مقال / ماء الكتابة

تصغير
تكبير
| إبراهيم صموئيل |
في اعتقادي، ما من كتابة تقصد نفسَها فقط. على الدوام ثمة قراء في أعماق الكاتب... ثمة آخرون يقرؤون ما كتب، ولولا ذلك ما كان لأي كاتبٍ أن يدفع بما كتب للنشر والتوزيع، فهو إذ ينشر فإنما يقصد الآخرين ويتوجّه إليهم، سواء كان الآخرون من العامّة أو النخبة المثقفة، أو حتى فئة صغيرة محدودة من النخبة. وسوى ذلك، فإن قول كاتب ما - ينشر ما يكتب - إنه لا يكتب لأي آخر، وإنه ليس معنيّاً به، ما هو إلا على سبيل المجاز إن لم يكن من باب اللغو.
وعلى ذلك، فإن الكتابة - والإبداع بعامة - إن لم تتلقَ ردود فعل الآخرين ستكون أقرب إلى احتمال الذبول أو الاضمحلال. فالآخرون، قلة أو كثرة، هم ماء الكتابة وهواؤها. هم مناخها اللازم لحثِّ إمكاناتها على الظهور والتفتّح.
ولعل هذه المسألة تظهر بجلاء أكبر في المسرح بالذات، ذلك أن العمل المسرحي المعروض لنظّارة يشاهدونه في قاعة، وعلى نحو مباشر وحي، يكشف لنا الأهمية الكبرى لأثر المتلقي في العرض. ستتغير سوية أداء الممثلين، وحيويتهم، وتظهير إمكاناتهم الفنية وفقاً لسويّة التلقي لدى الجمهور، ولحيوية النظّارة، رغم أن النص هو نفسه، والممثل هو عينه: أي أن طاقاته وإمكاناته وحرفيته وإبداعه هي نفسها قبيل وقوفه على الخشبة أو بُعيد ذلك. إن كثافة حضور الجمهور وتشجيعه وتفاعله يُفتّح تلك الطاقات والإمكانات ويفجّرها حتى بما يفاجئ الممثلَ نفسه فيقول: «لقد تفوّقت في عرض الليلة هذه على نفسي حقاً!».
تألُّق الممثل في عرض معين هو هدية مشاهديه له، هو «العقار المنشّط» - إن جاز التعبير - ليس المسموح بتناوله من قِِبل الممثل فحسب (على عكس الرياضيين) بل المطلوب له. فقلة عدد الحضور في الصالة أو ضعف تفاعلهم أوتدني مستواهم الفني الثقافي من شأنه الهبوط بأداء الممثل مهما كانت إمكاناته عالية في الأساس، وقد تحدّثت دراسات كثيرة في هذا الشأن.
لهذا يُقال في الرياضة إن الجمهور هو لاعب إضافي يؤازر اللاعبين على أرض الملعب، بل كثيراً ما شُوهد رياضي يتوجّه إلى المشجعين حافزاً إياهم على التصفيق والهتاف والتشجيع كي يزداد نشاط اللاعبين ويتدفق عطاؤهم الفني فيتمكّنوا من الإبداع مزيداً والفوز بالتالي.
العرض المسرحي يتضمن - حُكماً - جمهوراً أو نظّارة يشاهدونه. من دون هؤلاء تنتفي صفة العرض. في الأجناس الأدبية الأخرى كالقصة والرواية ثمة قراء محتملون في ذهن الكاتب، لو خلا ذهن الكاتب من القراء المحتملين لما نَشَرَ ما كتب. صحيح أن القراء هنا وردود الأفعال لديهم تأتي تالياً على النشر بمسافة زمنية تطول أو تقصر، غير أن الكاتب ينتظرها بلا شك. وحين تأتي ضعيفة، لأسباب غير إبداعية النص (وهي عديدة) فإنها ستؤثر سلباً على المبدع، وستخلّف درجة من الإحباط فيه. وليس عبثاً أن التطييب للمطرب يجعله يجود مزيداً ويُجوِّد غناءه وأداءه.
من هنا أرى في العلاقة الصميمة بين ممثل المسرح والجمهور أمثولة للعلاقات بين مختلف المبدعين - على تنوع نشاطاتهم الإبداعية - ومختلف المتلقين لإبداعاتهم. وهذا لا يتعارض مع القول إنه قد يستمر مبدع في عطائه لسنوات طوال رغم ظلم تقدير يحيق به، أو تعتيم إعلامي ينوب إنتاجه، أو تجاهل ينيخ على أعماله... غير أن إبداعه سيكون أقرب إلى الذبول، أو الهمود، أو فقدان الألق والتوهّج، أو إلى التوقف عن الاستمرار نهائياً، وفي ذلك خسارة كبيرة لنا، نحن المتلقين، وحيف ماحق للمبدعين في مختلف الحقول.
بلى... ما من إبداع يقصد ذاتَه فقط، وإِنْ نحّى المبدع جمهورَه جانباً في لحظة الولادة، غير أنه سيعود إليه بعد إنجاز عمله ويترقّب ردود فعله تماماً كما يترقب الممثل المسرحي، من خلف الستارة، عددَ الحضور، فتُشحذ همته، أو تهمد.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي