د. رفيق حسن الحليمي / العَبْرَنَة الشاملة... إلى أين؟
تعد اللغة العبرية احدى اللغات السامية (الآشورية - البابلية، والآرامية والفنيقية والعبرية، والعربية واليمنية القديمة والحبشية)، وقد اعتمد الباحثون في هذه التوليفة (الفصيلة) اللغوية على ما بين هذه اللغات من صلات القرابة التي تربطها بعضها ببعض، وما بينها من اوجه التشابه في كثير من الامور والظواهر: (بعض الافعال والاسماء والاعداد والضمائر والقواعد النحوية والصرفية) وهذه الظواهر تعد الناظم المشترك بين اللغات السامية.
وقد حرص اليهود، على امتداد تاريخهم الطويل وتواجدهم في شتى بقاع الارض، على اللغة العبرية، وتعليمها لابنائهم جيلا بعد جيل في البيت وفي الغيتو (حارة اليهود)، وفي مدارسهم الخاصة بهم، ان وجدت، إلى جانب تعلم لغة من يعيشون بينهم، وقد عاش اليهودي التائه (كما تحلو تسميته لدى بعض الباحثين) في ازدواجية لغوية (معرفة لغتين) او في تعددية لغوية (معرفة اكثر من لغة)، وعند قيام دولة اسرائيل على ارض فلسطين التاريخية بعد نكبة 1948م فرضت دولة اسرائيل على رعاياها «المهاجرين» اليها من مختلف بقاع المعمورة تعلم اللغة العبرية!
قام علماء اليهود بدور كبير في احياء موات اللغة العبرية التي تعرضت في ماضيها إلى حال من العزلة والمحدودية والانكفاء، واخذوا على عاتقهم مراجعة مفردات اللغة العبرية الموجودة بين ايديهم، والاضافة اليها، عن طريق الاقتباس والاخذ والاستعارة من لغات شتى ما ليس موجودا فيها اصلا واضفاء الصبغة العبرية (العبرنة) على هذه المفردات حتى تبدو كأنها لغة عبرية اصيلة، كان ذلك بهدف التغلب على قصور اللغة القديمة، وعجزها عن التعبير عن مقتضيات العصر المتجددة، وحاجات الانسان التي لا تتوقف عند حد، وكان اكثر ما اقتبسوه من اللغة الالمانية ومن اللغة العربية لدرجة ان احدهم قال: لولا العربية لاندثرت العبرية، ولولا العربية لما عرفت العبرية!
في بداية الامر واجه علماء اللغة بعد تدفق المهاجرين إلى ارض الميعاد من كل حدب وصوب مسألتين في غاية الصعوبة:
الاولى: اشكالة التباين والاختلاف في انماط اللغة العبرية، فالقادمون من شرق اوروبا وروسيا لهم عبرية (اليديش)، وهي تختلف في امور عن لغة القادمين من وسط اوروبا وغربها، وهذه وتلك تختلفان عن عبرية القادمين من دول عربية) اكثر من 500 الف مهاجر حتى عام 1954م) فكان توحيد هذه اللغات العبرية المتباينة في لغة واحدة مشتركة، يفهمها الجميع من المهام الصعبة التي ينبغي تذليلها.
الثانية: العمل على نشر اللغة العبرية الجديدة بين رعايا هذه الدولة، فقد رافق عملية التوحد اللغوي قرارات رسمية بفرض «العبرنة الشاملة» في مختلف مناحي الحياة، حتى تصبح اللغة العبرية الحديثة تمثل الهوية الوطنية لدولة اسرائيل، فكان لابد ان تكون اللغة الرسمية للدولة، ولغة الخطاب والمحادثة في البيت والشارع، ولغة التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات، ولغة التأليف والترجمة والنشر... ولا اكاد اتصور انسانا يقتنع بوجود دولة ما (؟) من دون لغة «قومية» تجسد الهوية الوطنية لتلك الدولة وتعبر عنها وهو ما سعى اليه المنظرون من وراء العبرنة الشاملة، وقد اصبح لزاما على كل يهودي مقيم على ارض اسرائيل ان يتقن اللغة العبرية الحديثة قراءة وكتابة ومحادثة واستماعا، مع وجود تفاوت بين شرائح المجتمع اليهودي... ولكن بين الالتزام بتلك القرارات وبين الواقع المعاش بون شاسع ومسافة كبيرة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل مشروع العبرنة الشاملة الذي تبنته الحركة الصهيونية كان ناجحا؟ وجوابي عنه من خلال معطيات مسموعة ومقروءة ومنظورة هم: «نعم و«لا» نعم على المستوى الرسمي، واما على المستوى العام في الخطاب اليومي فلا! وربما كان فاشلا بدرجة عالية، واكبر دليل على هذا ظهور بعض المتحدثين على التلفاز وهم يتحدثون باللغة الانكليزية بدلا من العبرية، وما زالت كل جماعة مهاجرة تنكفئ على ذاتها وتتقوقع داخل بؤرها الاستيطانية ولغتها القديمة، فطبيعة تكوين الشخصية اليهودية لا تتقبل حتى مع ابناء جلدتها الاندماج الاجتماعي الكلي، الذي تزول فيه الفوارق بين الطبقات وتتحد فيه الطقوس والعادات، المجتمع اليهودي لا يبدو متحدا ولا موحدا الا عندما تقع «الواقعة» ويشعر بالتهديد الشديد، وهذا يذكرنا بنظرية ابن خلدون في التجمع البشري الذي يتولد عادة من خلال المصالح المشتركة ومن خلال الخوف والتهديد المباشر والكوارث الطبيعية او الحروب، وعندما يزول التهديد، وتنتهي المصالح المشتركة تتقدم المصلحة الشخصية ويذهب كل فريق إلى ما يريد، ومن هنا يمكن الزعم ان اللغة العبرية الحديثة المصنوعة صناعة (وهو ما يقوله الباحثون فيها وفي غيرها مما على شاكلتها) تظل بعيدة عن ملامسة المشاعر الانسانية، فاللغات الحية التي نبتت في احضان المجتمع عادة ما تحمل في قاموسها وجميع مفرداتها مشاعر الامة، واحاسيسها وانفعالاتها وافراحها واتراحها، وكل كلمة في قاموسها اللغوي لابد ان تحمل دلالة معينة ارتبطت بالمكان والزمان والحال التي تولدت فيها هذه الكلمة او تلك، وعاشت معها الأجيال في خطابها وهي تدرك بوعي ما لهذا اللفظ من دلالة معينة وما له من وقع واثر، وهي امور جليلة لا تتوافر في اللغات المصنوعة، فليست اللغات الحية ذات العراقة والاصالة مجرد مفردات صماء وكلمات جوفاء، تقع خارج المنطق التاريخي للامة وخارج حدودها ووجودها وبعيدة عن السلوك البشري للناطقين بها، بحيث يمكن تجميعها بين دفتي قاموس، ثم نفرضها فرضا، ثم نزعم انها اصبحت لغة طبيعية، ولعل هذا ما يفرق بين اصالة اللغات الحية وعراقتها وبين اللغات المصنوعة ومنها العبرية الحديثة المنضوية تحت حركة العبرنة الشاملة مهما تبلغ من القوة وتنال درجة من الترويج والدعاية لها.
استهدف المنظرون من وراء العبرنة الشاملة خلق «لغة موحدة) تجمع اليهود قاطبة على اختلاف ألوانهم واعراقهم، وادركوا عن فطنة وذكاء ان خلو الساحة من لغة قومية مشتركة سيؤدي إلى نزاعات لها اول وليس لها آخر، فالمجتمع اليهودي في دولة اسرائيل من بين مجتمعات العالم قاطبة تتجاذبه انقاسامات عرقية حادة، واختلافات دينية مذهبية وثقافات متباينة، واستعلاء واستكبار بين بعضهم لبعض، فعلى مستوى الاعراق هناك السود (الفلاشا الذين ينتمون إلى الجنس الحامي وليس للجنس السامي) والهنود، وهناك الشرقيون (السفرديم) وهناك الغربيون (الاشنكاز) وهناك الخزر الذين لا ينتمون للعرق اليهودي ولا للدين اليهودي، وهناك المرتزقة، وعلى مستوى الدين: هناك القراءون (الذين يؤمنون بالتوراة ولا يؤمنون بالتلمود) وهناك الربانيون (الذين يؤمنون بالتلمود ولا يؤمنون بالتوراة)، وهناك امميون لا يؤمنون بدين (الحزب اليساري)، وهناك المثقفون ثقافة عالية، وهناك من تنحدر ثقافتهم وتعليمهم إلى درجة هابطة، فكان لابد من توحيد اللغات العبرية من الوجهة النظرية في لغة واحدة، غير ان ذلك اصطدم بواقع جعل العبرنة في حدودها الدنيا.
هذا ولم تقتصر عملية العبرنة الشاملة على اللغة، بل طالت اسماء المدن والقرى والشوارع والاماكن العامة وكتب على لوحات ارشادات الطرق الاسماء بالعبرية وفي اسفلها بالعربية ثم الانكليزية، وامتدت هذه إلى العملة الرسمية ومنذ ايام طالعتنا الاخبار برغبة اليمين المتطرف وهو الحزب الحاكم بالمطالبة بالاعتراف بدولة اسرائيل «دولة يهودية»، وقد قوبل هذا المطلب بالرفض من قبل جميع اطراف الصراع العربي، ومن بعض دول غربية (اوروبا واميركا) تقع خارج الصراع مع دولة اسرائيل التي تستهدف من وراء هذا المطلب الخطير جعل دولة اسرائيل خالصة لليهود وحدهم، وهم بذلك يقضون على قرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين ويمهدون إلى طرد المسلمين والمسيحيين خارج دولة اسرائيل، تحت ذريعة ان هذه الدولة هي دولة يهودية.
ولعل آخر صرعة في حركة العبرنة الشاملة المطالبة حديثا من قبل وزارة النقل الاسرائيلية بعبرنة اسماء المدن العربية ومحوها من لوحات اتجاهات السير فالقدس سيكتب مكانها الاسم العبري فقط «يروشاليم» بالخط العبري ثم العربي فالانكليزي كما تنطق بالعبرية، و«يافو» لمدينة يافا، و«ناتزرات» لمدينة الناصرة «واتساف» لصفد.
انهم يستهدفون من وراء هذا الصنيع، كما يبدو ظاهريا، محو الهوية العربية من الذاكرة على مر العقود والاجيال، ولكن في الحقيقة الغائبة التي لابد من استجلائها: انهم يستهدفون خلق «غيتو» (حي يهودي) كبير، وهو دولة اسرائيل اليهودية، بحيث لا يسكنها الا يهود كما هي الحال في حارات اليهود المنتشرة في مختلف انحاء المعمورة، تلك الاحياء التي ارتبطت بعقلية اليهودي «التائه»، واصبحت جزءا من ثقافته وتكوينه النفسي وواقعه الاجتماعي وهاجسه الامني، فلا يجد راحته الكبرى وامنه واستقراره الا عندما يدخل الغيتو ذلك الحي المغلق على اليهود والمحصن تحصينا جيدا، وليس جدار الفصل العنصري الا احد مظاهر الغيتو الكبير، وليس محو الاسماء العربية الا محاولة لطمس كل ما يذكرهم بما هو غير يهودي، وربما يذكرهم، وهو الاهم، باستلاب الحقوق والاوطان العربية والاسلامية.
لقد استطاع اليهود بمختلف الحيل والوسائل ان يبنوا دولتهم المزعومة على انقاض الشعب الفلسطيني، وان يحصنوها بأحدث التقنيات الحربية ويقيموا اكبر ترسانة عسكرية، وان يختلقوا اسرائيل القديمة، ويسكتوا التاريخ الفلسطيني، ويطرحوه ارضا، حتى يخلو لهم المقام لفرض تاريخ زيفوه، ثم صدقوه وجعلوا العالم يصدقه معهم! ثم بالغوا في الطرد والتهجير والاعتقال والابعاد واستلاب الحقوق، وبالغوا في طمس الهوية العربية بكل ما اوتوا من جبروت وقوة... يحدث هذا للاسف المحزن، وربما يحدث اكثر منه في غياب الموقف العربي، وفي مقدمته الموقف الفلسطيني الممتلئ بالتناقضات والعجائب.
ويقضى الامر حين يغيب «عُرْبٌ»
ولا يُستأذنون وهم شُهود
د. رفيق حسن الحليمي
أكاديمي فلسطيني
وقد حرص اليهود، على امتداد تاريخهم الطويل وتواجدهم في شتى بقاع الارض، على اللغة العبرية، وتعليمها لابنائهم جيلا بعد جيل في البيت وفي الغيتو (حارة اليهود)، وفي مدارسهم الخاصة بهم، ان وجدت، إلى جانب تعلم لغة من يعيشون بينهم، وقد عاش اليهودي التائه (كما تحلو تسميته لدى بعض الباحثين) في ازدواجية لغوية (معرفة لغتين) او في تعددية لغوية (معرفة اكثر من لغة)، وعند قيام دولة اسرائيل على ارض فلسطين التاريخية بعد نكبة 1948م فرضت دولة اسرائيل على رعاياها «المهاجرين» اليها من مختلف بقاع المعمورة تعلم اللغة العبرية!
قام علماء اليهود بدور كبير في احياء موات اللغة العبرية التي تعرضت في ماضيها إلى حال من العزلة والمحدودية والانكفاء، واخذوا على عاتقهم مراجعة مفردات اللغة العبرية الموجودة بين ايديهم، والاضافة اليها، عن طريق الاقتباس والاخذ والاستعارة من لغات شتى ما ليس موجودا فيها اصلا واضفاء الصبغة العبرية (العبرنة) على هذه المفردات حتى تبدو كأنها لغة عبرية اصيلة، كان ذلك بهدف التغلب على قصور اللغة القديمة، وعجزها عن التعبير عن مقتضيات العصر المتجددة، وحاجات الانسان التي لا تتوقف عند حد، وكان اكثر ما اقتبسوه من اللغة الالمانية ومن اللغة العربية لدرجة ان احدهم قال: لولا العربية لاندثرت العبرية، ولولا العربية لما عرفت العبرية!
في بداية الامر واجه علماء اللغة بعد تدفق المهاجرين إلى ارض الميعاد من كل حدب وصوب مسألتين في غاية الصعوبة:
الاولى: اشكالة التباين والاختلاف في انماط اللغة العبرية، فالقادمون من شرق اوروبا وروسيا لهم عبرية (اليديش)، وهي تختلف في امور عن لغة القادمين من وسط اوروبا وغربها، وهذه وتلك تختلفان عن عبرية القادمين من دول عربية) اكثر من 500 الف مهاجر حتى عام 1954م) فكان توحيد هذه اللغات العبرية المتباينة في لغة واحدة مشتركة، يفهمها الجميع من المهام الصعبة التي ينبغي تذليلها.
الثانية: العمل على نشر اللغة العبرية الجديدة بين رعايا هذه الدولة، فقد رافق عملية التوحد اللغوي قرارات رسمية بفرض «العبرنة الشاملة» في مختلف مناحي الحياة، حتى تصبح اللغة العبرية الحديثة تمثل الهوية الوطنية لدولة اسرائيل، فكان لابد ان تكون اللغة الرسمية للدولة، ولغة الخطاب والمحادثة في البيت والشارع، ولغة التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات، ولغة التأليف والترجمة والنشر... ولا اكاد اتصور انسانا يقتنع بوجود دولة ما (؟) من دون لغة «قومية» تجسد الهوية الوطنية لتلك الدولة وتعبر عنها وهو ما سعى اليه المنظرون من وراء العبرنة الشاملة، وقد اصبح لزاما على كل يهودي مقيم على ارض اسرائيل ان يتقن اللغة العبرية الحديثة قراءة وكتابة ومحادثة واستماعا، مع وجود تفاوت بين شرائح المجتمع اليهودي... ولكن بين الالتزام بتلك القرارات وبين الواقع المعاش بون شاسع ومسافة كبيرة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل مشروع العبرنة الشاملة الذي تبنته الحركة الصهيونية كان ناجحا؟ وجوابي عنه من خلال معطيات مسموعة ومقروءة ومنظورة هم: «نعم و«لا» نعم على المستوى الرسمي، واما على المستوى العام في الخطاب اليومي فلا! وربما كان فاشلا بدرجة عالية، واكبر دليل على هذا ظهور بعض المتحدثين على التلفاز وهم يتحدثون باللغة الانكليزية بدلا من العبرية، وما زالت كل جماعة مهاجرة تنكفئ على ذاتها وتتقوقع داخل بؤرها الاستيطانية ولغتها القديمة، فطبيعة تكوين الشخصية اليهودية لا تتقبل حتى مع ابناء جلدتها الاندماج الاجتماعي الكلي، الذي تزول فيه الفوارق بين الطبقات وتتحد فيه الطقوس والعادات، المجتمع اليهودي لا يبدو متحدا ولا موحدا الا عندما تقع «الواقعة» ويشعر بالتهديد الشديد، وهذا يذكرنا بنظرية ابن خلدون في التجمع البشري الذي يتولد عادة من خلال المصالح المشتركة ومن خلال الخوف والتهديد المباشر والكوارث الطبيعية او الحروب، وعندما يزول التهديد، وتنتهي المصالح المشتركة تتقدم المصلحة الشخصية ويذهب كل فريق إلى ما يريد، ومن هنا يمكن الزعم ان اللغة العبرية الحديثة المصنوعة صناعة (وهو ما يقوله الباحثون فيها وفي غيرها مما على شاكلتها) تظل بعيدة عن ملامسة المشاعر الانسانية، فاللغات الحية التي نبتت في احضان المجتمع عادة ما تحمل في قاموسها وجميع مفرداتها مشاعر الامة، واحاسيسها وانفعالاتها وافراحها واتراحها، وكل كلمة في قاموسها اللغوي لابد ان تحمل دلالة معينة ارتبطت بالمكان والزمان والحال التي تولدت فيها هذه الكلمة او تلك، وعاشت معها الأجيال في خطابها وهي تدرك بوعي ما لهذا اللفظ من دلالة معينة وما له من وقع واثر، وهي امور جليلة لا تتوافر في اللغات المصنوعة، فليست اللغات الحية ذات العراقة والاصالة مجرد مفردات صماء وكلمات جوفاء، تقع خارج المنطق التاريخي للامة وخارج حدودها ووجودها وبعيدة عن السلوك البشري للناطقين بها، بحيث يمكن تجميعها بين دفتي قاموس، ثم نفرضها فرضا، ثم نزعم انها اصبحت لغة طبيعية، ولعل هذا ما يفرق بين اصالة اللغات الحية وعراقتها وبين اللغات المصنوعة ومنها العبرية الحديثة المنضوية تحت حركة العبرنة الشاملة مهما تبلغ من القوة وتنال درجة من الترويج والدعاية لها.
استهدف المنظرون من وراء العبرنة الشاملة خلق «لغة موحدة) تجمع اليهود قاطبة على اختلاف ألوانهم واعراقهم، وادركوا عن فطنة وذكاء ان خلو الساحة من لغة قومية مشتركة سيؤدي إلى نزاعات لها اول وليس لها آخر، فالمجتمع اليهودي في دولة اسرائيل من بين مجتمعات العالم قاطبة تتجاذبه انقاسامات عرقية حادة، واختلافات دينية مذهبية وثقافات متباينة، واستعلاء واستكبار بين بعضهم لبعض، فعلى مستوى الاعراق هناك السود (الفلاشا الذين ينتمون إلى الجنس الحامي وليس للجنس السامي) والهنود، وهناك الشرقيون (السفرديم) وهناك الغربيون (الاشنكاز) وهناك الخزر الذين لا ينتمون للعرق اليهودي ولا للدين اليهودي، وهناك المرتزقة، وعلى مستوى الدين: هناك القراءون (الذين يؤمنون بالتوراة ولا يؤمنون بالتلمود) وهناك الربانيون (الذين يؤمنون بالتلمود ولا يؤمنون بالتوراة)، وهناك امميون لا يؤمنون بدين (الحزب اليساري)، وهناك المثقفون ثقافة عالية، وهناك من تنحدر ثقافتهم وتعليمهم إلى درجة هابطة، فكان لابد من توحيد اللغات العبرية من الوجهة النظرية في لغة واحدة، غير ان ذلك اصطدم بواقع جعل العبرنة في حدودها الدنيا.
هذا ولم تقتصر عملية العبرنة الشاملة على اللغة، بل طالت اسماء المدن والقرى والشوارع والاماكن العامة وكتب على لوحات ارشادات الطرق الاسماء بالعبرية وفي اسفلها بالعربية ثم الانكليزية، وامتدت هذه إلى العملة الرسمية ومنذ ايام طالعتنا الاخبار برغبة اليمين المتطرف وهو الحزب الحاكم بالمطالبة بالاعتراف بدولة اسرائيل «دولة يهودية»، وقد قوبل هذا المطلب بالرفض من قبل جميع اطراف الصراع العربي، ومن بعض دول غربية (اوروبا واميركا) تقع خارج الصراع مع دولة اسرائيل التي تستهدف من وراء هذا المطلب الخطير جعل دولة اسرائيل خالصة لليهود وحدهم، وهم بذلك يقضون على قرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين ويمهدون إلى طرد المسلمين والمسيحيين خارج دولة اسرائيل، تحت ذريعة ان هذه الدولة هي دولة يهودية.
ولعل آخر صرعة في حركة العبرنة الشاملة المطالبة حديثا من قبل وزارة النقل الاسرائيلية بعبرنة اسماء المدن العربية ومحوها من لوحات اتجاهات السير فالقدس سيكتب مكانها الاسم العبري فقط «يروشاليم» بالخط العبري ثم العربي فالانكليزي كما تنطق بالعبرية، و«يافو» لمدينة يافا، و«ناتزرات» لمدينة الناصرة «واتساف» لصفد.
انهم يستهدفون من وراء هذا الصنيع، كما يبدو ظاهريا، محو الهوية العربية من الذاكرة على مر العقود والاجيال، ولكن في الحقيقة الغائبة التي لابد من استجلائها: انهم يستهدفون خلق «غيتو» (حي يهودي) كبير، وهو دولة اسرائيل اليهودية، بحيث لا يسكنها الا يهود كما هي الحال في حارات اليهود المنتشرة في مختلف انحاء المعمورة، تلك الاحياء التي ارتبطت بعقلية اليهودي «التائه»، واصبحت جزءا من ثقافته وتكوينه النفسي وواقعه الاجتماعي وهاجسه الامني، فلا يجد راحته الكبرى وامنه واستقراره الا عندما يدخل الغيتو ذلك الحي المغلق على اليهود والمحصن تحصينا جيدا، وليس جدار الفصل العنصري الا احد مظاهر الغيتو الكبير، وليس محو الاسماء العربية الا محاولة لطمس كل ما يذكرهم بما هو غير يهودي، وربما يذكرهم، وهو الاهم، باستلاب الحقوق والاوطان العربية والاسلامية.
لقد استطاع اليهود بمختلف الحيل والوسائل ان يبنوا دولتهم المزعومة على انقاض الشعب الفلسطيني، وان يحصنوها بأحدث التقنيات الحربية ويقيموا اكبر ترسانة عسكرية، وان يختلقوا اسرائيل القديمة، ويسكتوا التاريخ الفلسطيني، ويطرحوه ارضا، حتى يخلو لهم المقام لفرض تاريخ زيفوه، ثم صدقوه وجعلوا العالم يصدقه معهم! ثم بالغوا في الطرد والتهجير والاعتقال والابعاد واستلاب الحقوق، وبالغوا في طمس الهوية العربية بكل ما اوتوا من جبروت وقوة... يحدث هذا للاسف المحزن، وربما يحدث اكثر منه في غياب الموقف العربي، وفي مقدمته الموقف الفلسطيني الممتلئ بالتناقضات والعجائب.
ويقضى الامر حين يغيب «عُرْبٌ»
ولا يُستأذنون وهم شُهود
د. رفيق حسن الحليمي
أكاديمي فلسطيني