اجتاز الباب الشاهق، المصري الصميم، عليه الشمس المجنحة، دائما الواجهة المهيبة الشاهقة عند المداخل المؤدية.. أنها تفصل بين عالمين، العالم الخارجي الذي تدور فيه الحياة اليومية، وداخل المعبد... حيث تندرج الروح في الصعود، لكن قبل أن نلج العالم الداخلي للمعبد، ونحاول النفاذ إلى أسراره ورموزه... لنتوقف عند تاريخه، مستمدين تفاصيله من كتاب جميل «مركز» للدكتور عبدالحليم نورالدين عنوانه «مواقع ومتاحف الآثار المصرية».يقول العالم الكبير: إن دندرة تقع على الضفة الغربية شمال قنا بخمسة كيلو مترات، عرفت في النصوص المصرية باسم «تانترت» أي «الإلهة»... إشارة إلى ربة الجمال والخصب والحب «حتحور»، والتي أصبحت في اليونانية «تنتيرس» وفي العربية دندرة.كانت عاصمة الإقليم السادس من أقاليم مصر العليا، ورد اسمها في الأساطير المصرية الموغلة في القدم على اعتبار أنها كانت مسرحا لإحدى المعارك التي دارت بين حورس إله إدفو، زوج حتحور إلهة دندرة، وبين ست إله الشر وقاتل أوزير والد حورس.ترجع أصول المعبد الأولى إلى الأسرة الرابعة... حيث شيد الملك خوفو معبدا في هذا المكان جرى ترميمه وإحداث بعض الإضافات فيه في عهد الملك بيبي الأول من الأسرة السادسة، وإلى الجنوب من المعبد عثر على جبانة منقورة في الصخر، بعضها لحكام المقاطعة، استمر الاهتمام بدندرة في الدولة الوسطى، وازداد في الدولة الحديثة... حيث ساهم في ضيافة المعبد كل من تحتمس الثالث وتحتمس الرابع ورمسيس الثاني ورمسيس الثالث.أما المعبد الحالي فيرجع إلى العصرين اليوناني والروماني، بدءا من عهد بطليموس التاسع «سوتير الثاني» الذي حكم في عام 116 ميلادية، وانتهى في عهد الإمبراطور الروماني تراجان في عام 117م.تضم المنطقة إلى جانب المعبد الرئيسي السور، ومعبد الولادة الإلهية الذي بدئ بتشييده في عهد الملك نخت نبف الأول من الأسرة 30، ومعبد الولادة الثاني الذي شيد في عهد أغسطس، ومنشأة تحولت إلى كنيسة ومصحة للاستشفاء، ثم هناك معبد الإلهة إيزيس والبحيرة المقدسة ومقياس النيل.ويعتبر معبد دندرة آية في العمارة، ومثالا فريدا في الفنون وكتابا شاملا للفكر الديني المصري في هذه الفترة، إضافة إلى أنه من أحسن المعابد المصرية حفظا، تحوي جدران المعبد الخارجية والداخلية مئات المناظر والنصوص المهمة التي تلقي الضوء على المعتقدات الدينية، وما يتميز به المعبد كمنشأة كثير، وكذلك بالنسبة للمناظر والنصوص.وسأكتفى بالإشارة إلى التيجان الحتحورية الرائعة ومناظر الأبراج السماوية التي تزين سقوفه وأسطورة اتحاد حتحور مع قرص الشمس ومقصورة الإلهة نوت «إلهة السماء» التي لم تمثل في أي أثر بمصر كما مثلت في هذا المعبد، والقبو «الممرات المنقورة تحت مستوى أرضية المعبد» الذي كان مخصصا لحفظ أدوات الطقوس الخاصة بالإلهة حتحور، ثم الدرج المؤدي إلى سطح المعبد والذي يشيع الرهبة في نفوس الصاعدين، وعلى سطح المعبد نرى مقصورة اتحاد حتحور بالشمس، والزودياك أول رسم لأبراج السماء في تاريخ الإنسانية، ويستقر الآن في متحف اللوفر، ويتميز المعبد أيضا بأن أحد جدرانه الخارجية يتضمن منظرا فريدا في مصر كلها.. ذلك الذي يمثل الملكة كليوباترا السابعة وابنها قيصرون.هكذا رأى الدكتور عبدالحليم نورالدين معبد دندرة، وهذا ما كنت أستعيده في ذهني قبل زيارتي تلك التي تعد الرابعة من مرات ترددي على دندرة.في الساحة الخارجية لمعبد دندرة تطول وقفتي، هكذا كلما جئت إلى هذا الموقع الفريد من مصر، كتلة المعبد المهيبة في المواجهة، تحيطها الطبيعة شديدة الخصوصية للصعيد.. «النخيل، الأشجار الخضراء، الأراضي المزروعة»... يقف المعبد عند الخط الفاصل بين الزراعة والصحراء، بين الخصوبة والجدب، بين الحياة والموت.هنا يمكن رؤية تلك الثنائية في الطبيعة المصرية التي كانت أساسا لتأصل المصري القديم في الحقائق الأزلية، هنا يمكن للإنسان أن يقف، قدم في الأرض المزروعة الخضراء، وأخرى في الصحراء المجدبة.تظل الأحجار لا النقوش صامتة، حتى إذا ألم الإنسان بظروف بنائها أو رسمها وموقعها من التاريخ والزمن فإن النبض يسري والصمت يتبدد، ينتمي معبد دندرة إلى مرحلة كانت الحضارة المصرية التي امتدت لأكثر من أربعة آلاف عام مكتوبة ومدونة تتأهب للرحيل، كانت تذوي وتحتضر، بعد الضربات التي تعرضت لها البلاد إثر قيام اخناتون بثورته الفكرية والدينية الغامضة، والتي كانت أول شرخ عميق في بنية الحضارة والرؤية المصرية للكون.وهذا حديث يطول لنا عودة إليه، بعد هذه الثورة بدأ الانحدار وسرى الضعف وتجرأت أقوام وشعوب صغيرة من الجنوب والغرب والشرق، وأخيرا جاء الغازي المحتل الإسكندر المقدوني، الذي أسس دولة البطالمة، وهكذا حكمت مصر أسرة أجنبية، سلالة جاءت من بعيد، صحيح أنهم خضعوا لمضمون مصر الروحي ولنظامها الاجتماعي، فارتدى الإسكندر المقدوني رداء وشارات الفراعنة، ومضى إلى معبد آمون في سيوة، لينافق الكهنة ولينافقوه، ليأخذ منهم الشرعية التي تمكنه من حكم مصر، ويؤسس بالتالي حكم البطالمة الأجنبي.وقعت الفجوة، واتسع الشرخ في البنية المادية والروحية والسياسية، لآلاف السنين لم يحتل عرش مصر إلا فرعون مصري، سليل عرش حورس ابن أوزير المقدس، ولكن البطالمة «ورثة الإسكندر»... لم يكونوا مصريين، إنما تمصروا، وعندما قبلتهم مصر كانت تكتب بذلك أول السطور في وثيقة استسلام الحضارة العتيقة، وبدء تبددها، والحق أنها كانت منهكة.وكان قد سبق اعتلاء عرش مصر ملك أصله حبشي، وآخر أصله ليبي، صحيح أن المضمون الروحي لمصر كان من القوة والعمق... بحيث فرض نفسه على هؤلاء الأغراب، وقبل اكتشاف أسرار اللغة المصرية القديمة، لم يكن ممكنا لأي إنسان أن يعتبر معبد دندرة إلا معبدا مصريا خالصا بكل رموزه، ونقوشه، وأسلوب بنائه، ولكن بعد فك الطلاسم والرموز، تم تحديد الفترة التاريخية التي أقيم فيها هذا المعبد المكرس للإلهة حتحور، ربة الحب والجمال، زوجة حورس الذي كرس له معبد أدفو في الحقبة البطلمية نفسها.نحن إذا إزاء بناء تم تشييده في مرحلة دقيقة لها خصوصيتها، مرحلة الاقتراب من النهاية، فقد خضعت مصر وقبلت حكامها الأجانب القادمين من الشاطئ الآخر للبحر، خضعت مرغمة، منهكة، ولذلك يعتبر هذا المعبد بمثابة انتفاضة روح تميل إلى غروب.يقول شامبليون في مذكراته خلال رحلته إلى مصر: إن نقوش دندرة تبدو ركيكة، وهذا صحيح إذا قورن بينها وبين نقوش المعابد الأخرى التي شيدت ومصر في ذروة عافيتها واستقلالها، مثل: «ابيدوس، والدير البحري»، لكن بنظرة فاحصة، مدققة، سنجد أن الفنانين الذين كانوا ينقشون جدران المعبد، سواء من الخارج أو الداخل، أو في الأقبية الممتدة تحت البناء، كانوا يستنفرون كل مقومات وتقاليد الفن المصري الذي كان قرينا للعبادة، وتعبيرا روحيا عن عقيدة مستقرة لآلاف السنين، بدأت تتزعزع ركائزها.لذلك يبدو المعبد بعمارته الشامخة محاولة نبيلة، لترسيخ هذه الحضارة ورموزها في مواجهة الحكام الأجانب، خلفاء الإسكندر الغازي، حتى لو ارتدوا رموز الفراعنة، وشيدوا المعابد لرموز العقيدة المصرية القديمة.
محليات - ثقافة
الأماكن / رهبة دندرة... «2 من 2»
09:14 ص
|جمال الغيطاني|