مثل لعبة في يد طفل، يبدو مصير الإنسانية الآن في يد تجار الحروب، أصبحت الكلمة العليا للأصوليين، هنا وهناك، في العالمين العربي والغربي. وكل له مبرراته ومنطقه، لكنه في النهاية منطق لا يعترف بالحوار، يتحدث بالسلاح وهدفه الوحيد الموت والدمار.ومع اتساع رقعة الحروب يومياً، تأتي الدعوات إلى السلام خافتة الصوت، الانفجارات والقتل المجاني يدمر الفرص كلها، واحدة وراء الأخرى، وإن لم يقف الجميع بلا استثناء في وجه هذا ستأتي لحظة تجرف فيها الرغبة الجنونية في الانتقام كل شيء.هذا الكتاب «السلام أولاً - تحديث مسارات السلام»، والذي تنشره «الراي» مسلسلاً، يكتسب أهميته من أنه يأتي من قلب واحدة من أكثر المناطق في العالم المسببة لدوامات من النزاع تمتد إلى كل مكان، فهناك اتفاق شبه كامل بين جميع المفكرين والسياسيين العالميين على أن حل القضية الفلسطينية هو الخطوة الأولى نحو سلام عالمي، وأن كل ما يتم متجاهلاً هذا لا قيمة له على أرض الواقع.الكتاب من تأليف أوري سافير وقام على ترجمته بدر عقيلي ويصدر عن دار الجليل للنشر بالأردن، ومؤلفه بالإضافة إلى أنه شغل منصب أمين عام وزارة الخارجية من عام 1993 حتى عام 1996، فقد رأس الوفد الإسرائيلي في مفاوضات أوسلو، غير أن كتابه هذا ليس مجرد شهادة عن ذلك الحدث، ولا هو بالأوراق التي تكشف كواليس ما دار بين الفلسطينيين والإسرائيليين والأميركيين، الكتاب يحاول تقديم رؤية مختلفة لما يجب أن تكون عليه عملية السلام، منطلقا من أنه لم يعد هناك خيار آخر، مشيرا إلى ما على إسرائيل التعامل معه بعد انهيار قدرتها الخارقة في الحرب اللبنانية الثانية، ومع التورط الأميركي في العراق الذي يعيد التذكير بفيتنام.يطالب سافير بإعادة النظر في آلية السلام التي لم تتغير منذ القرن التاسع عشر، يؤكد على ضرورة تطويرها، اتساقا على الأقل مع التطور الذي حدث في وسائل الحرب، ومع العولمة التي فككت شكل الدولة وقدراتها.غير أنه ومع الملاحظات اللافتة التي تتناثر على طول فصول كتاب سافير، ومع ضرورة التفاعل معها، إلا أن أسئلة عدة تظل أيضاً في حاجة إلى إجابة: هل اقتنعت إسرائيل أخيراً بأن عملية السلام هي الحل الوحيد، أم أن هذا الكتاب لا يمثل سوى وجهة نظر مؤلفه؟ والسؤال لا يثيره فقط صلة المؤلف بالحكومة الإسرائيلية إنما أيضاً لأن إسرائيل تعتمد في رسم سياستها الخارجية، مثل أميركا، على مجموعة من المؤسسات والأكاديميين، فهل يأتي الكتاب في هذا التوقيت لهذا السبب؟ وهل نعتبر أن إسرائيل قد آمنت بالفعل بالسلام أم أن الأمر لا يعدو كونه سياسة مرحلية لمواجهة ما يسميه الكتاب «الإرهاب»، وما هو مصير الدولة الفلسطينية وفق هذه الرؤية؟ والسؤال الأبعد بخطوة هل هذا الإيمان المفاجئ بالسلام إسرائيلي فقط أم يشمل أيضاً الحليف الأهم...أميركا؟ وهل الكتاب يمثل رسالة إلى الداخل الإسرائيلي؟ أم إلى الشريك الفلسطيني والعربي؟تلك الأسئلة وغيرها يثيرها الكتاب، لهذا فهو في حاجة إلى قراءة مدققة وتحليلية من قبل السياسيين والمفكرين العرب.
ليس هناك زعيم عربي يملك قدرة السادات على إقناع الإسرائيليين بالسلام
منهجية تطوير بيئة السلام داخل النزاع لابد أن تمضي على النحو التالي: أولاً، يجب التخلص تماماً من الأجواء الصعبة للنزاع والحرب. ففي حالة النزاع يفقد العدو صفاته الإنسانية، ولا يتم الحفاظ على المساواة في الحقوق، ومن الصعب عدم اعتبار العدو السابق مجرماً. وفي روايات النزاع، يحرص كل طرف على أن ينسب لنفسه المعاناة والعدل، ذلك في إطار الدفاع عن النفس، واصفاً الطرف الآخر بالمعتدي. وهناك حالات يبدو فيها جميع الأطراف على حق وتستحق الأمن والعقاب. إن صيغة بيئة السلام تقوم على المساواة، وتتولد من إحساس تبادلي منطقي تجاه الطرف الآخر، فالطرفان يفتشان عن معايير متساوية من العدالة والأمن والازدهار التي يستحقانها، ومن دون هذا الإحساس من المساواة والذي يجب أن يضع حداً لصورة الشيطان التي نضفيها على الطرف الآخر من النزاع، لن يكون بالإمكان حل النزاع. يجب على المنطقة المحيطة بقلب النزاع أن تشارك في جهود إحلال السلام، والعمل من أجل حل النزاع. ومن الجدير بالذكر أنه ومنذ انتهاء الحرب الباردة وإلغاء أجهزة التنافر التي كانت قائمة ولدت اتحادات جغرافية بناء على التعاونين الاجتماعي الاقتصادي وما زالت تواصل تطورها حتى اليوم. دوفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، دخلت أوروبا في حالة مصالحة واتحاد في منظومة واحدة، الاتحاد الأوروبي، وفي عام 1967 تم تشكيل اتحاد دول جنوب آسيا بغية تحسين التعاون الديبلوماسي والاقتصادي والعمل على استقرار المنطقة، أما في الشرق الأوسط، ورغم عقد مؤتمر مدريد عام 1991 بغية إجراء مفاوضات ثنائية، إلا أنه لم يتم التأكيد على تعددية الأطراف بما فيه الكفاية. إن عملية التغيير الجوهري على هذا الصعيد يمكنه أن يتم بوسائل مختلفة، الزعامة: يتوجب على الزعماء في مسيرة السلام أن يأخذوا على عاتقهم مهمة تثقيفية تربوية. وكل من يشارك في نقاشات حقيقية لوقف النزاع يجد أن لزاماً عليه أيضاً استخدام أساليب تؤثر على تطلعات ناخبيه من وجهة نظر قياسية وألايركز فقط على الجدوى. إن الزعماء هم اللاعبون وهم أصحاب أكبر قوة على صعيد بشرى السلام، ويجب عليهم أن يعملوا على إحداث تغيير في أسس الواقع القائم، وفي الصورة التي رسمت للعدو سابقاً.
السادات وعرفاتفصاحة: يعتبر طابع الحوار بين الزعماء السياسيين مهما، ويجب خلال المفاوضات التحدث بصورة «نحن ونحن» وليس «نحن وهم»، وهي اللغة الموجهة إلى الجماهير، ولا أعتقد أنه كان هناك زعيم يفوق الزعيم المصري أنور السادات في مقدرته على إقناع الإسرائيليين بتطلعاته المتعاطفة تجاه احتياجاتنا، وياسر عرفات لم يكن يملك الفصاحة التي كان يملكها السادات. إن ضرورة تغيير اللهجة الخطابية هو مطلب أساسي في خلق بيئة السلام.الإعلام: إن التغطية الإعلامية للأحداث يمكنها أن تبني رأيا عاما إيجابياً للسلام، ويمكنها أيضاً أن تدمره، ولا يستطيع صانعو القرار بأي حال من الأحوال السيطرة عليها، هذا رغم أن بمقدور العاملين على إحلال السلام التأثير بصورة منهجية على الفحوى الإعلامية، ومن ثم فإن المعلومات الإخبارية والأفلام الوثائقية أو الأفلام التي تتعرض للوضع الصعب الذي يعيشه الطرف الآخر شديدة الأهمية، ولا شك أن هناك أهمية كبيرة لتشجيع كتابة المقالات المشتركة، والمقالات التي تتعلق بالمعاناة التي يعيشها الطرفان وتتعلق بالتعاون الشعبي، أما الأخبار السيئة فهي ليست في حاجة لمن يبرزها، فهي تبرز وحدها.
الضغطقرر مركز بيريز للسلام إنتاج فيلم مشترك لمخرجين إسرائيلي وفلسطيني، وقد عثرنا بسهولة على موضوع للفيلم في صورة «الضغط»، إن الضغوط الآخذة في التصاعد خلال النزاعات، تكلف الطرفين ثمناً باهظاً، ولا شك أن هذه الخاصية هي خاصية مشتركة، وإن كانت تبرز في المجتمعين بصورة مختلفة. لقد ذكرتني النقاشات مع المخرجين سامي طت، ورشيد مشهراوي والمنتجين ذكرني بقسم من نقاشات المفاوضات الشديدة جداً التي شهدناها مع ممثلي منظمة التحرير في أوسلو، فالمخرجان الإسرائيلي والفلسطيني تنافسا حول من يستطيع إبراز عمق المخاوف في أوساط شعبه وقللا من إبراز التعاطف مع معاناة الآخر كي لا يقوم كل مجتمع من المجتمعين بمهاجمتها وانتقادها. ورغم ذلك، وبعد ليال طويلة من النقاشات توصلنا إلى إنتاج مشترك لفيلمين قصيرين، وبصورة طبيعية كان الفيلم الفلسطيني في غالبيته صامتاً، وقد نقل صوراً لوجوه مرهقة للأشخاص الواقفين في ذلة أمام الحواجز بين القطاع وإسرائيل، هذا في حين أن الفيلم الإسرائيلي كان يغص بالثرثرة الهستيرية لسائق سيارة تاكسي مع ركاب سيارته في أحد الأيام التي قام فيها انتحاري فلسطيني بقتل أحد طلبة المدارس الدينية في القدس، ورغم ذلك كانت هناك قواسم مشتركة بين الفيلمين: فقد سيطر الرعب والضغط على الأشخاص الموجودين في المنطقة. بث التلفزيون الفلسطيني والإسرائيلي فيلم «الضغط» وكذلك بثته وسائل الإعلام العالمية، ولا شك أننا كنا قادرين على إنتاج العديد من الأفلام لو أنه تم إنشاء صندوق لتغطية إنتاج هذه الأفلام أو بناء محطة تلفزيون للسلام، بيد أن كل هذه الجهود ذهبت أدراج الرياح نظراً لأن التلفزيون، ووسائل الإعلام المهمة لم تكن مؤهلة لتحويل أنفسها، ولو بشكل جزئي، إلى قنوات سلام. التعليم: النزاعات تخلق مجموعات قيم مسمومة، والتي تتم تغذيتها منذ البداية مع حليب الأمهات، بكل ما يعنيه ذلك من معنى: ثقافة عدائية، إلحاحية وتكرار، تهم متبادلة، وعنصرية تبدو جلية خلال النقاشات الاجتماعية، وكل هذه العوامل يتبناها حتى الأولاد الذين يعيشون هم أيضاً صدمات نفسية من الحروب والضياع. وإذا كان لا يزال هناك أمل في السلام في منطقتنا، فإن هذا السلام يجب أن يقوم على تثقيف الأولاد والشبيبة للسلام. ويجب التأكيد في هذه العملية الثقافية على عالمية الشبيبة، رغم الفوارق اللغوية والتربوية والأنماط، ويجب أن تقوم التجربة والمشاركة في أحاسيس معينة، مثل إدارة الحوارات التاريخية على أن تكون جزءاً من البرامج التعليمية الرسمية وغير الرسمية. وهناك عامل تثقيفي آخر في بيئة السلام يرتبط بالاحترام المتبادل وحقوق الإنسان، ففي حالات النزاع تصاب حقوق الإنسان، بشكل عام، بأضرار أولاً بين الأعداء، ثم بعد ذلك جراء تداعي القيم الإنسانية داخل المجتمع نفسه. إن التثقيف تحت مصطلح المساواة، رغم الاختلافات، هو أحد العوامل المهمة في بيئة السلام. إن دعم المساواة ومنح الحقوق للأقليات، والمساواة بين الجنسين وحقوق الإنسان الأخرى بين الأعداء السابقين ترتبط بوقف عمليات التشويه للآخرين، يجب على المستوى الأخلاقي الرفيع لقيم الإنسان أن تدافع عن نفسها في مواجهة شياطين الماضي، يجب على أولئك الذين يعملون على بلورة الرأي العام أن يستبدلوا تلك الشياطين ببرامج أخلاقية أقل انتقاداً. إن عملية تغيير القيم الاجتماعية لا تحدث بصورة تلقائية، تماماً مثل نتائج مسيرة السلام.
السلام العصري هناك أهمية كبيرة إبان محاولتنا خلق أجواء تعايش سلمي أن نتطرق للعامل الديني، ولأسفنا البالغ، فإن الدين يشكل في الشرق الأوسط أرضاً خصبة للمتعصبين والراديكاليين لتجذير أيديولوجية كراهية الأجانب والغرب، وللحض على ممارسة العنف، إن المشكلة لا تكمن في الدين نفسه، بل تكمن في الزعماء الدينيين السياسيين الذين يعينون أنفسهم ناطقين باسم الله ويشوهون الدين لصالح القوميات الضيقة. وكي نتمكن من تحييد تأثيرهم المدمر، إضافة إلى محاربة الإرهاب، يمكننا استخدام السلام العصري الذي يركز بشدة على الحوار بين الأديان، بين رجال الدين من التيارات المركزية للأديان الثلاثة الموحدة، مع تفهم أن الإسلام والمسيحية واليهودية ليست أديان متطرفة، بيد أن هناك أبواقاً متطرفة. إن غالبية الجماهير، وفقاً لاستطلاعات الرأي العام، معنية بالتعايش السلمي. والحوار بين الأديان يمكنه أن يشمل ممثلين من إسرائيل والمغرب وتونس وغيرهم، وفي إطار ذلك نقترح إقامة مركز أديان في الشرق الأوسط، وربما في القدس، بغية إثارة الحوار وإعداد أبحاث تتعلق بالدين وقيم السلام. الرأي العام: يجب على النخبة السياسية لكل طرف أن تنخرط في حملة إعلامية للسلام من أجل التأثير على الرأي العام، والقضايا ذات الأهمية الأقل يجب أن تكون خاضعة لهذه الحملة بما فيها انتخاب السياسيين والنشاطات الجارية لصالح سياسة الحكومة، أما قضايا الحياة والموت مثل السلام، فيجب العمل على دفعها إلى الأمام علناً، ليس فقط عبر السياسات التي تحظى بوحيها من جدل المعارضة، بل أيضاً عبر الحملات الإعلامية القائمة على القيم الخاصة بتحسين مسيرة إحلال السلام.
نحن... بالعربية والعبريةناقشت اللقاءات الأولية مع ممثلي منظمة التحرير اللقاء الرسمي الأول بين إسرائيل وبين ممثلي المنظمة بإمكانية تفعيل «خطة إعلام سلمية» لقد بدأ الأمر في تلك الآونة أمراً طبيعياً ومهما في مسيرة السلام. بيد أن الزعامة السياسية لم تترجمه إلى واقع. لقد كان علينا الانتظار اثني عشر عاما حتى عام 2005، حتى تم إعداد مثل هذه الحملة الإعلامية برئاسة موريس ليفي رئيس مجموعة بوبلييس العالمية، والذي يعتبر ساحراً في العلاقات العامة وعلى اطلاع على المستجدات العالمية، وقد حملت الحملة عنوان: (?????) أي نحن باللغتين العربية والعبرية، وهذا هو الأساس لأي حوار، وليس نحن وهم. إن بيئة السلام تتأثر بجميع العوامل التي تؤلف مسيرة السلام وهي رهن بطابع العلاقات مع العدو السابق. إن تحسين السلام والتعايش بصورة تتناسب والبيئة يتطلب انتهاجا إستراتيجيا يقوم على العوامل أنفة الذكر. بناء السلام هو الصلة بين المجتمعات والتي تتجسد في صورة تعاون واتصالات في جميع المناحي: الديبلوماسية، الاقتصادية، الثقافية والاجتماعية. وعندما ينتقل مجتمع معين من حالة النزاع إلى حالة السلام، سيتوجب عليه بناء جميع مناحي التعاون، حتى تلك المناحي الأكثر الحاحية، بغية دفع الأمور باتجاه الفهم المتبادل بأحسن الصور، والعمل من أجل الجدوى المشتركة الكامنة في مسيرة إعادة البناء والترميم للمنطقة التي كانت غارقة في النزاعات. ومما لا شك فيه هو أن اقتصاد الدول التي كانت في السابق غارقة في النزاعات، يكون بصورة عامة متضرراً جداً، وهذا إذا لم يكن مدمراً. فالبنى التحتية قد دمرت ولا توجد مؤسسات منظمة قادرة على معالجة مشاكل المجتمعات المفككة، والمواطنين الذين تم انتزاعهم من أماكن سكناهم، وبأعداد اللاجئين الأخذة في التزايد، والميزانيات الأمنية، الكبيرة جداً مقارنة بالميزانيات المخصصة للقضايا الاجتماعية. وفي الكثير من الحالات تعاني الحكومة من الفساد، إن انتقال دولة من النزاعات إلى السلام يجب أن ينعكس على اقتصادها: يجب استبدال اقتصاد الحرب باقتصاد السلام عبر إقامة مؤسسات خاضعة للرقابة ومسؤولة وهو الوضع المطلوب من أجل تحريك السلام في الدولة. ويتم تحديد اقتصاد الدولة الغارقة في النزاعات بصورة أساسية على أيدي مؤسساتها الأمنية والتي قد تسهم في المعرفة التكنولوجية للمجتمع، لكنها ستمس وتلحق أضراراً باللحمة الاجتماعية للاقتصاد، وعلى وجه الخصوص بالفوارق الاجتماعية والاقتصادية.
تأهيل الجماهيرينبغي أن نحرص على أن تتضح ثمار السلام من الأسفل وتتجه نحو الأعلى وتترجم إلى مبادرات، مثلها كمثل خطة عملاقة لخلق أماكن عمل كثيرة، وتقدم خدمات اجتماعية متطورة، ومستوى مساواة أكبر في الجهاز التعليمي. ويتوجب على برامج ومخططات التطوير المهمة أن تتطرق لعدة مناحي: تأهيل النازحين واللاجئين وتأهيل جماهير متضررة وأولاد جنود. تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية عبر الدمج بين المدينة والقرية: هناك عدد كبير جداً من المواطنين الذين يسكنون في ضواحي المدن، وهذه الضواحي تتحول في نهاية المطاف إلى أحياء فقيرة، وفي هذه الحالة فإن التطوير البلدي الجزئي يكون فعالاً على أن يشتمل على الخدمات الاجتماعية المطلوبة، هذا عداك عن أن عدداً كبيراً من الجنود المتقاعدين يسكنون في هذه المناطق الأمر الذي يؤكد على أهمية عملية ترميم هذه الأحياء. التشديد على تطوير الأطفال حتى السادسة من العمر، وهي الأعوام التي تعتبر حاسمة لرفاهية وتطور الأطفال، خصوصاً في كل ما يتعلق بالتغذية والصحة نظراً لأن الدول التي كانت غارقة في النزاعات في الماضي في حاجة لإعادة ترميم وبلورة اقتصادها من جديد في أسرع وقت ممكن، فإن أهم القرارات التي يتوجب على الحكومات اتخاذها، من وجهة نظر مسيرة السلام، تتعلق بالعلاقات الاقتصادية التي يجب إقامتها بين الأعداء السابقين وبين المجتمع الدولي. ويمكننا ترسيم عملية إحلال السلام وعملية بناء السلام على هذا الصعيد بواسطة مثلث اقتصادي: الدول المتنازعة هي ضلعي المثلث، والمجتمع الدولي هو قاعدته. والمجتمع الدولي يعالج مشاكل الدول المتنازعة كل واحدة بمعزل عن الأخرى بغية تحسين التطوير والنمو الاقتصادي، لكن ودون العمل الاقتصادي المشترك سيتم إضاعة الكثير من الفرص الخاصة بتعزيز فرص السلام. وبناء عليه، فإن العمل داخل المثلث الاقتصادي يجب أن يشمل عدة عوامل هامة لبناء السلام: مشاركة صندوق النقد الدولي في السياسات المالية مع وزراء المالية. إعطاء مساعدات دولية للأعداء السابقين بغية خلق مشروعات مشتركة، وهذه المشروعات تجلب فوائد مشتركة وقوة اقتصادية خصوصاً في كل ما يتعلق بالبنى التحتية. وبمقدور برامج التطوير التابعة للأمم المتحدة، والبنك الدولي أن تكون عاملاً مساعداً في هذه القضية. خلق أجهزة مالية إقليمية أو أقل من إقليمية من أجل أن تؤدي إلى تقديم مساعدة في تمويل المشروعات وللتخطيط الاقتصادي المشترك. تشجيع دولي للمشروعات التي تتجاوز الحدود، مثل السياحة، والمناطق الصناعية، ومناطق التجارة الخاصة ومحطات الطاقة. إن الحدود الاقتصادية قادرة على تحسين الأمن أكثر مما تفعله الأسلاك الشائكة. تقديم مساعدات دولية، وتخصيص التمويل المطلوب لجذب استثمارات من القطاع الخاص على جانبي الحدود للدول المتنازعة، بما فيها البنى الصغيرة والأبحاث القابلة للتطبيق، والتوجيه والتسويق وتطوير منظومة قوانين وبشكل خاص استخدام فعال بآليات إدارة المخاطر الدولية التجارية السياسية.اتفاقيات تجارة حرة بين الأعداء السابقين، وبينهم وبين المجتمع الدولي، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تخصيص جزء كبير من الأموال من أجل التعاون المهني، ولتقديم مساعدات فنية لبناء قدرات مشتركة بين الأعداء السابقين، ومن الجائز أن هذا الجانب هو أهم جوانب مثلث بناء السلام الاقتصادي.
شهر العسلومن الجدير بالذكر أنه وحتى في بداية مسيرة أوسلو في الأيام الأولى من شهر العسل الفلسطيني الإسرائيلي القصير، لم يخصص المجتمع الدولي أي مبالغ لصالح التعاون الإسرائيلي الفلسطيني من مبلغ العشرة مليارات دولار التي منحت كمساعدات للطرفين. ولو أنه تم استثمار نسبة 25 في المئة فقط من هذه المبالغ في التعاون الاقتصادي ربما لتغيرت المسيرة برمتها، بيد أن موظفي المساعدات يعارضون بصورة عامة تقديم مساعدات من هذا النوع نظراً لأنها تمس بالمشروعات الثنائية التي تعتبر بمثابة سفينة اللواء. ومن المفروض أن تكون بنية السلام الاقتصادية مهيأة للاتصال بين المواصلات والكهرباء والمياه، والاتصال مع المستثمرين الذين لم يستثمروا أموالهم في المنطقة حتى الآن في أعقاب الحرب. هذه هي نقاط الانطلاق لخلق سلام دائم وباق.مصنع بريله اتضح لنا بعد وقت قصير من إقامة مركز بيريز للسلام عام 1996 مدى أهمية المشروعات لبناء السلام. وأدركنا أن من الأسهل إنشاء مشروعات من هذا القبيل من قبل منظمات غير حكومية والتي تتجاوز في عملها نظريات السلام البيروقراطية الصلبة التي تمارسها الحكومات. لقد كان مركز السلام بالنسبة لبيريز بمثابة نقطة انطلاق للإبداع والخيال الذي يتفرد بهما في كل ما يتعلق بالتعاون، وأطلقنا على المركز اسم «معمل أحلام بيريز». وبيريز هو صاحب أكثر التوجهات تطوراً وعمقاً وإنسانية في قضايا السلام، وهو يعمل دون كلل أو ملل على دفع نظريات سلام رئيسة ولامعة وعصرية إلى الأمام.وقد بدت بوادر معينة لتجسيد الأحلام في صورة خطة زراعية طورناها مع الفلسطينيين والمصريين والإسرائيليين، وبينما نحن عاكفون على بناء البنية الأساسية لمركزنا، قدم ثلاثة رجال أعمال إيطاليين إلى إسرائيل لمناقشة إمكانية تطوير برنامج تجريبي: زراعة القمح في صحارى الشرق الأوسط لصالح المعكرونة الإيطالية التي ينتجها مصنع (بريله) الدولي. وفي صيف 1996، اجتمع بيريز إبان تواجده في روما مع رجل أعمال ثري ولامع يناهز الأربعين من العمر والمعروف باسم: «ملك المعكرونة» دعا بيريز السيد بريله لزراعة وإنتاج القمح الذي يحتاج إليه مصنعه لإنتاج المعكرونة في الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي تتوافر فيها الشروط الملائمة لهذا الهدف ولإنتاج قمح بتكلفة قليلة، وبالاستعانة بخبير إسرائيلي من الدرجة الأولى، البروفيسور شموئيل بوهوريلس، دشنا مشروعاً لزراعة القمح في صحارى إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومصر. وفي إطار هذا المشروع، عقدنا اجتماعاً حضرته مجموعة خبراء من إسرائيل ومصر والفلسطينيين للاتفاق على إجراء أبحاث وعمليات تطوير للأرض، وأسعار المياه، والعناصر الأخرى المطلوبة لإنتاج القمح. ولم يكد يمضي عام بعد ذلك، حتى نما القمح في النقب الإسرائيلي ومنطقة جبل الخليل التابعة للسلطة الفلسطينية وأسيوط المصرية، والمعروفة بجماهيرها الأصولية، الذي قدم الخبز والمال والسلام. ورغم حقيقة أن الخطة التجريبية استمرت ثلاثة أعوام وإنتاجها من القمح كان قليلاً نسبياً، إلا أن المكاسب على صعيد بناء السلام كانت كبيرة، فقد شمل المشروع الذي أطلقنا عليه اسم «قمح في خدمة السلام» أهم المواد اللازمة لبناء السلام، والتي شملت: أبحاث مشتركة ومفاوضات وعمل زراعي وخبز تم إنتاجه في المنطقة، وشراكة مع مجتمع دولي، وهكذا سد المشروع احتياجات السلام والتطوير في المنطقة. لقد تم الاحتفال بالمشروع بمراسيم خيالية، فقد جمع الاحتفال بين الإسرائيليين والفلسطينيين والمصريين والسيد بريله، في النقب بين حقول القمح الهائلة والتي بدت كحلم خيالي وسط الصحراء. فالمناطق التي روتها الدماء ازدهرت في إطار مشروع مشترك بين ثلاث دول، والتي عملت على إنتاج الطعام الذي أسهم في بناء السلام أكثر بكثير مما قدمته حقول الألغام والحواجز الأمنية الأخرى التي تستخدم للحيلولة دون نشوب الحرب.