الإعلام العربي في محاكمة «قاهرية» / الحلقة الثالثة



دائما وأبداً ينشغل بأحوال الناس والعالم، يتابع الأحداث، يلاحقها، وكثيرا ما يشارك في صناعتها وتوجيهها. وكما أنه ينشغل بقضايا الناس فإنهم ينشغلون به، يخطف أبصارهم وقلوبهم وعقولهم، يقلقهم ويبهرهم.
هذا هو حال الإعلام في كل الدنيا، وأيضا حاله في وطننا العربي. ولأن منظومة الإعلام تتطور وتتبدل ما بين عشية وضحاها، بل بين لحظة وأخرى، كان لا بد من التوقف للمناقشة والسؤال: هل واكب الإعلام العربي منظومة الإعلام العالمية، وهل استطاع، من خلال ما طرح من فضائيات وصحف ومواقع إلكترونية، ان يقدم القضايا والموضوعات العربية بشكل عصري تتوافر فيه شروط وعناصر «الصناعة الإعلامية»؟
اسئلة في حاجة إلى إجابات متخصصة جنبا إلى جنب مع أسئلة عن دور التوجهات السياسية والضغوط المالية والتجارية وعادات الشعوب وتقاليدها في توجيه الإعلام العربي. معارك الإعلام العربي السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية كانت محور مناقشات ساخنة في ندوات عدة جاءت على هامش مهرجان الإعلام العربي الذي انتهى قبل أيام في العاصمة المصرية... وفي السطور التالية التفاصيل:
برامج التلفزيون بين فخ الإثارة الجماهيرية ونفاق السلطة
فيما يشبه المواجهة جاءت ندوة «برامج الأحداث الجارية...الأهداف والضوابط» فقد وجه عدد من خبراء الإعلام العربي الانتقادات إلى هذا النوع من البرامج قائلين ان البرامج الحوارية وبرامج الأحداث الجارية، أو التي تم الاصطلاح على تسميتها بالبرامج الصحافية، مستنسخة من بعضها البعض، ومصادرها محدودة، ومكررة، وتسعى إلى الإثارة لجذب المشاهد العربي. في مقابل ذلك أكد القائمون على تلك البرامج أن التجربة لا تزال في بدايتها، لافتين النظر إلى أنها أعادت الحياة إلى التلفزيون، وأنها من أفضل الظواهر الإعلامية التي حدثت أخيراً. وقالوا إن هذه البرامج لها شكل عالمي موحد وهو شكل الجريدة اليومية وشبهوها بالجريدة المسائية التي تعرض أحداث اليوم والغد. وأشاروا إلى أن المشاهد، من خلال فقرات الاتصالات الهاتفية، صار أحد صناع تلك البرامج بتحفيزه على التعبير عن رأيه، وأكدوا أنهم نجحوا في رسالتهم.
رئيس قطاع الأخبار بالتلفزيون المصري عبد اللطيف المناوي في تقديمه للندوة قال: «هذه البرامج بدأت ببرنامج وحيداً ثم انتشرت في الفضائيات وأثرت بالفعل في نسبة المشاهدة في الإعلام المصري.»
وأكد منسق الحوار وكيل كلية الإعلام بجامعة القاهرة الدكتور سامي عبد العزيز أن الناس لم تعد أسرى قنوات بقدر ما هم أسرى برامج، أصبح الجمهور يشير إلى برامج بعينها وليس إلى محطات بعينها، مؤكدا أن نجاح البرامج جاء بخلط العمل الحواري والترفيهي، وأنه يتصور أنها قادرة على أن تصبح قنوات مستقلة. لكنه أشار إلى نقطة ضعفها قائلا: «الهدف الأول من أي برنامج هو توفير عنصر الجاذبية، إلا أن هناك خيطا رفيعا بين الإثارة والمصلحة العامة، وهناك خط رفيع أيضا بين القدرة على التعامل مع النظام السياسي والنفاق للحكومة»
ووجه عبد العزيز السؤال إلى رئيس تحرير برنامج البيت بيتك بالتلفزيون المصري الصحافي محمد هاني عن تجربته في العمل مع صحيفة مملوكة ملكية عامة، ومن ثم مع تلفزيون مملوك ملكية عامة. فأوضح هاني أن المعيار الأساسي لأي تجربة هو مدى مصداقية هذه التجربة بغض النظر عن ملكية المحطة. وأشار إلى أن هذه البرامج من أفضل الظواهر التي حدثت في مصر على المستوى الإعلامي وشبهها بالجريدة المسائية. وقال: «نستطيع في هذه الفترة الزمنية أن نطلع الجماهير على أحداث اليوم والغد مع وجود أربع وجهات نظر مختلفة في قضية واحدة وهو ما لم يحدث من قبل في الإعلام المصري.»
وأشار إلى أن هذه البرامج مرت بمرحلتين، المرحلة الأولى كانت تدخل في حيز المنافسة العنيفة كي يثبت كل برنامج نفسه إلى أن حققت البرامج الأربعة «البيت بيتك، القاهرة اليوم، العاشرة مساء، 90 دقيقة» نفسها وهدفها، ودخل التنافس في مرحلة النضج.
قضايا جماهيرية
ثم وجه منسق الحوار الدكتور عبد العزيز سؤالا إلى مذيع برنامج «البيت بيتك» تامر أمين عن الخيط الرفيع بين كونه مذيعا محبوبا يتبنى قضايا الجماهير، وبين فخ أن يصبح زعيماً رغم عدم صلاحيته لذلك.
تامر قال انه يعتقد أن المشاهد لا يبحث عن مذيع، أو برنامج، أو قناة محددة، إنما يبحث عن الجدية والإفادة والحقيقة أيا كان مكانها، خاصة في البرنامج الذي يقدمه مذيع قريب من الناس يتبنى قضاياهم بجدية.
وعن نفاق السلطة قال أمين: «هناك ما يسمى بمداعبة السلطة، لكن هذا ليس الغاية وإنما هي وسيلة من أجل الصالح العام وتوعيته، هناك ترمومتر حساس جدا هو مصلحة الجمهور، ليس شرطا أن يتحول المذيع إلى جهة معارضة للسلطة».
وأشار إلى أن إحدى السلبيات التي أثرت على التلفزيون المصري لفترة وأعادته للخلف فكرة الوعظ، فالمذيع يصبح محاضراً يوضح الصحيح من الخطأ للجمهور في الشارع من منبر عال، وأكد أن هذه الصورة قد انتهت.
وأضاف: «أنا في النهاية لدي سلعة اسمها الخدمة الإعلامية ولابد من ترويج هذه السلعة، ولدي عميل هو المشاهد الذي يمكنه بضغطة زر أن يقبلني أو لا يقبلني، والصحافة التلفزيونية الحقيقية بمبادئها الواسعة تعمل على استعراض كافة الآراء».
صحيفة يومية ساخنة
أما معد برنامج «القاهرة اليوم» على قناة أوربت الفضائية الصحافي المصري خيري رمضان فقال: «إن البرامج الحوارية أشبه بالصحيفة اليومية الساخنة، ونحن كمعدين أشبه بالحواة، ودورنا تنويري، فلابد أن نعرض الحدث من خلال المرآة، ليس دوري صناعة الحدث فمثلا إذا كان هناك اعتصام ضد الحكومة فلابد أن أنقله».
وأشار إلى أن البرامج الحوارية لا تتعمد الإساءة لافتا إلى أن الحرية الإعلامية في التلفزيون تبدأ ضعيفة في بدايتها ثم تنمو وتتطور وتصبح أفضل مع الوقت.
وقال محمد هاني: «لا يمكننا ان نحكم على هذه التجربة الآن لأنها تتطور، وهناك أخطاء في التجربة وهذا يرجع إلى المرحلة الأولى التي تمت فيها بث هذه البرامج».
وعن مداعبة الجماهير قال إنها تعود إلى أداء المذيع، فكل مذيع له أرضية جماهيرية، أحيانا يداعب الجمهور، وأحيانا لا يقول الحقيقة حتى لا يصدم الناس، وهناك أيضا نفاق للحكومة أو لتيار سياسي أو لجماعة بعينها.
وتابع هاني: «من وجهة نظري الشخصية أنا ضد الثنائية، أي أن تكون هناك حكومة ومعارضة، فهذا يؤدي إلى فشل مبكر للديموقراطية، ليس فقط في البرامج ولكن في المجتمع ككل، فلابد أن تكون هناك ضوابط مهنية وميثاق للعمل لكي تضمن البرامج الحوارية النجاح والاستمرار.» وأضاف: «عندما أنقل مظاهرة صغيرة بحركة كاميرا معينة لأصورها على أنها مظاهرة كبيرة وأغفل طرفا عن طرف آخر فهنا وقعت في خطأ مهني.» وطالب الدكتور عبد العزيز بأن تخضع هذه التجربة إلى جهة علمية وإعلامية متخصصة لدراستها. ورد محمد هاني بأن مركز المعلومات بمجلس الوزراء المصري يقوم بهذا الدور.
تعليم وتثقيف
وفي مداخلته، قال مخرج الدراما المصري إبراهيم متولي: «هناك مشكلة بين ما هو نظري في الجامعات والتطبيق في السوق الإعلامية، الطالب يخرج من دون تثقيف وتعليم ونضعه أمام قدره ليكون نجما أو لا يكون شيئاً». وطالب بأن تكون القناة التلفزيونية متعادلة متوازنة تطرح القضايا وتحلها، حتى لا تكون مجرد مصدر للمشاكل متسائلا لماذا تلجأ هذه البرامج إلى إثارة واستفزاز مشاعر الناس؟
ومن وجهة نظر الباحثة الإعلامية أماني عمارة فإن: «هذه البرامج إيجابية تحفز المشاهد على التعبير عن رأيه، فالمشاهد عنصر مؤثر وهو الذي يتخذ القرار وليس الوزراء، وهو يشكل جماعة ضغط لبعض القضايا، وبالتالي فالمشاهد هو الذي يصنع هذه البرامج، وفي النهاية فإن هدفها تنمية الوطن وتطويره.»
من جانبه، وجه المنسق الإخباري بالتلفزيون المصري حسن الجزار انتقادات حادة إلى البرامج الحوارية مؤكدا أن مصادر البرامج الأربعة الأكثر مشاهدة محدودة جداً، ويتم تكرارها بين البرامج، وقال:»الجمهور يتابع البرنامج لسبب من الأربعة إما المقدم أو الضيف أو وقت إذاعته أو الموضوعات المطروحة.»
ورد محمد هاني قائلا: «إذا كان الضيف طرفا في حدث ويمتلك معلومات فلا توجد مشكلة من تكراره، فمثلا اكتشفت أنه بحصر عدد الضيوف على مدى أربعة أعوام أن عددهم وصل إلى 2700 ضيف غير مكررين ولا أدري إن كان هذا معدلا طيبا أم لا ولكن المهم أن هناك تنويعاً».
وعلق تامر أمين قائلاً: «تكرار الوجوه أمر غير مطلوب، ولكن المشكلة تكمن في قلة تنوع المصادر، وعلى سبيل المثال فإنه عبر الـعشرة أعوام الأخيرة لم يظهر عدد كبير من السياسيين المؤثرين.» وأشار إلى أن أحد أهم العناصر التي ساهمت في نجاح البرامج الحوارية وجود ما يسمى بورشة العمل بمعنى أن المذيع والمعد يعملان في إطار متكامل، وقال انه يرى أن تميزه كمذيع يأتي من أنه يستخلص من الضيف الذي كان مع محاور آخر منذ عدة دقائق معلومة جديدة.
وعن مناقشة البرامج لنفس الموضوعات قال تامر أمين: «إن المشاهد يتخيل أن هناك اتفاقاً بين البرامج الأربعة على الموضوعات المطروحة وهو ما لا يحدث، لا يمكنني أن أغفل خبرا لمجرد أن برنامجا آخر أذاعه».
وردا على مداخلة اتهمت البرامج بأنها مستنسخة من بعضها البعض قال محمد هاني: «فكرة الاستنساخ في البرامج غير واردة، لأن برامج الأحداث الجارية لها شكل عالمي موحد، والقنوات تقدم هذه البرامج في شكل جريدة يومية تعرض لأهم الأحداث على الساحة، وكل برنامج يحقق تواجده وجماهيريته من الاختلاف وليس بالتشابه، وبالتالي فالبرامج لا تقلد بعضها البعض.» وهنا تدخل تامر أمين قائلا: «ليس خطأ إذا قام برنامج بطرح فكرة جديدة مثل جمع تبرعات أن نفعل مثله.»
وعن إذاعة برامج متشابهة في الوقت ذاته تقريباً قال تامر: «إن ذلك يعكس فقر القنوات التي تقدم برنامجا واحدا قويا، وليس من المستحب أن يتابع المشاهد البرامج متتالية لأن ذلك يخلق نوعا من التكرار الإجباري، ومع الوقت يستطيع كل فرد أن يختار ما يناسبه».
وقال الدكتور سامي: «من المهم قياس تأثير البرامج الحوارية من خلال نسب المشاهدة، وأشار إلى أن طرح المذيع لرأيه يعد قضية جدلية، البعض يؤيدها والبعض يرفضها ويشترط مؤيدو الفكرة أن يكون طرح المذيع لرأيه مؤسسا على وعي بالقضية المطروحة وألا يفرض رأيه على الضيف».