوعة والمحاكاة الباطنية وصدق المشاعر البعيدة عن التعبوية النضالية المتغنية بتفاصيل الحكايات البطولية.. ولا ندري هل هذه المشاعر هي رؤيته الحاضرة للماضي، أم هي نقل لمشاعر الماضي في الوقت الحاضر؟ وهذا التساؤل بحد ذاته سيحيلنا إلى محور آخر، قد يحمل معه حزمة من التساؤلات الخطيرة التي لا تقود إلى أجوبة، بقدر ما تقود إلى تساؤلات أكثر تعقيداً تتعلق بتطورات العقل «المتحوّل» والمشاعر التي جمدها الإيمان المطلق بالايديولوجيا «الثابت». ولكن علينا أولاً أن نعرف تفاصيل الحكاية التي اعتمدت عليها الرواية.
رواية «الإرسي» تتحدث عن عذابات جندي هارب من حرب لم يكن مؤمنا بجدواها ودوافعها، تلك الحرب هي حرب السنوات الثمان، بين العراق وإيران، مما يضطرّه للاختباء في غرفة صغيرة، على سطح بيت عمّته الأرملة، معدّة لخزن الأشياء القديمة، وهي ما يطلق عليها في مناطق الفرات الأوسط بـ«الإرسي». ليعيش بذلك عزلة مطبقة، يفقد خلالها الإحساس بالزمان والمكان، ويدخل في متاهات وعوالم باطنية تقوده إليها مخيلته وإرهاصاته المشحونة بالشوق إلى زوجته التي يرتبط معها بقصة عشق دامت لسنوات، كذلك شوقه إلى شوارع مدينته «الديوانية» وأصدقائه - وقد ذكر الكاتب أسماء حقيقية لأصدقائه في المدينة وامتدت مرحلة العزلة وتداعياتها حتى يتنقل إلى عزلة أخرى وهو بين رفاقه «أنصار الحزب الشيوعي العراقي» بين جبال وكردستان العراق، لتبدأ مرحلة جديدة من المعاناة، تتمثل بسلوكيات زوجته المؤمنة بشكل مطلق بما قرأته من كتب وأنظمة داخلية للحركات الشيوعية وما قرأته حول النظرية الماركسية... كانت معاناة بطل الرواية «سلام» تتمثل بما يراه في عيون رفاقه في النضال والسلاح والحزب من شبق يلتهم جسد زوجته الجميلة، التي تتعامل بتلقائية وتحرر وتشاركهم المهام الحزبية في المساهمة في تطبيب الجرحى الذين تخلفهم المعارك التي يخوضونها ضد النظام الحاكم، كما هو حال نساء أخريات جئن مع أزواجهن من أجل الهدف ذاته، ليجدن أنفسهن يعشن معاً في قاعة، بمعزل عن أزواجهن.. كانت معاناة البطل لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداها إلى مديات أبعد بكثير، كانت عذابات جسدية وروحية وعقلية في آن واحد، فكان شوقه لمعانقة زوجته يحرق جسده، وعيون رفاقه التي تلتهم جسدها، يحرق وجدانه وكرامته، وتساؤلاته التي قادته إلى شكوك في إمكانية تطبيق النظرية الماركسية تحرق عقله، حتى أصبح كتلة من العذابات أمام زوجة يحبها، ما زالت مؤمنة بيقين
لا يتزعزع بانتمائها الحزبي.
الرواية تتناول أحداثا حقيقية حصلت في عقد الثمانينات من القرن الماضي، كاستخدام النظام للأسلحة الكيمياوية ضد معارضيه، وتداعيات الحرب مع إيران، وظفها الكاتب بأسلوب حاذق، كما أنها تحتوي على الكثير من العقد التي تعتمد عليها الرواية من حيث إشاراتها ومدلولاتها ومساحاتها التي تلعب فيها دورها في شمولية الهدف الروائي كفعل إبداعي، وقد تمكن الكاتب في بث تلك العقد على نحو عال من الحرفية في مفاصل الرواية، لتكون لكل عقدة كينونتها وأجواؤها وقدرتها على أن تقود المتلقي إلى تساؤلات منفصلة تماماً عما تؤديه العقد الأخرى.
من جملة ما أثارته الرواية، هو الصراع الإنساني بين ما هو ثابت «الإيمان» وما هو متحوّل «العقل» فقد كانت الشخصية في الكثير من تأملاتها تشكك في متبنياتها الفكرية، وفي الكثير من التساؤلات التي كانت تعتمل في نفس «سلام» تدور حول صواب قراراته وجدواها، فهو هارب من حرب إلى حرب أخرى تختلف في الشكل والمكان، لكنه بدأ يشكك في معانيها ومضامينها الحقيقية. وبذلك انتقلت كلتا الحربين إلى قيعان سحيقة في روحه وعقله، لتحيلهما إلى ساحة حرب، ربما هي ضراوة، بيد إنها في ذات الوقت الأكثر صدقاً والأكثر مشروعية!.
وفي واحدة من أكثر مناجاة بطل الرواية إيلاماً، تلك التي راودته وهو يقف على جثة رفيق له قتلته الغازات الكيمياوية، وكان بطل الرواية قد شعر بشيء من الغبطة لمقتله، لأن الرفيق المقتول كان يعشق زوجة البطل - عشق من طرف واحد- بيد أن شعوراً بالخزي من لحظة الغبطة والتشفي بموت رفيق درب وسلاح قد انتاب بطل الرواية، مما جعله يرثي نفسه: «وأنت يا نفسي.. أي درك سافل هبطتي!.. من يقف خلف كل هذه المأساة والتشوّه .. الدولة؟؟ الأحزاب.. هاجس الموت.. الحرمان والدسائس.. فقدان الدفء.. التولّه بمستحيل الأحلام وعواقب تهدمها في النفوس.. أم كلها مجتمعة يا ربّ القسوة؟.. لا أدري.. التبست عليّ نفسي وسط هذا الركام المخيف». (ص 148)
«الإرسي» عمل روائي يستحق القراءة، لما تثيره من تأملات وتصورات إنسانية بالغة الدقة لم تعتد عليها الرواية العراقية على نطاق واسع، رغم إفراط الكاتب في الإفاضة والاسترسالات غير المبررة في بعض فصولها.