محاسبة النفس، مراجعة الفكر، تقويم الأداء. عناصر ثلاثة تشكل في مجموعها شروط النهضة وأسباب النجاح.
تلك العناصر الثلاثة لا تختص بالأفراد فقط، بل بمؤسسات الدولة وقياداتها. ولعل أكثر الأنساق البشرية حاجة لها هو ما نسميه في منظومة العمل السياسي بالكتل السياسية.
هذه الكتل موجودة على أرض الواقع رضي من رضي وسخط من سخط ولها برامجها وأجندتها. وقد تعرضت إلى الانكماش في الانتخابات الأخيرة، وتحتاج إلى تطوير أدواتها وتجديد دمائها، والتعرف على مناسبات كل مرحلة والفهم الدقيق لفقه المعارضة والموالاة من خلال أولويات العمل وموازنات الشد والجذب فيما بينها من ناحية ومع الحكومة من ناحية أخرى. وهذه الكتل تعد أحد أهم أنساق المنظومة السياسية عندنا ومكوناً أساسياً لا يمكن تجاهله.
من الممكن أن تكون هذه الكتل خير معين للدولة ممثلة بالحكومة على بناء الكويت والتحليق بها عالياً في مصاف الدول المتقدمة. كما أن هذه الكتل من الممكن أن تكون أحد أسباب التخلف الذي نعانيه في البلاد. ومادام أفرادها كويتيين فالكويت بحاجة لهم. ولا يتم ذلك من دون شروط ثلاثة أولها محاسبة النفس. فما أحوج الكتل السياسية بأفرادها والقائمين عليها إلى محاسبة أنفسهم والوقوف عند مقومات استقرارها، وثباتها على المبدأ القيمي والأخلاقي والتعرف على جوانب القوة والضعف لديهم، والتفتيش عن غوائل ودواخل أفراد تلك الكتل وحظوظها، ثم وضع ذلك كله تحت المجهر استعدادا لمعالجته وإصلاحه، فليس من العيب أن نحاسب أنفسنا على أخطائها فنخليها من حظوظها ونراقب ما يندس في بواطنها ليفسدها وقد قيل حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
المحاسبة تشمل ممارسات ممثلي تلك الكتل داخل وخارج البرلمان، وما يتعلق بذلك من التفات حول الدستور ومخالفة اللوائح والنظم المعمول بها، كالعمل التجاري والتكسب غير المشروع وبيع الذمة وشبهات التنفيع والتصويت في اللجان لمصالح ضيقة وما يتصل بها من الكذب والغش وخيانة الأمانة وتزوير الحقائق.
الأمر الآخر هو مراجعة الفكر من شطحاته التي ينزلق بسببها القدم فتميل عن جادة الحق وتنحرف عن الطريق. والفكر هو الوقود المحرك لمشاريعنا التنموية. فأفكارنا تنتج أعمالنا، ولا توجد خطة استراتيجية من دون فلسفة يؤمن أصحابها بها. وقل لي ما تعتقد أقل لك ما هو مستقبلك. فلا بد إذاً من مراجعة الفكر الذي تتبناه تلك الكتل وقياداتها، ومراعاة الأطر العامة في الدولة، وعدم تبني أفكار لا تتسق مع الواقع السياسي والاجتماعي فيها... ومادامت تلك الكتل تؤمن بالدستور فعليها أن تعمل وفقاً لمضامينه ومحتواه وعدم التعسف باستخدام أدواته والنظر إلى موازنات العمل بنظرة أكثر شمولية. فكثير من انحرافات العمل السياسي لدى الكتل السياسية نتجت من فكرة خاطئة أو غير مناسبة أو أنها جاءت في غير أوانها مما أدى تبنيها أو اتخاذ القرار بشأنها إلى مفاسد ومآخذ كثيرة. فالأفكار الإصلاحية البريئة ليست بالضرورة صالحة للتطبيق، خصوصاً إذا كانت في جو مشحون ومتأزم. والتاريخ فيه عبر كثيرة يمكن أن تكون نبراساً لنا في فهم الواقع. فليس هناك أصدق من فرقة الخوارج، في التاريخ، والذين خرقوا سفينة الوحدة والائتلاف الوطني والقومي آنذاك بسبب (فكرة) علقت في أذهانهم حتى أصبحت عقيدة آمنوا بها لتغيير الواقع السياسي، وهي فكرة التكفير لمن لم يحكم بما أنزل الله وكان نتيجتها حرب ضروس مع الإمام علي (رضي الله عنه). وكذا حديثاً ما تبناه سيد قطب من فكرة الطواغيت والجاهلية الحديثة ومنهج لا إله إلا الله وما نتج عنه من سجون ومعتقلات أدت في النهاية إلى إعدام هذا المفكر الكبير. وكذا فكرة «البعث» العربي وما آمن به ميشال عفلق ثم صدام من وحدة الأمة وإزالة حدودها المصطنعة، وما جرته على البلاد من غزو غاشم أثيم تبعه إعدامه بعد ذلك بأعوام. وفكرة جمال عبد الناصر عن القومية العربية، والتي قطعت بسببها العلاقات مع السعودية والتدخل في شؤون اليمن والوحدة البائسة مع سورية، وفتح المعتقلات للمخالفين والمعارضين، ثم موته مسموماً بعد ذلك، وفكرة الخميني عن تصدير الثورة وما جنته حرب العراق وإيران من قتل الأبرياء وتشريد الملايين... ذلك كله كان بسبب فكرة آمن بها أصحابها ورعوها حتى تفجرت!
الأمر الثالث هو تقييم الأداء وفقاً لآليات التقييم المنهجي والإحصائي للتعرف على إخفاقات العمل وإلى أي مدى تحققت أهداف تلك الكتل السياسية ومدى اتفاقها واختلافها مع الحكومة في خدمة الكويت.
تقييم الأداء يحتاج إلى معرفة الواقع بشكل واضح ودقيق من دون تأويله أو الالتفاف حوله إنما تقبله، كما هو، ثم محاولة التعامل معه وتغييره إلى الأفضل. تقييم الأداء يشمل كل ما في الكتل السياسية من عمل مؤسسي يتعلق بأداء أفرادها والهياكل الإدارية والتنظيمية والمالية ومصانع القرار والحركة الإعلامية فيها وغير ذلك.
باختصار، تحتاج الكتل السياسية قاطبة إلى محاسبة أفرادها ومراجعة أفكارها وتقييم أدائها. والكويت حكومة وشعباً تحتاج إلى قدرات وجهود تلك الكتل للحفاظ على مقدرات الدولة والوطن. ومع حركة الحياة وتقدم عجلة الأعوام لن يستمر في العطاء إلا العمل المنظم الدؤوب، وما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل. ولكل أجل كتاب.
د. مبارك الذروة
أكاديمي وكاتب كويتي
[email protected]