إشراقات النقد / انشطار عوالم الهوية في «ساق العرش» لمحمد المغربي (1 من 2)

محمد المغربي





| سعاد العنزي |
المبدع الشاب بعمره والكبير بفكره ومعرفته محمد المغربي، هو من جيل من الشباب الذين تجاوزوا الآفاق المطروقة، ليبحثوا عن الجديد، والمدهش، والغريب، والغامض، بعد أن أدركوا ان الإبداع يتخلق من عوالم غرائبية وعجائبية ومدهشة ومثيرة للجدل، عوالم مسكوت عنها، لم تطرق، ولم تفض بكارتها، تقرأ لمحمد المغربي فتجد أطيافا من الثقافات، والشخصيات التي بنت هرم الحضارة، فروح السياب تطل عليك، ورؤى الشعراء والأدباء، تتحلل في ثنايا انتاجه الأدبي، مما يوضح الثقافات المتعددة التي قرأها، واطلع عليها، ودار حولها، فأصبحت تدور حوله، مثل ظله، تتناثر من كلامه، وتشكل بصمته في الكتابة والتجريب، حمل نصوصه آفاقا من المرارة المتسربة إليه من الوجدان الجمعي، لأصحابه، وآبائه في الأدب، محمد المغربي، ينقل لنا مرارة ليست منبثقة من التجربة الشخصية وحسب بل هي متأتية من آلام، المفكرين والأدباء، الذين اختنقوا من انعدام الإنسانية، فرأوا الموت طبيبا لآلامهم، ورأوا، أن لا جدوى من الحياة، فانسلخوا عن عوالم البهجة، ليصورا عوالم الخيبة والمرارة التي تلاحق الإنسان أينما توجهت ركائبه..
وهذا واضح من عناوين دواوينه الشعرية « أخبئ وجهك في وأغفو» و«خارج من سيرة الموت»، ومدار الحكاية في روايته «ساق العرش»، التي تماست والمسكوت عنه في المجتمع الكويتي والمجتمعات العربية، ولعل أبرز إشكالية يتعثر بها قارئ الرواية، إنه يجد نفسه، موقع عدم الانحياز لأبطال الرواية، فلا أنت مع الشخصيات ولست بضدها، تحس بالخلل ولا تستطيع تحديد موضعه، رواية تتحدث عن شخصيات تعيش في مكان، وولاؤها لمكان آخر، تسكن في حدود جغرافية معينة، وتنتسب بالفكر والثقافة إلى بلدان وعوالم أخرى، تقتات من هذا الوطن، وتقدم الولاء لوطن آخر، فئة مغمورة في كل مكان، متزعزعة بين هنا وهناك، مشتتة لا تصل إلى قرار، رواية تتماس مع قضايا البدون، وغير محددي الجنسية، مثلما تتماس مع شخصيات أخذت الجنسية الكويتية حديثا، تنتمي لأصول عراقية، فيكون الغزو العراقي جرحا عميقا لها، ولأصولها التي تنتسب إليها، شخصيات مغمورة، متلاشية، ولكن على الرغم من هذا فهي شكلت ساقا للعرش، عرش الكويت، والعرش لا يستقيم من دونها، وإن كانت في آخر الرتبة الاجتماعية وفي القاع، إلا إن البنى الاجتماعية والسياسية لا تقوم من دونها، فهي كما يصورها السارد أحمد بحوار بينه وبين نفسه.
«سيدمرون العراق»
إشارة حمراء
«لماذا أنا؟! لي أربع أخوات أرى كيف يعشن حياتهن بعاديتها متآلفات منصهرات بعالمهن، إلاي أنتفض كلما مر ذكره، إلاي أشعر بالغربة والوحشة. مؤكد ثم خلل في دماغي!». (ص14-15)
هذا الفتى المتألم من تلاشي أصوله، يقدم الحكاية عبر لعبة سردية، تكمن في كنز ما، وصندوق، تحتفظ به الجدة، به مخطوطة، تحتاج إلى محقق يبحث في معانيها، ودوالها، وعن محقق وبروفيسور، يشتغل على فك الرموز، فيدخلنا الفتى معه في عالم التاريخ، الذي يريد أن يستمد هويته ووجوده منه، ومن مخطوطات مخبأة، لأنه باختصار مواطن إشكالي، فاقد الهوية الوطنية التي تنتسب للكويت، فهل يفلح في فك الرموز واكتساب هوية تضرب بجذور التاريخ، إن لعبة السارد في التحقيق هذه تأخذ حيزا كبيرا من الرواية، تجعلنا نعايش التاريخ المسكوت عنه، ونتساءل حقا عن تلك الدهاليز التي لم تكشف بعد، والمناطق المظلمة والحالكة من التاريخ، فما الذي حدث للخليفة المتوكل، وما حدث لبني العباس بعد هزائمهم، هل فروا إلى الكويت أم انتسبوا للعشائر العراقية، مخفين الأثر، إنها إشكالية، يفتحها لنا محمد المغربي، ولكن لا يعطي إجابة شافية لها فيشعر القارئ بالحيرة، والضياع،، المصاحبة لحيرة السارد وأصحابه، فالسر من يخص عمار أم أحمد، ولكن اللغز ينحل في الفصل الأخير من الرواية «غنائم فادحة» عند وصول الأمانة إلى أحمد ليكتشف الأسرار، ونسب العائلة، فيقول لزوجته عبلة:
«- معجزة، ورقة تخص نسب عائلتي، أخيرا ستكون عندي في غضون أيام...
- وواو ! كيف حدث ذلك؟
- هي موجودة في صندوق مذكراتي، احتفظ بها صديق عراقي طول هذه الفترة، وأمس كلمني ليعيدها لي». (ص172- 173).
هذه الرواية التي تتماس مع أكثر من هم وأكثر من وجع، ترصد لأرواح متلاشية وحزينة، تتحرك في أفق مظلم وحالك، وفي أحسن أحواله، رمادي، وشاية بعالم من الحذر التي تتقاسمه الشخصيات، بفضاء يتطلب من أكثر من قراءة، من مثل دلالة الأشياء، والألوان، والصوت السردي، الذي كان حافلا، ومتنوعا، وغنيا بأكثر من سارد... كلها جماليات وإشكاليات سنسلط عليها الضوء في الحلقة المقبلة.
* كاتبة وناقدة كويتية
[email protected]
المبدع الشاب بعمره والكبير بفكره ومعرفته محمد المغربي، هو من جيل من الشباب الذين تجاوزوا الآفاق المطروقة، ليبحثوا عن الجديد، والمدهش، والغريب، والغامض، بعد أن أدركوا ان الإبداع يتخلق من عوالم غرائبية وعجائبية ومدهشة ومثيرة للجدل، عوالم مسكوت عنها، لم تطرق، ولم تفض بكارتها، تقرأ لمحمد المغربي فتجد أطيافا من الثقافات، والشخصيات التي بنت هرم الحضارة، فروح السياب تطل عليك، ورؤى الشعراء والأدباء، تتحلل في ثنايا انتاجه الأدبي، مما يوضح الثقافات المتعددة التي قرأها، واطلع عليها، ودار حولها، فأصبحت تدور حوله، مثل ظله، تتناثر من كلامه، وتشكل بصمته في الكتابة والتجريب، حمل نصوصه آفاقا من المرارة المتسربة إليه من الوجدان الجمعي، لأصحابه، وآبائه في الأدب، محمد المغربي، ينقل لنا مرارة ليست منبثقة من التجربة الشخصية وحسب بل هي متأتية من آلام، المفكرين والأدباء، الذين اختنقوا من انعدام الإنسانية، فرأوا الموت طبيبا لآلامهم، ورأوا، أن لا جدوى من الحياة، فانسلخوا عن عوالم البهجة، ليصورا عوالم الخيبة والمرارة التي تلاحق الإنسان أينما توجهت ركائبه..
وهذا واضح من عناوين دواوينه الشعرية « أخبئ وجهك في وأغفو» و«خارج من سيرة الموت»، ومدار الحكاية في روايته «ساق العرش»، التي تماست والمسكوت عنه في المجتمع الكويتي والمجتمعات العربية، ولعل أبرز إشكالية يتعثر بها قارئ الرواية، إنه يجد نفسه، موقع عدم الانحياز لأبطال الرواية، فلا أنت مع الشخصيات ولست بضدها، تحس بالخلل ولا تستطيع تحديد موضعه، رواية تتحدث عن شخصيات تعيش في مكان، وولاؤها لمكان آخر، تسكن في حدود جغرافية معينة، وتنتسب بالفكر والثقافة إلى بلدان وعوالم أخرى، تقتات من هذا الوطن، وتقدم الولاء لوطن آخر، فئة مغمورة في كل مكان، متزعزعة بين هنا وهناك، مشتتة لا تصل إلى قرار، رواية تتماس مع قضايا البدون، وغير محددي الجنسية، مثلما تتماس مع شخصيات أخذت الجنسية الكويتية حديثا، تنتمي لأصول عراقية، فيكون الغزو العراقي جرحا عميقا لها، ولأصولها التي تنتسب إليها، شخصيات مغمورة، متلاشية، ولكن على الرغم من هذا فهي شكلت ساقا للعرش، عرش الكويت، والعرش لا يستقيم من دونها، وإن كانت في آخر الرتبة الاجتماعية وفي القاع، إلا إن البنى الاجتماعية والسياسية لا تقوم من دونها، فهي كما يصورها السارد أحمد بحوار بينه وبين نفسه.
«سيدمرون العراق»
إشارة حمراء
«لماذا أنا؟! لي أربع أخوات أرى كيف يعشن حياتهن بعاديتها متآلفات منصهرات بعالمهن، إلاي أنتفض كلما مر ذكره، إلاي أشعر بالغربة والوحشة. مؤكد ثم خلل في دماغي!». (ص14-15)
هذا الفتى المتألم من تلاشي أصوله، يقدم الحكاية عبر لعبة سردية، تكمن في كنز ما، وصندوق، تحتفظ به الجدة، به مخطوطة، تحتاج إلى محقق يبحث في معانيها، ودوالها، وعن محقق وبروفيسور، يشتغل على فك الرموز، فيدخلنا الفتى معه في عالم التاريخ، الذي يريد أن يستمد هويته ووجوده منه، ومن مخطوطات مخبأة، لأنه باختصار مواطن إشكالي، فاقد الهوية الوطنية التي تنتسب للكويت، فهل يفلح في فك الرموز واكتساب هوية تضرب بجذور التاريخ، إن لعبة السارد في التحقيق هذه تأخذ حيزا كبيرا من الرواية، تجعلنا نعايش التاريخ المسكوت عنه، ونتساءل حقا عن تلك الدهاليز التي لم تكشف بعد، والمناطق المظلمة والحالكة من التاريخ، فما الذي حدث للخليفة المتوكل، وما حدث لبني العباس بعد هزائمهم، هل فروا إلى الكويت أم انتسبوا للعشائر العراقية، مخفين الأثر، إنها إشكالية، يفتحها لنا محمد المغربي، ولكن لا يعطي إجابة شافية لها فيشعر القارئ بالحيرة، والضياع،، المصاحبة لحيرة السارد وأصحابه، فالسر من يخص عمار أم أحمد، ولكن اللغز ينحل في الفصل الأخير من الرواية «غنائم فادحة» عند وصول الأمانة إلى أحمد ليكتشف الأسرار، ونسب العائلة، فيقول لزوجته عبلة:
«- معجزة، ورقة تخص نسب عائلتي، أخيرا ستكون عندي في غضون أيام...
- وواو ! كيف حدث ذلك؟
- هي موجودة في صندوق مذكراتي، احتفظ بها صديق عراقي طول هذه الفترة، وأمس كلمني ليعيدها لي». (ص172- 173).
هذه الرواية التي تتماس مع أكثر من هم وأكثر من وجع، ترصد لأرواح متلاشية وحزينة، تتحرك في أفق مظلم وحالك، وفي أحسن أحواله، رمادي، وشاية بعالم من الحذر التي تتقاسمه الشخصيات، بفضاء يتطلب من أكثر من قراءة، من مثل دلالة الأشياء، والألوان، والصوت السردي، الذي كان حافلا، ومتنوعا، وغنيا بأكثر من سارد... كلها جماليات وإشكاليات سنسلط عليها الضوء في الحلقة المقبلة.
* كاتبة وناقدة كويتية
[email protected]