No Script

الرأي اليوم / ارفعوا أياديكم عن القضاء

No Image
تصغير
تكبير

بتعبير أهل القانون، لن نغوصَ في الدفوع الشكليّة والجوهريّة المتعلّقة بقانون مخاصمة القضاء، ففيها الكثير من التفنيدات والتقنيّات التي قد تحوّل الموضوع إلى مرافعة متخصّصة. إنما بتعبير الكويتيّين الحريصين على هذا الصرح الشامخ الخائفين على استقلاليّته نقول بالفم الملآن: ارفعوا أياديكم عن القضاء فهو حصن المؤسسات الحصين... إن اختلّ ركنٌ منه فعلى الدولة السّلام.
كنّا نراقب مسار النقاشات حول القانون وننتظر أعضاء السلطة الثالثة ليقولوا كلمتهم عنه فأهل بيت القضاء أدرى بشعابه. وهم حضّروا مذكرة شاملة تضمّنت الأسباب العلميّة والمقنعة لعدم موافقتهم على القانون وأهمها جملة الإخلالات التي حملها مثل أن القانون يخلّ بحصانة القاضي، ويدينه وعضو النيابة بتهم جنائية بغير الطريق الذي رسمه القانون، كما يخلّ بمبدأ حجّية الأحكام وتدرّجها، وقاعدة أن الحكم الصادر من محكمة أدنى يطعن عليه أمام محكمة أعلى... إلى آخر ما ورد في المذكرة.
باختصار، هذا القانون أشبه بمِعول هدم يضرب استقلالية القضاء ويضعف الثقة بالقضاة ويهزُّ مصداقيّتهم ويرسم ظلالاً مسبقة من الشكّ حول عملهم وقوة أحكامهم ونزاهة قراراتهم وتنزيهها عن الأهواء الشخصيّة.


القاضي هو الحَكم والفيصل بين متخاصمين، وضمانته قسَمه وضميره ومخافة الله وموجبات العدل وعلمه، ومن لا يمتلك هذه الضمانة ويعمل بهديها فلن يردعه قانون ولن يوقفه قرار.
نعم، القاضي بشر يصيب ويخطئ، ولذلك توجد درجات التقاضي الثلاث بين الحكم الابتدائي والاستئناف والتمييز، ولذلك يأخذ المتهم أو المشكو عليه وقته كاملاً في الاعتراض وتقديم الحُجج والدفوعات، ولذلك توجد مرافعات ونيابات ورأي عام يراقب، ولذلك توجد آليات كثيرة داخل الجسم القضائي لضمان النزاهة والمصداقيّة وتطهير التجاوزات وتصحيح الخطأ... لكن أن نفتح باب التشكيك والمخاصمة ونضع القاضي تحت ضغط معنوي قبل أن يبدأ عمله وتحت عنوان عام يحمل ألف تفسير (إذا وقعَ غشّ أو تدليس أو خطأ مهني جسيم) فهنا الطّامة الكُبرى.
وبتفسير مبسّط، يمكن بموجب القانون الجديد لأي شخص أن يخاصم قاضياً على حكم فيصبح القاضي نفسه في موقع الدفاع عن فعل قام به وهو يرى أنه صحيح فيما الشاكي يرى أنه يندرج في خانة «الخطأ المهني الجسيم». وقد ينتهي التحقيق إلى براءة القاضي لكن من يعوّض صورته التي جرحت معنوياً وسمعته التي أصابها ما أصابها والوقت الذي صرفه في هذه القضية وأبعده عن عمله؟ من يرفع عنه الضغط الذي تحمّله وهو ربّ أسرة ولديه مكانته الاجتماعية؟ هل يرد مثلاً على الشاكي بقضية تعويض وهل سيتحوّل القضاء إلى صرح للتجاذب في هذه المسائل؟
يجب ألا يفهم أحد على الإطلاق أننا ننزّه أيّ عامل في السلطة القضائية عن الخطأ، فهو موجود ومعروف وعولج وحكي عنه مرات كثيرة. ولا يفهم أحد أننا ضد مبدأ إحقاق الحقّ للمظلوم بأيّ وسيلة حتى ولو عبر ظلمه درجات التقاضي، أو أننا نقول إن للقاضي أسرة وسمعة ومكانة وليس للمظلوم أو المتضرّر أسرة وسمعة ومكانة، إنما طبيعة عمل القضاة تتطلّب حصانة مختلفة لدعم الثقة والتحرّر من أي ضغط مادي أو سياسي أو اجتماعي، والقضاة أنفسهم كتبوا عشرات المذكرات الداعية إلى تطوير الجسم القضائي وحتى إنصاف المتضرّر من خزينة الدولة أو عبر إدخال نظام تأميني كما يحصل في كل الدول التي وصلت إلى مصاف متقدمة في قوانين وأنظمة سلطاتها القضائية.
في قانون مخاصمة القضاء الذي أقرّ، الجميع حضر من وزراء ونواب لكن أهل البيت غابوا. أصحاب القضية لم يشاركوا بل وجدوا «محاكم» الحكومة والبرلمان تصدر الأحكام في مواضيع تتعلّق بصلب عملهم إن لم نقل في جوهر وجودهم. لم يقفوا على رأيهم حتى في قضية المخاصمة وتعويض المظلوم إن توافر الركن الخطأ. لم يتركوا لهم فرصة لشرح كيف أن الرقابة الداخليّة في الجهاز القضائي لها قوّتها التأديبيّة التي عزلت قضاة ومستشارين وأعضاء نيابة اعتبرت تصرفاتهم تجاوزات... ناهيك مجدّداً بأنّ مَن كان رادعه قسَمه وضميره ومخافة الله لا يخشى في الحقّ لومة لائم أو شكوى شاكٍ.
منذ عقود والسلطة القضائية في الكويت تعاني من السّهام والتكبيل والبيروقراطية و«التسييس»، ولنكن أكثر جرأة ونقول من الواسطات أحياناً في التوظيف ومن تدخّلات في التعيينات. منذ عقود ونحن نصحو على شكر هذا السياسي أو ذاك لـ «القضاء العادل الحرّ النزيه»، لأنه حكم في أمر لمصلحته ثم ننام ونصحو على السياسي نفسه وهو ينتقد حكماً آخر للقضاء لأنه ضدّ مصلحته، لتصبح الاستنسابيّة لاحقاً مع أحكام القضاء عامل ضغط معنوي كبير... ومع ذلك بقيت السلطة القضائية في الكويت قويّة قادرة متماسكة حامية للمؤسسات الأخرى، ولولاها لانهارت أمور كثيرة في مفاصل دقيقة من تاريخنا الحديث.
تريدون تكويت القضاء؟ لا تهزّوا ثقة القاضي بنفسه ولا ثقة الناس به. اتركوا القضاء لأهله وارفعوا أياديكم عنه وأطلقوا أياديه في التغيير والتقدّم وفق أحدث التجارب العالميّة، وابذلوا بعض الجهد لقراءة مذكّرات ومطالبات السلطة القضائية المتكرّرة المتعلقة بكل تفاصيل التطوير والتحصين بل حتى في ضرورات إحقاق الحق لمن يعتبر أن درجات التقاضي لم تنصفه وكيفية التعويض عليه.
أعيدوا القانون إلى بدايته لتعيدوا له حيثيّاته ومصداقيّته، واستمعوا إلى أهل بيت القضاء ولا تقرّروا عنهم، لأنه بالنسبة لهم قانون طعمه مرّ... ولن يمرّ.

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي