أماكن / عشماوي... في المقهى

تصغير
تكبير
">| جمال الغيطاني |
عند ظهوره في المقهى. أختلس النظر إليه، أدقق في ملامحه، لم أتعجل الجلوس إلى جواره، لم يكن نادل المقهى يخاطبه بالاسم الشائع... لكل من يتولى مهمته ويشغل تلك المهنة، كانوا يخاطبونه «حاج إبراهيم»... أحيل إلى التقاعد لذلك بدأ يتردد بانتظام. مرة في الصباح وأخرى في المساء، يجلس وحيدا، يكتفي بشرب الشاي الخالي من السكر. والنرجيلة.
المقهى لا يقدم إلا التنباك، يقصده محامون وقضاة وضباط متقاعدون وتجار كبار، بيني وبين نفسي أسميهم «حزب التنباك»، بعضهم يجيء من مصر الجديدة وآخرون من المعادي، آخر من توقعت انضمامه، عشماوي، المقترن اسمه بالموت، بالقتل الشرعي.
عندما يكون المقهى مزدحما. فإن الفرادى مثلي ومثله يمكن أن يتجاوروا، ترتيب يعرفه العاملون القدامى الذين يعرفون عادات ومزاج الزبائن، يكفي أن يتعاملوا مرة أو مرتين مع الشخص، من تجاورنا بدأ حوار مقتضب أحيانا، مسهب أحيانا أخرى.
«تصدق وتؤمن بالله؟»
«لا إله إلا الله يا حاج إبراهيم...»
قال إنه كان يتمنى انتهاء الخدمة حتى يعود إلى المقهى، إلى تدخين التنباك، لم يكن ذلك ممكنا أثناء عمله، من الصعب جلوسه بالزي الرسمي، والأوقات المتاحة للراحة كانت قليلة، محدودة، التفت إليّ بنظرة جانبية، كنت أتأمل أصابعه الغليظة، الطويلة الممسكة بحافة المنضدة عندما قال فجأة:
«إوعى تكون فاكر إن الشغل اللي بالك فيه كان واخد وقتي كله...»
قال إن مهامه كانت متعددة، إحداها فقط هذا النوع من الأعمال، إعدام المحكوم عليهم، تنفيذ قضاء الله وقصاصه، انتقل فجأة إلى الحديث عن تنباك زمان، أنواعه الفاخرة من عجمي، وأزميرلي ولاذقاني وعدني، بعض المقاهي كانت تقصدها السيدات، خاصة اللبنانيات، والسوريات الشوام يعني لم يكن يجرؤ على دخولها، يكتفي بالمرور أمامها والفرجة، آخر حده كان في مقهى الفيشاوي، تنباك زمان اختفى، رائحته كانت تعبق المكان، تعطر الشارع أمام المقهى الذي يقدمه، لم يعد إلا هذا المقهى الملتزم بالأصول، المحافظ على مستوى الدخان والمشروب، أصحابه صنايعية بحق وحقيق، صمت فجأة، اعتدت سكوته عندما يلزم السكوت يصعب استئناف الحوار معه، بل كدت أثق أنه يتحدث من طرف واحد، لكنه يوهم جليسه أنه يتبادل معه الحوار، لا ينطق إلا بما يريد قوله.
خلال أيام عدة. علمت منه أمورا عن عشماوي الأول، لم يخلفه من يحمل اسمه، لكن أول من شغل المهمة منح اسمه إلى كل من خلفه، عشماوي الأول يبدو لكل من جاء بعده كأسطورة، كان متزوجا من أربع، أنجب ذرية كثيفة، حتى أنه كان يقابل بعض أحفاده في الحارة فلا يعرفهم إلا إذا أخبروه، كان شفوقا على المحكوم عليهم، يتمتم في آذانهم بأدعية، أما يده فيُضرب بها المثل في الخفة والمهارة، خفة في إلباس المحكوم عليه الطاقية، ومساعدته على طلوع الدرجات ثم شد الذراع المتصلة بالطبلية، يقولون إن نبض من قضى في زمنه. لم يستمر عند أي منهم إلا ثوان معدودات، قال إن نبض البعض يستمر لأكثر من خمس دقائق، بمجرد هموده تماما يقرر الطبيب الملازم التمام، لكن مع عشماوي الأول. لم يطل الأمر إلا لثواني، كيف؟ هذا ما لم يفصح عنه لأحد فهو سر الصنعة!
حين يبتسم يبدو مكان الناب الأيسر المخلوع، هكذا تبدو ابتسامته فجأة، وقد تغيب من دون أن ينطق، وأحيانا يفسر، مرة قال أثناء نظره إلى الأمام، كأنه يخاطب خفيا لا يبدو لي.
غريب أمر هذه السيدة، شابة، جميلة، أرق من قماش رمش العين، محررة حوادث في جريدة مشهورة، كانت حريصة على حضور العمليات كلها، تسأل قبلها وتتأكد من المواعيد التي تبقى سرية دائما، لها صلات قوية مع إدارة تنفيذ الأحكام، وجميع ضباط السجن، لو كان التنفيذ في الثالثة فجرا تجدها في كامل الأبهة، حاضرة، كانت تحرص على شيئين، الأول، مصاحبتها للجنة عند ذهابها مكتملة إلى زنزانة المحكوم عليه، لا يمكن إخباره بالموعد، هذا من الأصول المرعية، المستوفاة، لا يمكن الإخلال بها أبدا، تحرص على حضور فتح الزنزانة، ورؤية المحكوم عليه عند إدراكه حلول الوقت، أما حرصها الثاني فكان على النزول إلى البئر تحت المنصة وقياس النبض، سبحان الله، ما أغرب خلقه، سمعت من يشنع بها ويقول إنها لم تتزوج، تربي القطط لتخنقها، لكن علم ذلك عند ربي!
أصغيت صامتا متطلعا إلى نفس الجهة التي يسدد إليها البصر، نطقت باستفساري المؤجل من دون أن أتطلع إليه، أي الحالات التي لا يمكنه أن ينساها؟
لم يبدل وضعه، بنفس درجة الصوت أجاب.
الأولى لشاب لم يكمل الثلاثين، صحة، طول بعرض، قتل أمه، سمعت كلاما كثيرا لكن أستغفر الله العظيم، بعدما سمع السؤال: نفسك في إيه؟ طلب سيجارة، المأمور جاب له واحدة بليمونت، ولّعها له بنفسه، شد نفس واحد، نفس واحد خلّص به على السيجارة، طلع من مناخيره ومن فمه،. وبعدما خلّص بص ناحيتي أنا، قال لي:
«شوف شغلك، أنا أخذت نصيبي من الدنيا خلاص...».
الثانية. مأمور ضرائب، هادئ، محترم، وباين عليه ابن ناس، بهدوء أملى وصيته، أوصى ببيع الكليتين والكبد والقلب وقرنيتي العينين، طبعا كتب رسالة قبل ذلك لأن الأطباء كانوا جاهزين لنقل الجثمان إلى مستشفى السجن. للحصول على الأعضاء، المهم أنه كرر الوصية ليُسمع أعضاء اللجنة، الحقيقة كان أغرب ما سمعته، خاصة السبب.
ما هو السبب يا تُرى؟
قال: «ليكمل مشوار ابنته، كانت تستعد للزواج، وماسابش أي حاجة وراه».
بعد لحظات قال: أما الثالثة. فكانت شابة إنما إيه؟ مفتخرة، شعرها ناعم، طويل، نازل على ظهرها سيسبان، مخروطة خرط، صدر إيه، خصر إيه، سبحان من صور، أهى دي اللي ينطبق عليها بحق، «تحل من على حبل المشنقة»، لبستها الطاقية وأنا باتحسر، ولولا الملامة كنت بكيت وأنا بالف رقبتها بالحبل، يا سلام سلّم، لما نزلت أشوف النبض كانت بتتنفض زي الحمامة، شلتها هامدة، وأنا طالع الدرج حسيت باللي ماحسيتش به مع الصاحيين!
تطلعت إليه، يعض شفته السفلى مغمّضا عينيه، متوحدا تماما بتلك التي غابت هناك، والتي لاتزال حرارة جسمها تسري إليه كما قال.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي